انتشرت في الاونة الأخيرة بكثير من المدن المغربية عدة مهن تدخل عادة في نطاق ما يسمى بالقطاع غير المهيكل، أو غير المقنن إن أردنا إسما قريبا من الواقع ،ومن بين هذه المهن المستحدثة التي أصبح يزاولها الكثير خصوصا في المدار الحضري، نجد حراسة السيارات، وهي مهنة لا تحتاج لتكوين ولا مستوى دراسي لإتقانها ، إذ يكفي العثور على مكان ملائم، والتحلي بالقدر الأدنى من الجرأة لتحمل مسؤلية مراقبة السيارات والشاحنات بأنواعها.
وإذا كان النهار يمر سلاما في غالب الأحيان ، فإن الخطورة كلها في العمل الليلي ، فالعديد من المشتغلين بهذا المجال يشتكون من صعوبة العمل ليلا، ولذلك أسباب عدة ،وللتقرب أكثر من أجواء عملهم فقد قمنا بهذا الإستطلاع الذي يهدف لتسليط الضوء على ظروف وإكراهات مهنة، أصبحت في زمن معطلة عقاربه، مهنة من لا مهنة له..
بطالة مقنعة :
كما قلنا في البداية فإن مهنة حارس سيارات لا تحتاج لأي تكوين دراسي، وربما كانت من بين المهن القليلة التي لا تشترط الباكالوريا كحد أدنى لمزاولتها ، لذلك أصبحت تستقطب فئات من الشباب العاطل ، فيكفي التوفر على بنية جسدية قوية وإلمام بمنغصات الليل وتقلباته للنجاح في أداء المهمة على أحسن ما يرام ، يقول حميد ، حارس ليلي بموقف سيارات ،" بعد خروجي من السجن لم أجد ملاذا يقيني جحيم البطالة ونظرة المجتمع السوداوية ، لذلك التجأت إلى هذه المهنة" ، ثم يضيف "هنا أقضي أزيد من اثنتي عشرة ساعة ، أنام نهارا وما إن أستيقظ حتى أجدني في هذا الموقف، ولا أتخيل نفسي قط بعيدا عنه، فهو مورد عيشي الوحيد "
حميد إضافة إلى ما يحصل عليه من حراسة السيارات فإنه يبيع السجائر بالتقسيط، الأمر الذي يرفع من دخله الصباحي، ويمكنه من إعالة أسرته الصغيرة ، يقول " خلال فصل الصيف، أحصل في بعض الليالي على ثلاثمئة درهم صافية ، لكن الأمر ليس كذلك دائما ، فالليلة ما قبل الماضية بالكاد جمعت خمسين درهما ، وأسرتي لا معيل لها سواي".
في هذه المهنة لاشيء مضمون ، ولا يقتصر الأمر على الدخل المادي ، بل يتعداه إلى السلامة النفسية والجسدية ، يقول سعيد –ش ، حارس موقف سيارات "غادرت حجرات المدرسة مبكرا في حدود السنة الأولى إعدادي بسبب الشغب ، وقضيت سنة في إحدى الإصلاحيات ثم اشتغلت بعدد من الحرف قبل أن أمتهن حراسة السيارات " ، سعيد كان يحاول جاهدا تغطية جرح قديم غائر ينتصب في خده الأيسر ، لكن عند سؤاله عن مخاطر هذه المهنة فإنه لم يجد بدا من القول" لولا المصروف اليومي الذي يغنيني من استجداء الوالدين والأقارب لما مكثت هنا ليلة واحدة..لقد كلفتني هذه المهنة الكثير ، أنظر ،- أشار إلى الجرح- ، حدث هذا قبل سنتين، بعد معركة ضارية مع سكيرين أرادا أخذ علب السجائر التي أبيعها.." ثم أعقب " نمط الحياة الذي فتحت عليه عيني جعل الأفاق محدودة أمامي حيث لا مفر من البطالة ، من سيعوضني الان في وجهي..؟"
