ليس عيباً أن تقتدي الدوحة بمسار دبي الثقافية
لماذا يعاد طبع مجلات ثقافية قديمة بينما يتعثر الجديد؟
بقلم حسن توفيق
كان التلاميذ قديما يستخدمون الدواة وقلم الحبر أو الريشة وكان الأدباء والكتاب يكتبون مؤلفاتهم بأيديهم أو بأيدي من يعهدون إليهم بهذه المهمة، وتعرف هذه المؤلفات بأنها مخطوطات ولكن قبل هؤلاء بقرون من الزمان كانت الحضارات القديمة تعتمد في تسجيل منجزاتها بصورة عامة عن النقوش التي لا تزال باقية إلي يومنا هذا، ولهذا كان كثيرون منا يرددون التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. هذا ما كان، أما فيما يتعلق بما نعيشه ونشهده الآن، فإن الفارق يبدو كبيراً ومثيراً للدهشة والانبهار، فالتلاميذ الآن يستخدمون الكمبيوتر ومنهم كثيرون يتفوقون في استخدامه على الكبار، وفقدالحمام الزاجل وظيفته التي كان يؤديها، بعد أن أصبحت الرسائل تنتقل في لحظات من قارة إلى سواها من خلال الموبيل والإيميل ولم يعد الأدباء والكتاب يكتبون بأيديهم،
ولم يعد أحد منا يردد قول طرفة بن العبد العظيم : ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأنباء من لم تزود؛ فالأقمار الصناعية تنقل الأنباء لحظة وقوعها والقنوات الفضائية تنقل مجريات ووقائع الحروب التي تشتعل بمجرد اشتعالها و على الهواء مباشرة، كما أن القارئ اليوم في عالمنا العربي لم يعد امتداداً للقارىء القديم، وهناك تراجع مرعب للكتاب المطبوع، خاصة إذا كان جادا.
فىالدول العربية الفقيرة يهتم الناس بتدبير أمورهم الحياتية، وهذا ما يبعد كثيرين منهم عن شراء الكتاب بصورة عامة، وفي الدول العربية الغنية يهتم الناس بمغريات الحياة وباقتناء المزيد من وسائل الترف والرفاهية، وهذا ما يبعد كثيرين منهم عن الاهتمام بأمر الكتاب، وقد نفاجأ أحيانا بأن كتبا استثنائية قد حققت أرقام توزيع مذهلة، وما ذلك الا لأن هذه الكتب تتناول فضائح سياسية أو اجتماعية أو جنسية? وماذا عن المجلة الثقافية؟ فيما مضى، شكلت مجلات ثقافية بعينها تيارات من الوعي، برزت من خلالها مواهب عديدة، كما تربت عليها أجيال عربية متعددة ومتعاقبة المثال الساطع هنا هو مجلة ?الرسالة? التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات أسبوعيا وعلى امتداد عشرين سنة من 1933 حتى 1953 ، فعلى سبيل المثال يذكر بدر شاكر السياب انه كان يتوجه كل أسبوع إلى محطة القطار في البصرة لكي يرتوي من ينابيع الثقافة، متمثلة في اقتنائه للعدد الجديد من ?الرسالة? وهناك روايات بهذا المعنى ذكرها أدباء عرب في أقطار عربية عديدة، تؤكد أن بدر شاكر السياب لم يكن استثناء?
وفيما يتعلق بازدهار الشعر العربي الرومانسي منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، فإننا نتذكر اثر مجلة ابولو التي كان يصدرها الدكتور أحمد زكي أبو شادي في ذلك الازدهار، ويكفي أن أبا القاسم الشابي قد عرفه العالم العربي وهو في تونس من خلال ما نشره من قصائد متنوعة في أبولو التي اهتم بأن ينشر فيها سواه ومن بينهم محمد مهدي الجواهري وعدد من شعراء المهجر أما ازدهار الشعر الحر في الساحة الثقافية العربية، فإن الفضل فيه يرجع إلى مجلة الآداب البيروتية التي كان يصدرها الدكتور سهيل إدريس، فعلى صفحات تلك المجلة خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين نشر رواد الشعر الحر قصائدهم، في الوقت الذي لم تكن خلاله المؤسسات الثقافية الرسمية تعترف بهم وبما يبدعونه، لهذا لم يكن عجيبا أن تقوم الدكتورة سعاد الصباح، وعلى نفقتها الشخصية، بإعادة طبع أعداد مجلة الرسالة كاملة أي على امتداد عشرين سنة، ومن قبلها قام الدكتور محمد يوسف نجم بإعادة طبع مجلة أبولو كاملة.
