أعْدادُ الذين أصبحوا يجدون صعوبة في الاعتقاد بـ"الربيع العربي" في تزايد،وأعترف أني من بينهم...
قد نكون ضحيّة هجمة التشكيك الشرسة التي تصرّ على التدليل على أنّ أعراض الحمل كاذبة،مغشوشة ،مصطنعة،بل تحذّر من التداعيات الكارثية لتلك الأعراض،على أنها تمهد لوقوع الشعوب العربية فريسة بين مخالب الخواء والجدب والضحالة والإحباط،فضلا عمّا يخفيه لنا المهيمنون على العالم من مفاجآت،في كلّ الحالات،هي تضع مصالحهم فوق كلّ اعتبار.
أنْ تكون الشعوب العربية قد انتفضت احتجاجا على الحيف والنهب والظلم والقهر والقمع،فتلك مسألة لا مزايدة عليها.غير أنّ السبيل للتعافي من تلك الأورام الخبيثة أخذ منحى في المعالجة يؤول إلى تهييجها واستفحالها عوض استئصالها...
فجأة حوّلنا مصادر الثراء والتنوع في نسيج مجتمعاتنا وفي خصوصيات ثروات الطبيعة التي وهبنا الله إياها إلى أسباب توتر وتشنج وصراع...هكذا أنتجنا فيروسات قاتلة خرجت من قمقمها لتطلّ علينا بـ"الوباء الطائفي" بمسميات شتى مثل الجهوية والقبلية والإثنية...وبـ"الوباء الأيديولوجي " في صراع حادّ بين العلماني والديني وبين الديني والديني،وتحوّلت ذات الأوبئة الفتاكة إلى أعراض مخاض لذلك الحمل الذي لن يكون،والحال تلك،إلاّ حملا كاذبا نتج عن إفراز هرموني لحالة نفسانيّة قلقة منّت النفس طويلا بولادة جديدة لم تأتِ،ولعلها لن تأتي...
ادّعى الإسلام السياسي أنّه الأجدر والأقدر على تحمّل أعباء التناقضات المجتمعية وتبعات الانحرافات والإرث وتحديات القصور الحضاري المطروحة،فكان له ذلك بصعوده في تونس ومصر وليبيا إلى موقع سلطة القرار،وصعوده كان مبرّرا لكونه أثبت أنه إسلام احتجاجي ومقاوم للسلطة المتسلطة ولكون قادته لم "ينقضوا وضوءهم" بممارسة سلطة القرار منذ الاستقلال،على الأقلّ،أي أنهم لم يسبق أن لوّثتهم أدران السلطة،وبالتالي لم تعبث بعذريتهم...حدث ما يشبه ذلك إبان مقاومة الاستعمار الأجنبي حين استطاعت الهوية العربية الإسلامية أن تكون مُحفّزا فاعلا لتلك المقاومة بالتشديد على أنّ العدوّ كافر وأنّ الإسلام مستهدف وأنّ الجهاد في سبيل الله فرض،إلاّ أنّ السلطة لم تكن من نصيب الإسلاميين بعد الاستقلال،لذلك تمكنوا من الاستفادة من أخطاء المستبدين من العلمانيين والقوميين والاشتراكيين الذين فضّت غوايةُ السلطان بكارتهم وأجهزت ممارساتهم المتهوّرة للحكم على نضارتهم وبريق شعاراتهم البرّاقة...
فجأة، استفاقت الشعوب العربية على أنها مجرورة جرّا إلى غير ما كانت تنشد من كرامة وحرية ورغدِ عيش،أصبح المطلوب منها أن تحسم فيما كانت تعتقد أنه محسوم بالفطرة والإرث والاقتناع ألا وهي هويّتها الإسلامية،والحال أنّ ذات الهوية تسكن الوجدان الشعبي في توهج دائم وتملأ الفضاء العربي عبقا يرتاح لعطره المسلم وغير المسلم وتجنح في سموّ رسالتها إلى معانقة القيم الكونية الخالدة التي تنحاز لتحرير الإنسان من القيود المكبّلة لإرادته الحرّة وترقى به إلى الاعتقاد أنّ الله استخلفه في الأرض ليُحوِّلها(الإنسان) إلى جنّة حياته الفانية بتأثيثها بكلّ ما هو جميل وبديع وراق ومؤنس ورحيم ولطيف وناعم وسخي وكريم ومعطاء وشاحذ للهمم وموقد لقبس الفكر،وبتنقيتها من كلّ سموم التباغض والكراهية والحقد والقمع والنهب والاستكبار والقبح والنميمة والرياء وإعاقة الفكر عن الإبداع الحضاري "حتى إذا تعلقت الهمة بما وراء العرش"...
المؤسف أنّ مدار الحوار ضلّ طريقه لينحو منحى مصادرة الحوار بل اغتياله،ولعلّ ذلك بسبب ندوب الزمن الغائرة في الكيان العربي من فرط الاستسلام للقائد الأوحد والأمين الأوحد والفقيه الأوحد...
