فترات الاستبداد عبر تاريخ البشرية كانت هي السائدة. في حين كانت فترات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان محدودة زمانا ومكانا ومحتوى, كواحات ضيقة في صحارى واسعة, أو كاعتدال الربيع المؤقت, الذي لا يعود دوريا وحتميا كما تفرض قوانين الطبيعة, أمام تقلب بقية الفصول, بلهيب صيفها وصقيع وتجمد شتائها, وشجن وكآبة خريفها.
الثورات, بمعناها الواسع, ليست بنات اليوم. بدأت مع بداية الإنسانية. في كل مرة يُذل فيها الإنسان وتُنتهك حقوقه وكرامته ويُهان، يقوم بتمرد أو احتجاج أو ثورة. يزداد ذلك حدة واتساعا وعنفا مع ازدياد التعسف في استغلال واستعمال السلطة, وخاصة في النظم والتركيبات السياسية التي تُؤسس وتُبنى على الأفكار الغيبية, والعقائد والاستغلال السياسي للدين وادعاء امتلاك كل الحقيقة, أو على أفكار وضعية كالنظريات المطلقة وإلايديولوجيات المدعية بدورها امتلاك الحقيقة ورفض الآخر. يزيد في ذلك طبيعة التنظيم السياسي الذي يركز كليا السلطة في أيدي نخب قليلة والتفرد بها, وما ينتج عنه من دكتاتوريات مطلقة ورؤى شمولية تعمل وتحكم كما لو أنها قائدة ومالكة للمجتمع والدولة. وعليه يصبح إقصاء الشعوب عن الحياة السياسية, بمفهومها الواسع, ليس فقط مفهوما إيديولوجيا وإنما كذلك ضرورة تنظيمية وآلية حكم. وعنه ينتج بشكل طبيعي الانتهاك الخطير لحقوق الآخرين وحرياتهم ومعتقداتهم, ومنها حقهم في تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات المهنية المنتخبة بحرية, وتكوين جمعيات المجتمع المدني بأنواعها, كما تُجرّم وتُلاحق بوليسيا وقضائيا المطالبات بالإصلاح والتغيير في هذا المجال, وتُعتبر هذا من أعمال الخيانة و"إضعاف روح الأمة وإيهان نفسيتها", ومساس خطير بالوحدة الوطنية !!!.
كما تزاد الاحتجاجات والثورات مع ترسخ الطغيان والاستبداد, و تغول الدولة الأمنية القمعية, وما توفره لها الوسائل والأدوات الحديثة من رقابة وضبط وإحصاء للأنفاس, وملاحقة لكل نشاطات الأفراد والجماعات والمؤسسات, وتحويل غالبية ذلك إلى جزء من الآليات القمعية معترف بها ومسلم باستخدامها, وكأنها أصبحت أعرافا قمعية مبررة دخلت الضمير الجمعي, وحقا غير مجادل فيه لردع كل ما يمس بالنظام العام القائم, وينال من الممانعة, والوحدة الوطنية الغالية جدا على قلب النظام, حتى ولو كانت وحدة غير سليمة البناء والهدف, قائمة على التخويف والإرهاب والقمع. وحدة بالمفاهيم والمعايير التي يراها النظام ومنظروه وكل الناطقين باسمه, بتكليف أو دون تكليف. يدافع عنها كذلك, ضمن هذه المفاهيم والمعايير, حتى المستقدمون من دول مجاورة, جزاهم الله عنا خيرا, ليشرحوا لمواطنينا مفهوم الوحدة الوطنية !!! التي لا معنى ولا وجود لها في أرضهم غير العزيزة جدا على قلوبهم!!!.
مع إغلاق كل المنافذ التي يمكن أن تُفتح على إصلاحات حقيقية في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية, لم يعد هناك من مخرج إلا الانتفاضات والاحتجاجات والثورات بالأثمان العالية المدفوعة من حريات وحياة الشعوب.
