تعودت إسرائيل أن تحقق مشيئتها دائما، فهي دولة أقيمت على قاعدة إقناع شعوب الغرب بالمظالم التي تعرض لها اليهود تاريخيا لأنهم أقلية في العالم، وتوافقت مطالبهم في ظروف عالمية خاصة مع احتياجات بناء النظام الدولي الذي تشكل في ما بين حربين عالميتين، وأُمدت إسرائيل بقوة عسكرية تفوق قوة الدول المحيطة بها مجتمعة، واستمرت سياسيتها في الفعل والنفوذ بناء على هذه القاعدة طيلة ستة عقود سابقة، وعمل ساستها بنصيحة مؤسسيها "أن هزيمة إسرائيل الأولى هي نهايتها".
هذه النصيحة هي المعضلة التي لم تستطع حكومات إسرائيل الوثب فوقها، وأصبحت عبئا موروثا على هذه الدولة المقامة على عدم الانصياع للإرادة العقلانية الإنسانية، ولذلك أصبحت نصيحة الأجداد مقتل ساسة إسرائيل من حكومة إلى حكومة، منذ بداية الانتكاثات العسكرية الإسرائيلية مع إرادة القتال لدى مقاومين لا يملكون الكثير من السلاح لكنهم يملكون إرادتهم الحرة، وهذه قاعدة الانتصار لحركات التحرر. وهي قاعدة لا تستطيع أي قوة عسكرية نظامية مهما أوتيت من عتاد وقدرات وتكنولوجيا أن تتعامل معها، فالتكنولوجيا تقابل الإمكانيات المادية أما الإمكانيات المعنوية المتمثلة بالإرادة كيف تستطيع كسرها، إذا صمم المقاتل المقاول على الاستبسال حتى الشهادة.
وقد أثبتت تجارب الشعوب في المقاومة أنها منتصرة مهما طال الزمن، والحالة الوحيدة الشاذة عن هذه القاعدة هي تجربة الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي اقتبسها الإسرائيليون على أن تكون مثالهم في التحدي وإحلال الشعب اليهودي محل سكان أرض كنعان من الفلسطينيين.
وبالعودة إلى حرب تحرير لبنان التي دامت 23 عاما وتوجت بحرب التحرير في أيار 2000 نجد أن هذه الحرب شكلت بداية الأرق للساسة في إسرائيل، فقد شدوا ظهورهم بعدها إلى الجدار واستشعروا مخاطر لعنة نصيحة الأجداد التي ذكرناها، ولذلك بدءوا بالتراجع عن كل الخطوات التي خطها رئيس الحكومة، الذي تم اغتياله "اسحق رابين"، بشكل تدريجي حتى وصلوا في النهاية إلى تعطيل مسارات السلام وقتل كل إمكانية له. فعلى المسار السوري تنكروا لكل ما تم التوصل إليه مما أطلق عليه السوريون "وديعة رابين"، وعلى المسار الفلسطيني بدءوا بمعاقبة ياسر عرفات حتى انتهوا باغتياله بدم بارد في مقره في رام الله، واعتمدوا سياسة الإملاءات التي يعلمون أنها لن تفضي إلا إلى مزيد من الثورة، وأعدوا العدة للحرب على مستويات سياسية ودبلوماسية دولية وإقليمية من جانب وعسكرية من جانب آخر، فكانت حرب تموز 2006 بمثابة حرب إنقاذ لهم من لعنة إرث الأجداد.
لم تأتي مشيئة الوقائع كما أرادوها، بل أدت إلى غرقهم أكثر من ذي قبل ولم تنفعهم مساندة الحلفاء الدوليين والإقليميين، وتعرضوا لضربة مضاعفة زادت في مأزقهم، ولم يستطيعوا استيعاب الصدمة لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي، لكنهم استمروا في المضي في سياسة إرغام أنفسهم بنصيحة أجدادهم، واختاروا هذه المرة أن ينقضوا على من اعتقدوا أنهم الأضعف علهم يساعدون سطوتهم، وقد أغراهم حلفاؤهم المحليون مرة أخرى بالمساندة، وفعلا فعلها المعتدلون العرب، لكن القوة المفرطة لم تستطع تحقيق نصر حقيقي بعد 23 يوما من التدمير واستخدام كل أنواع الفتك والقتل على أصغر رقعة جغرافية وأكبر كثافة سكانية في العالم، ألا وهي غزة.
والآن هم محاصرون من قوتهم، فهي تأكلهم كما تأكل أرواح الأطفال والنساء والشيوخ المدنيين الذين يعانون منذ ثلاثة أعوام من حصار قاتل كاد يفتك بهم، لكنهم أبوا إلا أن يبقوا أحياء. إن صلف الجبار المتعجرف طبع مستديم في ضمير هذه الدولة المعسكرة لذلك فهي لا تتوانى عن استخدام الأسلحة حتى مع متضامنين مدنيين عزل كما فعلت مع أسطول الحرية، وستفعلها أكثر من مرة دون تفكير، لكنها ستهزم في النهاية أمام ثبات المتضامنين على عزمهم في تحطيم الحصار اللا إنساني. وبعد هذا كله ستنتصر غزة الصغيرة، على شمشون المتجبر، وإسرائيل بجبروت القوي الفتاك لا تريد الاعتراف بالفشل، وهي بحاجة لمن يرشدها أنها يوما بعد يوم تحصد هزائمها في العالم كله. فإذا أرادت المحافظة على شعبها آمنا، عليها أن تعود إلى حالة الرشد وأن تكف عن القتل الذي لن يزيد الشعوب المنتهكة إلا إصرار على المقاومة، وأن لا تحصر نفسها في أساطير الأجداد واستغلال الإمبرياليين، ولتترك اليهود يتعايشون مع الإنسانية الحقّة بعيدا عن الأسطورة.
التعليقات (0)