تركت سعيد بعدما شكرته على تعاونه . اقتنعت مرة أخرى أن البطالة أصل كل الشرور ، واتجهت صوب موقف اخر يحرسه شخص بدا أنه في عقده الخامس أو أقل بقليل ، يجلس فوق كرسي متوسط الجودة ، قربه كلب من نوع البيتبول باسط ذراعيه ، تحيط بهما سيارات من كل الأنواع ، طلبت منه رأيه فلم يمانع ، قال أن إسمه مصطفى ، متقاعد من الجيش ، قال أنه اضطر لمزاولة هذه المهنة لإنعاش دخله الهزيل "أبنائي خمسة، اثنان عاطلان أعيلهما ، والثلاثة الاخرون لازالوا يدرسون ، وأنا من يتكلف بمصاريف تعليمهم " مصطفى لازال رغم السنوات الخمسين يحتفظ ببنيته القوية وسترته العسكرية الخضراء، وربما أراد أن يفرض احترام الاخرين فأتمم العدة بكلب البيتبول المفترس" الليل لا أحد يدري ما قد يحمله، والقوة الجسدية وحدها لا تكفي، لذلك أستعين بهذا الكلب إضافة إلى عصا وخنجر، رغم أن لصوص السيارات يعرفون شغلهم جيدا وهم دائما يطورون عتادهم وطرق السطو التي يعتمدونها"
ومن يسمع كلام مصطفى سيظن بلا شك أن العراك الدامي جزء من هذه المهنة ، وهذا ما أكده في موضع اخر من حديثه لما قال " الليل لا يحمل عادة إلى المفاجات غير السارة ، إما سكارى أو بوليس أو لصوص..، وهي عناصر لا أرتاح لها مطلقا".
عيون لا تنام :
في موقف اخر وجدنا سيارة الشرطة على بعد أمتار من موقع جلوس صاحب الموقف ، كان يتحدث إلى رجلي أمن بصوت خفيض ، بعدما مضيا فجر غضبه بصوت مسموع " فليذبوا إلى الجحيم ، انا لست عميلا لأحد وهذا الموقف لي شاءوا أم أبوا.." سأله أحد أصدقائه عن الذي الأمر الذي أتوا لأجله فأجفل " لست أدري، يريدونني أن أكون عميلا لهم، أزودهم بأخبار عن عناصر مشبوهة يبحثون عنها.." ولأن الجو كان مكفهرا حيث أصوات السكارى تتناهى من بعيد وصاحب الموقف في فورة غضبه، فقد قررت العودة بعدما اشتريت منه أعمدة سجائر ، صديقه مضى من نفس الطريق فقررت ان اتجاذب معه أطراف الحديث ، سألته عن سبب غضبه فأجاب " هل صدقت غضبه؟ أقسم أنه أخبر رجلي الأمن بكل ما يريدون معرفته، بل قد يكون أضاف من عنده أكثر مما سألوه عنه ،بسببه اعتقل الكثير من أبناء الحي وهو يصرخ خوفا من عاقبة أن يعلموا بما أخبر به رجال الشرطة " ، سألته إن كان من المفروض عليه أن يعمل لصالحهم فابتسم قبل أن يجيب " من يدري ، إن لم يتعاون معهم فقد يدبرون له مكيدة وربما ضاع منه الموقف"
في هذه الحالة يكون أرباب مواقف السيارات بين نارين ، السكارى والمبحوث عنهم من جهة ، والشرطة ورجالها من جهة أخرى ، لكنهم في الغالب يفضلون التعامل مع الأمن رغم ما قد يحمله إليهم ذلك من مضايقات .لكن لا مفر ، وهذا الزمن اضحت فيه لقمة العيش صعبة ، مما جعل الليل في بعض الأحياء الشعبية ينبض حياة لكائنات اختارت أن تتشبه فلم تجد أمامها سوى جنس الخفافيش.
