ليت العباد كلاب
أمنية شاعر... أم عتاب؟
بقلم : حسن توفيق
الدجاجة لا تستطيع أن تطير، والسمكة لا يمكنها أن تخرج من الماء، لكن الإنسان الذي حباه الله بنعمة العقل يستطيع أن يطير في الآفاق وأن يغوص إلى الأعماق، كما أن الانسان الشاعر يستطيع من خلال لغة الشعر التي قد تقلب الحقيقة أن يُحَوِّلَ من يتصدى لهجائه والتعريض به من كائن بشري إلى ثعلب محتال أو قرد قبيح، ويستطيع هذا الإنسان الشاعر أن يفعل العكس، أن يُحول المرأة التي راقت له من كائن بشري إلى غزال رشيق.
أحيانا نتذكر «الحرب الباردة» ما بين المعسكرين الاشتراكي والغربي، وفي أحيان أخرى نتذكر الحروب الدموية الساخنة السابقة، كما نتابع يوميا ما يجري على الأرض من حروب، تتهدم خلالها المباني الآمنة، ويسقط فيها أبرياء وغير أبرياء، لكن شعرنا العربي له تاريخه الطويل مع مثل هذه الحروب الباردة والساخنة، والفارق الوحيد بين هذه الحروب وسواها أن حروب الشعراء تعتمد على الكلمة وحدها، وعلى ضوء إتقان الشاعر لاستخدام هذا السلاح الكلمة يتحقق له النصر، أو يعترف بالهزيمة، أو يهرب من الميدان، منسحباً مع ما يحمله من خزي ومن عار.
الكلب حيوان هذا أمر بديهي لا يحتاج لبرهان لكن الشعراء لا يعترفون بما هو بديهي على طول الخط فمنهم من أعطى للكلب منزلة أعلى من منزلة الإنسان، ومنهم من رأى أن هذا الحيوان يتمتع بأخلاق أفضل مما يتمتع به الناس وهذا ما أكده لنا شاعران عربيان، أحدهما وهو «ابن الرومي» عاش في العصر العباسي، أما الثاني وهو «عبد الحميد الديب» فقد رحل عن عالمنا سنة
كان لابن الرومي صديق يدعى «عمرو» وذات يوم ذهب إليه ليقصده في قضاء خدمة، لا تكلف هذا الصديق شيئاً، لكن «عمرو» خَيَّبَ رجاء الشاعر المحتاج، بعد أن وعده ثم أخلف الوعد، ولم يتردد ابن الرومي على الفور في أن يهجو مَنْ كان صديقاً، مؤكداً أن وجه «عمرو» فيه طول، شبيه بطول وجوه الكلاب هذا من الناحية الشكلية أما من ناحية الطبيعة والجوهر، فإن الكلاب تستحق التقدير، لأنها تعطي على قدر ما تستطيع:
وجهك يا عمرو فيه طولُ
وفي وجوه الكلاب طولُ
والكلب وافٍ وفيك غدرُ ُ
ففيك عن قَدْرِه سفولُ
وقد يحامي عن المواشي
وما تحامي وما تصولُ
وأنتَ من أهلِ بيتِ سوءٍ
قصتهم قصة تطولُ
وجوههم للورى عِظَات
لكن أقفاءهم طبولُ
وإذا كان المسلمون يتهيأون كل سنة لإطلالة عيد الأضحى عليهم، كما تستعد الجمعيات الخيرية لتوزيع لحوم الأضاحي على المحتاجين من الفقراء والمساكين، فإن شاعر البؤس عبد الحميد الديب كان له شأن آخر مع عيد الأضحى، فقد وعده أصدقاؤه ومن بينهم الشاعر الثري كامل الشناوي بأن يقدموا له «كبشاً» حياً، لكي يأخذه معه إلى أهله الفقراء في قرية «كمشيش» إحدى قرى محافظة المنوفية في مصر وظل شاعر البؤس يترقب الموعد، ويحلم بأن يفرح أهله معه بذبح القربان الذي لم يكن في الحقيقة سوى دعابة ثقيلة من دعابات الأصدقاء الذين كانوا يريدون أن يضحكوا على من وعدوه
انتقم عبد الحميد الديب شر انتقام من هؤلاء الأصدقاء ورأى أنهم أقل شأناً من الكلاب، بل إنه تمنى أن يتحول عباد اللَّه إلى كلاب تتميز بالوفاء وبالإخلاص
ليت العباد كلابْ إن كلبتنا
لمّا تزل لحفَاظِ الود عنوانَا
تحملت قسطها في البؤس صابرةً
لم تَشْكُ جوعاً ولم تستجدِ إنسانَا
هل كانت هذه الصيحة أمنية يتمناها شاعر، أم أنها كانت نوعاً من العتاب، بعد أن رأى أن الوعد لم يكن سوى سراب؟
يا عبقرياً في شناعته
ولدتك أمك وهي معتذرة
على الرغم من أن الأبواب قد أُغلقتْ في وجه «مجنون العرب» فإن علاقتي معه لم تنقطع، بل إني التقي معه أكثر مما التقي مع الأصدقاء العقلاء أو الذين يزعمون أنهم عقلاء وقد علم بعض هؤلاء أن لقاءاتي مع المجنون لاتزال مستمرة، فأخبروني أنهم لا يعترضون على هذه اللقاءات، طالما أنها بعيدة عنهم
على أي حال، فإني اعترف بأن مجنون العرب قد زارني ذات مساء، ليناقشني فيما كتبته عن الكلب» الذي رفعه بعض الشعراء إلى منزلة أعلى من منزلة الإنسان، رغم أنهم يعرفون أن الكلب حيوان، وقد أبدى المجنون إعجابه الصادق بما كان قد قاله الشاعر عبدالحميد الديب :