في كل مرة يثور فيها المظلومون والمضطهدون المطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية, يوصفون بأنهم متمردون وعصابات, أو قطاع طرق, أو مندسون, أو متآمرون, أو غوغائيون, أو خارجون عن القانون و النظام العام القائم, أو أعداء للاستقرار والأمن والقيم السائدة التي أفرزها وفرضها واقع الاستبداد والفساد.. ويبقى هؤلاء في حالة فشل حركاتهم أو ثوراتهم تحت هذه الصفات عصابات, متمردون, مندسون, خونة.. . غير أنهم يصبحون ثوارا وبُناة دول وأنظمة وحملة مشاريع سياسة واجتماعية واقتصادية جديدة حين نجاح حركاتهم أو ثوراتهم.
وكم قام المغامرون العسكريون ــ الذين تحكموا بمصير شعوبنا ورسموه حسب مفاهيمهم وأهوائهم ومصالحهم, وحرفوه عن المسار الطبيعي الذي كان يجب أن يسير فيه, فحصدت وتحصد تلك الشعوب النتائج المأسوية التي ترتبت على ذلك ــ بصراعات مسلحة فيما بينهم للاستيلاء على السلطة والاستئثار بها, ومن حُسمت الأمور لصالحه بالانقلاب على نظام فاسد سابق عليه, قام بدوره ببناء نظام مشابه في فساده, إن لم يكن أكثر فسادا واستبدادا من سابقه. وهكذا "يذهب ديك ويأتي ديك, والاستبداد هو الاستبداد" (رحم الله نزار القباني شاعر العرب لكل الأزمان)٠انقلابات العسكر هذه كانت تنتحل لنفسها لقب ثورات أو حركات تصحيحية, أو إصلاحات وطنية, أو قومية, لإعادة الوطنية للوطن والمواطن, والروح القومية للأمة من المحيط إلى الخليج. وغير ذلك من شعارات ليس اقلها المناداة بالتحرير الكامل والشامل لفلسطين !!!.
الشعوب الحية حين تثور تثور من اجل استعادة الحرية المغتصبة, أيها السادة, من أجل بناء الأوطان وكرامة وحقوق الإنسان, ليس لصناعة الطغاة أو لتبديل مستبد وطاغية بمستبد وطاغية, أو ديك ارعن بديك أكثر رعونة, ولا تثبيتا وتكريما لمستبد أو طاغية ـ إن كان بالإمكان التمييز الدقيق بين الاستبداد والطغيان ـ . لم يهتف شعب واحد هتافا صادقا وبالإرادة الحرة لمضطهديه. قد يهتف لهم بعض ألأزلام والمنتفعين من وجودهم, ومن استمرأ منهم العبودية ونشأ على الهوان, فهانت عليه كرامته. ولكن لم ولن يهتف لبقائهم أو خلودهم إنسان حر واحد. لان الحر لا يقبل أن يتخلى عن حريته لصالح احد, ولا يركع لزعيم أو يسجد لصورته أو على صورته, حتى ولو كان في مكان عظمة الزعماء العرب, المنزلين, الذين كشفت الثورات العربية زيفهم, وعوراتهم, ووضاعتهم, وضالة الجبلة الإنسانية في تكوينهم.
الشعوب حين تثور لا يمكن وصفها بالعصابات والمندسين والمتعاونين مع الخارج والمتآمرين على الوطن, فهي صحابة الوطن, وصاحب الوطن لا يتآمر على وطنه. من يتآمر عليه هو الطاغية,
يبيعه عند الاقتضاء مقابل البقاء الدائم على كرسي الحكم, وتوريثه للمنحدرين من النسل النقي, و يقتل شعبه من اجل هذا. الشعوب هي صاحبة السيادة وصاحب السيادة لا يتخلى عنها ولو طال الزمن في اغتصابها, ولا يفرط بها أو بجزء منها داخليا وخارجيا.