الموجة الجديدة التي نرقص على وقع طبولها،اليوم،هي تبشر بمشروع إسلامي بديل لكلّ تلك المشاريع الكثيرة المتلاحقة التي تجرّعنا مرارتها بعد أن كانت أعراضا لولادة كاذبة ثبت بطلانها من خلال فجائعها وضحالة عطائها.والخطير في الموجة الجديدة التي نغازلها ونعلّق عليها آمالنا وأحلامنا أنّها تتعامل مع العقيدة الدينية بوصفها كلّ ما تبقّى لنا من مناعةٍ لوجودنا،وبوصفها تحوز على وصفة معالجة قصورنا الحضاري بالوعد أن المشروع الإسلامي هو الحلّ...
ليس الأمر شبيها بخيباتنا في التعامل مع القومية والليبرالية والاشتراكية،إذ أننا بصدد التعاطي العقيدة الدينية لتحميلها وزر رغباتنا على الأرض،واليوم قبل الغد...أيْ أنّ الارتجال والحماقة والتوظيف الانتهازي في إدارة الشأن الحياتي بمظلّة الإسلام يؤول إلى وضع كارثي غير مسبوق لأنه تلاعب بالمقدّس لدى المسلمين الذين لم يبق لهم من أمل في إدراك متع الحياة الدنيا غير الانخراط في مشروع يغازل عقيدتهم الدينية...
من ثمّة ننبّه القائمين على المشروع الإسلامي في دول الثورات العربية أن يعوا حجم التحدّيات المطرحة والآمال الكبيرة المعلّقة عليهم...نُنَبّه إلى أنّ المطروح عليهم ليس تدبّر شأن المسلم مع خالقه،فذلك شأن متفق على أنه لا يتمّ عن طريق وسيط أو هو شأن آخر غير الذي تراهن عليه الشعوب في وجع همها اليومي وتوقها إلى التفوّق الحضاري...المطروح عليهم هو إثبات أنّ المشروع الإسلامي المبشَّر به ينسجم مع القيم الكونية الخالدة التي تفضي إلى شعور الإنسان بإنسانيته وكرامته وتحرّر عقله ولسانه ووجدانه من كلّ قيد يعوقه عن الإبداع والانخراط في حركة التاريخ كما فرضها الحاضر لا الماضي ولا التراث...المشروع الإسلامي الذي لا ينحرف بنا إلى كوارث أشدّ هولا من خيبات الماضي هو الذي يعترض على فكر وسلوك يتحوّل فيه الدين الإسلامي إلى ديانات لكلّ لها مشروع يحارب الآخر بشراسة وبدائية وجاهلية،بل هو الذي ينأى عن ذلك إلى تلمّس الإبداع في المشترك بين المسلمين فيما بينهم وبين المسلم وغير المسلم في أيّ مكان من العالم..
ما نراه،اليوم،من إفرازات يبدو غير مطمئن ومُعِيقٍ للمشروع الإسلامي لأنّه يُجادل في علاقة الإنسان بخالقه لا في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان،بل أولى باكوراته كانت جدلا يؤسس للأحقاد بين سلفي وجهادي وإخواني وعلماني...داخل حدود الوطن الواحد،بل إنه ليثير سخرية الآخرين حين نروّج له في أشكال من مظاهر التدين المتباينة،وأحيانا الفلكلورية على أنها جوهر المشروع الإسلامي،والحال أنّ المشروع المنشود هو معالجة آفة البطالة والفقر والتهميش والصعلكة على هامش المدنية الحديثة التي نتهافت على ثمارها بنهم ولا نسهم في إثرائها إلا بثروات طبيعتنا المعطاء والتي لا دخل للعقل العربي في إنتاجها...
ظلّ الصّراع المفتعَل المضلِّل يُراوح مكانه منذ قرون خلت مُصرًّا في مكابرة وعناد على أنّ القضيّة الجوهريّة في تخلف العرب هي عدم الاتفاق حول"نواقض الوضوء"،أي أننا لا نختلف حول قواعد الوضوء إنما نتصارع نتيجة الخلاف حول نواقضه،نضع قواعد الحرام لنمنع الحلال،نكفّر لنضع قيودا على الحرّيات،نعتبرالحلال استثناء والتحريم قاعدة: كلّ موجات التمدّن التي رمنا الانخراط فيها أخضعناها لصراع عدمي مأتاه التّشدّد في"نواقض الوضوء" والخلاف بشأنها...هكذا كان شأننا في التعاطي مع الاشتراكية والليبرالية والقومية والعلمانية،نتعامل مع جميعها فارضين عليها المحرّمات السالبة للحرّيّات لأنّ الحرّية نعتبرها تنفُّس أمعاء تنقض الوضوء...
ترى هل نصرّ على إعادة إنتاج إعاقتنا الحضارية ؟
التعليقات (0)