ليت العبادَ كلابٌ إن كلبتنا
لمَاَّ تزل لحفاظ الود عنوانَا
تحملتْ قسطها في البؤس صابرةً
لم تشكُ جوعا ولم تستجدِ إنساناً
وبعد أن ترنم المجنون بأعلى صوته بهذين البيتين، طالبني بأن أكتب عن الشعراء الذين يتصورون أنهم عقلاء وحكماء، رغم أنهم قد أساءوا إلى الأمهات خلال معاركهم الشعرية التي تبادلوا فيها قذائف الهجاء واطلقوا ما لديهم من صواريخ الإيذاء، ومن ناحيتي فإني قلت للمجنون سمعا وطاعة فهذا بالضبط ما أنوي أن أكتب عنه، وهذا ما يؤكد أيضا مدى توارد الخواطر بيننا رغم أنك مجنون وأنا عاقل
في الحروب الدموية قديما وحديثاً تنتشر المجاعات، وقد تأكل «الحرة» بثدييها حتى لا تموت من الجوع، كما يعلو كل ما هو رذيل على كل ما هو جميل، حيث تتعالى صيحات الغرائز وحدها، وتتمرغ القيم النـبيلة في المستنقعات، ورغم الفوارق في طبيعة الأسلحة، فإن ما ينطبق على الحروب الدموية هو نفس ما يحدث في الحروب الشعرية
«الجنة تحت أقدام الأمهات» هذا المعنى الجميل حفظناه ونحن صغار، ونكرره دون أن نسأم من التكرار، وفي نفس الوقت فإننا نتذكر ما قاله شاعر النيل حافظ إبراهيم عن دور الأم وعن رسالتها النبيلة
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاقِ
الأم مدرسة إذا أعددتَها
أعددتَ شعباً طيب الأعراقِ
الأم أستاذ الأساتذة الأَلى
شغلتْ مآثرهم مدى الآفاقِ
كل هذه المعاني السامية ينساها أو يتناساها الشعراء حين ينطلقون للحرب ضد سواهم، وهذا ما جرى بالفعل بين ثلاثة شعراء في العصر الأموي، اشتهروا في تاريخ الأدب العربي، بأنهم «شعراء النقائض» والثلاثة هم جرير والفرزدق والأخطل
أطلق الأخطل أحد سهامه القاسية ضد جرير وأهل جرير فعقد مقارنة يبدو فيها التناقض بين فريقين، فريق أهل الأخطل الذين يتصفون بالشجاعة والبراعة وفيهم «رباط الخيل» وفريق أهل جرير الذين لا يملكون غير «رباط الذل والعار» ثم انطلق من هذه المقارنة إلى وصف قوم جرير بأنهم بخلاء أشحاء وعديمو النخوة والمروءة، لدرجة أن كلابهم حين تنبح في الليل، لتعلن عن قدوم ضيف، فإنهم يطلبون من أمهم أن تقوم على الفور، لتتبول على النار لكي تخمد، حتى لا يقبل الضيف عليهم، وينصرف بعيدا عنهم
ما زال فينا رباط الخيل معلمة
وفي كليب رباط الذل والعارِ
قوم إذا استنبح الأضيافُ كلبَهم
قالوا لأمهم بولي على النارِ
وقد اعترف جرير فيما بعد بمدى قسوة هذين البيتين، فقال بالحرف الواحد «ما هُجينا بشيء قد أشد علينا مما قاله الأخطل في هذين البيتين، لأنه هجانا من وجوه شتى أما أحدها فإنه جعل أمنا خادمنا، وأما الثاني فهو أمرنا إياها أن تطفىء النار من ضيف يتنور بها، والثالث أن تفتح ساقيها لتتبول، والرابع بخل القرى »
فإذا انتقلنا من العصر الأموي إلى عصرنا هذا، فإننا نفاجأ حقا حين نعرف أن شاعرا من أرق شعراء الحب وأصدقهم وأعمقهم هو الدكتور إبراهيم ناجي صاحب «الأطلال» وسواها من الروائع لم يتردد في هجاء شاعر آخر هجاء مقذعاً وقاسيا، أكد خلاله أن أم هذا الشاعر قد ولدته وهي تعتذر عن ولادته، بل إنه رأى أن هذا الشاعر هو مثال حي يؤكد نظرية تشارلز داروين في «أصل الأنواع» حيث رأى هذا العالم الانجليزي أن المخلوقات تتدرج من مرحلة تاريخية إلى سواها من المراحل، وأن «القرد» قد تدرج شيئا فشيئا إلى أن أصبح إنساناً
رجلاً أرى بالله أم حشرة؟
سبحان من بعبيده حشرَهْ
يا فخر «داروين» ومذهبه
وخلاصة النظرية القذرة
أرأيتَ قرداً في الحديقة قد
فلته أنثاه على شجرة؟
عبدالحميد اعلمْ فأنتَ كذا
ما قال «داروين» وما ذكرَهْ
يا عبقريا في شناعته
ولدتك أمك وهي معتذرة
الفارق بين الأخطل في العصر الأموي وإبراهيم ناجي في عصرنا أن الأول قد أساء إلى الأم إساءة بالغة، أما الثاني فقد جعلها تعتذر عن ولادتها لابنها المدعو «عبدالحميد» فمن هو عبدالحميد هذا يا ترى؟... إنه عبد الحميد الديب ، ولكن من هو عبد الحميد الديب ؟ .. إنه الملقب ب : شاعر البؤس .. سأتحدث غنه بالطبع ولكن فيما بعد .
التعليقات (0)