نجحت بعض الثورات العربية, في عامنا هذا من قرننا هذا, في إسقاط طغاة رؤوس, مع بقاء إذناب وإطراف, ومازالت ثورات أخرى تهز عنيفا كيان آخرين لإسقاط الرؤوس والأذناب والأطراف معا. ومع ذلك لا يمكن تسمية الإسقاط, مهما كان مداه, ثورة كاملة, إن اقتصرت المهمة على الإسقاط الجزئي أو التام, ثم الاعتكاف بعده عن السياسة والعودة إلى المنازل. الثورة لا تكتفي بالإسقاط. تبدأ به, ولا تنتهي عنده. فهي فعل دائم. مهامها بعد الإسقاط أكثر صعوبة وتعقيدا من الإسقاط نفسه, لأنها تدخل مرحلة البناء, ولا نقول إعادة البناء, لان ما كان مبني كان معيبا, لا يصلح لان يُعاد على أسسه أو فروعه أي بناء. الدولة الحديثة, التي لم تقم يوما في منطقتنا العربية, دولة القانون والمؤسسات على قاعدة الديمقراطية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان, هي المهمة الكبرى للثورة. هل رأى احد منا, من مختلف أجيالنا والى اليوم, أو سمع وقرأ في تاريخ الأجيال السابقة عن وجود مثل هذه الدولة في منطقتنا من المحيط إلى الخليج؟. وهل لا يطمح أحد منا للعيش في مثل هذه الدولة؟.
ليس فعلا ثوريا اكتفاء الثوار بالإسقاط, وعدم المطالبة بمحاكمات فعلية نزيهة وعادلة للجرائم التي ارتكبها الساقطون, والتوثيق لما يرتكبه الآيلون للسقوط, ليس لمجرد معاقبة من انتهكوا عقودا حقوق الإنسان وتلاعبوا بمقدرات الشعوب والدولة, وإنما ليكون القانون مستقبلا هو السيد الذي لا يمكن لأحد أن يعلو عليه, ولتكون الدولة المقبلة هي دولة القانون. وليكون في ذلك عبرة لمن يفكر بالانحراف بالدولة عن طبيعتها ومهامها المعترف لها بها.
الاكتفاء بالإسقاط, ثم التخلي بعده عن الفعل السياسي والمشاركة السياسة, هو تخل عن واجب أساسي من واجبات المواطن, عن طريق الامتناع, وترك المجال مفتوحا لعودة الساقطين ونفوذهم أو أعوانهم ممن أفرزهم واقع الشمولية والفساد. مثل هذا التخلي والعودة للسلبية لا يساعد في بناء أنظمة ديمقراطية فعلية وسليمة لأنه سيترك المجال واسعا للسياسيين الممتهنين السياسة, بمعناها السفلي, للاستئثار بالسلطة وممارسة دكتاتورية جديدة تحت مسميات واليات جديدة. اللامبالاة بالحياة السياسية, و بالشأن العام, هي نقطة ضعف أساسية في بناء واستمرار الديمقراطية, وهذا ما يجري حتى في الدول الديمقراطية العريقة.
وأخيرا يمكن القول انه حين أسقطت الثورات رؤوس طغاة, وحين تعمل أخرى على إسقاط رؤوس أخرى, تكون قد قامت بعمل كبير وعظيم, ولكن يبقى ما ينتظرها هو العمل الأكثر عظمة, العمل الجبار: بناء الدولة الديمقراطية العلمانية القائمة على فصل السلطات وترسيخ المؤسسات واحترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان, وترسيخ مفهوم المواطنة, وهذا ما ينقل الدولة من الشمولية والاستبداد والطغيان إلى الديمقراطية والعدالة والحداثة.
البناء الجديد, وغير المسبوق, هو ما يقع على عاتق الثوار الشباب حتى تأخذ الثورة أبعادها. وحتى لا تنتكس وتنحرف عن مسارها. و حتى تدخل القرن الواحد والعشرين من بابه الواسع, كدولة لها مكان ومكانة في المجتمع الدولي, وسيادة داخلية وخارجية غير منقوصة. ويصبح المواطن, الذي قامت من أجله و به, مواطنا حرا كريما.
ليس من المستحيل على من أنجز الجزء الأول: الإسقاط. وعلى من هو في طريقه لانجازه, أن يبدأ العمل لانجاز الجزء الثاني: البناء.
ليس كل هذا, بطبيعة الحال, عمل عصابات ومندسين ومتآمرين, فقد افرد التاريخ لهؤلاء صفحة ناصعة بين صفحاته. صفحة الثوار.
التعليقات (0)