كائنات ليلية :
في موقف سيارات اخر بحي شعبي وجدت نفرا من الشباب مجتمعين حول مجمر وضعوا فوقه طاجينا يغلي بفعل احتراق الفحم من تحته ، تنبعث من بخاره رائحة زكية تنفتح لها الشهية في مثل هذه الليالي الباردة ، بعد التحية شممت رائحة الحشيش ، سألت عن صاحب الموقف فانبرى أحدهم قائلا أنه ذهب ليحضر علب السجائر، فاغتمنت الفرصة لمحاولة الحصول على أسرار تلك الجلسة ، وكانت الإجابة كما توقعتها ، "ننام نهارا إلى ما بعد الظهيرة ثم نستيقظ وننتشر لنتدبر ما يلزم من مصاريف الإدمان ، وحين يجن الليل نجتمع هنا" . رفع أحدهم الغطاء عن الطاجين ثم تذوق المرق بملعقة وأعاد الغطاء قائلا ليس بعد ، تناوبوا على ارتشاف السيجارة المخدرة واسترسلوا في الحديث ، عن كرة القدم، قال كل رأيه في فريق أو لاعب ما دون نظا م، فلم يسمع أحد ما قاله الاخر ، لمحوا شخصا قادما من بعيد فحاولوا معرفة هويته ، عندما عرفوا أنه صاحب الموقف قال أحدهم " إنه قادم " فأشرت برأسي، وبكلمات مقتضبة، أن لا مشكل في الإنتظار ، سألت عن سبب تفضيلهم لهذا الموقف فأجاب أحدهم، وكان أثر قربا مني :" صلاح راجل ، لولا ذلك لما وجدتنا هنا ، بفضلنا لا أحد يقترب منه، لأننا نشكل عصبة متراصة، بدوره يوفر لنا ملاذا نكسر فيه الفراغ القاتل، كما أننا ندخن الحشيش هنا بكل حرية لأن صلاح له علاقة وطيدة مع الشرطة " ، ابتسمت وشكرتهم وقلت أن كل ذلك جيد إلى أن وصل "صلاح " ،اشتريت منه ثلاث سجائر ثم ودعتهم متمنيا لهم جميعا شهية طيبة.
ليل الحوادث :
لقد كان حراس مواقف السيارات على الدوام عرضة لحوادث قد تكون مميتة في بعض الأحيان ، وقد استقينا العديد من القصص التي كان الضحية فيها حارس سيارات ، أحدهم حاول أن يقاوم عصابة لوحده فانهالوا عليه ضربا إلى أن سقط مغشيا عليه ،في الصباح وجد ميتا مكبلا إلى كرسيه ، اخرون كثر لقوا نفس المصير ، وما يحز في أنفس هؤلاء أن حياتهم قد تذهب لقاء خمسة أو عشرة دراهم ثمن حمايتهم لسيارت الاخرين، بما يفرضه عليهم ذلك من يقظة واستعداد للقتال، بينما صاحب السيارة نائم ملء جفنيه ، وإن حدث وسرقت سيارة ولم يصب الحارس بأذى ، فإنه يكون موضع شك ، إما لكونه سهل على اللصوص المأمورية ، أو لأنه تخاذل في حماية الأمانة بدليل أنه لم يصب بجرح يدل على مقاومته للصوص، أما في حالة حدوث العكس، فإنه لا يجد في جنبه أحد ، لأنه يعمل لنفسه بدون ضمانات ولا تأمين ولاهم يحزنون ، والقصص هنا كثيرة إحداها تلك التي رواها مصطفى، وتعود إلى بداية عهده بهذه المهنة، فقد كان كما العادة "جالسا أنتظر نهاية الليل بصبر مضطرب، إلى أن هاجمني ثلاثة خيروني بين الصمت والسلامة أو المقاومة والندامة، فاخترت الحل الأول، بعدما تذكرت مسؤولياتي الأسرية الجسيمة ، ثم إن أغلب أصحاب السيارات الذين أتعامل معهم هم أشخاص متعجرفون يتملصون أحيانا من أداء خمسة دراهم، فهل هؤلاء يستحقون أن يجازف المرء بحياته لأجلهم؟ أخذ اللصوص السيارة التي أرادوها، والواجب هو الذي قمت به لما أخبرت الشرطة بما حدث فقاموا بشغلهم ، عندما علم صاحب السيارة بما جرى استشاط غضبا ، فذكرته بأنواع الأسلحة التي هوجمت بها وسألته عما سيفعله لو أنه كان مكاني، ثم ذكرته أنه لم يؤد واجب سبع ليال، وعندما صعد من لهجته، صرخت في وجهه ،كأي عسكري سابق يشعر بالإهانة، وشتمت فيه وفي من أنجبه، وأخبرته أني لست عبدا له..".
محمد الشاوي / الخميسات.
التعليقات (0)