و فعلت الهيئة العامة المصرية للكتاب الشيء نفسه فيما بعد، وفي يناير سنة 1976 انطلقت مجلة الدوحة مبتعدة عن قوقعتها المحلية التي كانت تتحصن داخلها، حيث انفتحت برئاسة الدكتور محمد إبراهيم الشوش لتحريرها لكي تصبح ملتقى الإبداع العربي والثقافة الإنسانية وفي يناير سنة 1981 أصبح الكاتب الكبير رجاء النقاش رئيسا لتحريرها، فتحققت لها انطلاقة أكبر في كل أرجاء عالمنا العربي، لدرجة أن أرقام توزيعها في نهاية سنة 1982 وحدها بلغت حوالي مائة ألف نسخة و حين احتجبت مجلة الدوحة تحسر كثيرون عليها، وتعالت الأصوات في قطر وخارجها مطالبة بضرورة إعادتها إلي النور والى الصدور من جديد، وهذا ما تحقق بالفعل.
عادت الدوحة بعد أن كان القراء القدامى قد بحثوا لأنفسهم عن مجلات ثقافية أخرى بديلة، وأصبح يتعين علىالدوحة لا مجرد أن تستعيد قارئها القديم، وإنما أن تتوجه إلى القارئ الجديد، وهو كما قلت إما من مواطني الدول العربية الفقيرة أو الغنية ومعظمهم قد ابتعد عن القراءة لأسباب مختلفة، والسؤال الآن هل استطاعت الدوحة بالفعل أن تتوجه إلى هذا القارئ الجديد، وأن تجذبه إليها؟ وهنك بالطبع مثال ساطع لما استطاعت مجلة ثقافية عربية أن تجذب إليها قراء كثيرين على امتداد الساحة العربية كلها.
هذا المثال هو مجلة ?دبي الثقافية? التي يرأس تحريرها سيف محمد المري، وقد صدرت هذه المجلة منذ خمس سنوات لا أكثر، والعدد الجديد منها عدد مارس 2009 هو العدد السادس والأربعون، وإذا كانت دبي الثقافية قد استكتبت أسماء عربية لامعة، فإنها تقدم مكافآت سخية حتى للكتاب الجدد الذين تنشر لهم، كما أن إخراجها الفني الجميل يحقق لها ما يحققه من الجاذبية للقارىء الجديد، وفضلا عن هذا وهو المهم فإن دبي الثقافية أصبحت تقدم إصدارات أدبية وثقافية بالمجان مع كل عدد جديد، وعلى سبيل المثال، فإنها أصدرت كتاب مقالات رجاء النقاش في دبي الثقافية وكتابمدارات في الثقافة والأدب للدكتور عبد العزيز المقالح، أما أحدث إصداراتها فيتمثل في رواية جديدة للكاتب الكبير إبراهيم الكوني، وهي بعنوان ?من أنت أيها الملاك؟? وكل هذه الإصدارات كما قلت تقدم بالمجان مع كل عدد جديد، وبالطبع فإن المجلة لم تفكر في الخسائر المادية الكبيرة وهي تقدم بالمجان هذه الإبداعات والإصدارات الأدبية، لأنها تدرك أهمية اجتذاب القارئ العربي القديم والجديد على حد سواء لاقتنائها وقراءة ما يروق له من موادها المتنوعة
هذه المواد تقدمها المجلة بصورة جذابة وخلابة وهنا أتوجه إلى الكاتب الجاد وعاشق لغتنا العربية والحريص على مقاومة المسخ الذي تتعرض له هويتنا الثقافية الدكتور حمد عبد العزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والتراث فى قطر ، لكي يتحقق لمجلة الدوحة في عهدها الجديد أن تجتذب القارئ العربي الجديد، بل إني أغامر بالقول أنه ليس عيبا أن تقتدي الدوحة بمسار دبي الثقافية فيما تقدمه بالمجان من إبداعات أدبية، ويمكن في هذه الحالة أن تكون إبداعات متوازنة بمعنى أن تضم إبداعات قطرية وعربية وعالمية وأتمنى أن يتحقق هذا على يد رئيس تحريرها الجديد الدكتور على الكبيسى ..
أن قطر تتهيأ وتستعد لأن تكون سنة 2010 عاصمة للثقافة العربية وبصورة عامة، علينا أن نتساءل لماذا يعاد طبع مجلات ثقافية قديمة، بينما يتعثر الجديد من تلك المجلات، وهناك أمثلة عديدة على هذا في الساحة الثقافية العربية، أما المجلات الجديدة التي لم تتعثر ومن بينها بالطبع دبي الثقافية فإنها أدركت ضرورة أن تهتم بالقارئ العربي الجديد وأن تجذبه إليها رغم شواغل العيش أو وسائل الترف والرفاهية وسائر المغريات
التعليقات (0)