مواضيع اليوم

ليالي رمضان مع السيد الدكتور إبراهيم الجعفري الحلقة الثالثة (العفو)

maher marzougui

2012-08-12 09:09:34

0

- ما العفو، وكيف يكتسب المسلم هذه الصفة؟

 

الدكتور إبراهيم الجعفري:

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة، وأتمّ السلام على أفضل الخلق أجمعين سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين..

ننطلق في مفهوم العفو من الآيتين القرآنيتين الكريمتين في سورة الأعراف:

((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))

الآيتان القرآنيتان الكريمتان تحدّدان أربع آليات مهمة في طريقة التعامل لكل مسؤول مع المجتمع، وأحسب أنها قريبة جداً من المسؤول الذي يتصدّى للعمل السياسيّ خصوصاً في مرحلة التبدّلات والتغيّرات الاجتماعية.

هذه الآليات الأربعة تنطبق تماماً على هذا المجال بشكل واضح وجليّ؛ ولأننا نعيش سوية في عصر التحوّلات الاجتماعية، عصر انتقال الكثير من أنظمة العالم وبلدان العالم خصوصاً العالم العربي بما يُسمَّى (الربيع العربيّ)، وهو الانتقال إلى اتجاه مُضادّ؛ إذن نحن أمام إرهاصات حادّة وشرائح اجتماعية ربما كان بعضها إلى الأمس القريب مع النظام، ويمشي في ركابه مضطرة ًأو مقتنعة، أو ما شاكل ذلك.

السؤال هنا: كيف يتمّ التعامل لمن يتصدّى للمسؤولية مع هذه الشرائح التي كانت إلى الأمس القريب في ركب النظام المضادّ للشعب، ونحن اليوم لسنا كما كنا نعيش في غابر السنين - وإن كانت عندما يسقط الطاغوت، ويأتي مَن هو بالاتجاه المعاكس له يرثه من دون أن تكون هناك تركة ثقيلة من فلول المؤسسات - فالمسألة تختلف، الطاغوت سقط في العراق عام 2003، وكثير من الدكتاتوريات سقطت كما حصل في المنطقة العربية عموماً بل في العالم كله، وافترض هتلر فقد سقط عام 1945، لكن هذا لا يعني أن المؤسسة الهتلرية والثقافة الهتلرية النازية قد سقطت بالكامل، وعندما نتحدث عن إيطاليا والاتجاه الفاشي الموسوليني، ومثله في العراق 2003 عندما سقط نظام صدام توجد مؤسسات وثقافة وشخصيات خُدِعت به، وظلت مستمرة.

 

- الأثار الباقية من تلك الأنظمة؟

 

الجعفري: كيف نتعامل معها؟

الآية القرآنية الكريمة بدأت بـ((خذ العفو))، وربما اختلف المفسّرون كعادتهم في تحديده. العفو هو التعادل، ويبدو أن الصفح والسماح أقرب إلى طبيعة السياق القرآني، أن تصفح وتتسامح مع الآخر فقد عفوت، (العفو) شعارك الأول.

حين يأتي المسؤول إلى مجتمع وهو في حالة ارتحال من قبلية مع النظام إلى حالة بعدية ضد ذلك النظام ينبغي أن يواجه، والأصل أن يتعامل بمبدأ العفو بغضّ النظر عن التفاصيل، أما من ارتكبوا جرائم فلسنا بصدد الدخول في تفاصيلهم.

نحن الآن مع الظاهرة التي عمّت المنطقة، كيف بدأت بالعراق وبلدان أخرى، وانتشرت، ثم اكتسحت العالم العربي، وهناك الكثير من الشخصيات كانت تعمل إلى الأمس القريب في وزارات متعددة بعضها ليست ذات طابع سياسيّ كوزارة الصحة ووزارتي الزراعة والتجارة، وبعضها ذات طابع سياسيّ كالخارجية، وبعضها ذات طابع تربويّ، ومرتبطة بمنهجية معيّنة حدّدها النظام المقبور.

إزاء هذه الحقائق ينبغي أن نتعامل بالعفو عن هؤلاء، ونتقبّل منهم، ونأخذ لهم العفو والصفح والتسامح، وهو خطاب قرآنيّ حان ٍيشير إلى الآخر بأننا لسنا في معرض الانتقام؛ فنضطرهم لأن يتركوا المؤسسات السابقة، والأخلاقيات السابقة.

منطق العفو يفتح القلب، ويجعل الطرف المقابل مستعداً لأن يبدأ حياة جديدة ليس أمام البديل عن النظام السابق والبديل العدو إنما البديل الجديد الذي يحمل قيماً يخاطب بها القلب، ويحمل فكراً يخاطب به العقل، ويحمل منهجية يخاطب بها المؤسسات، ويحمل روحاً أبوية حانية، ولا نقطع الطريق عليه، وينضم إلى الركب الجديد.

حين نعيق الآخر عن الالتحاق بالركب الجديد، ونسلبه ذلك فهذا قطع للطريق، ولا ينبغي لنا ذلك.

إذا قلنا: خذ الانتقام بدلاً من العفو فهذا يعني أننا قطعنا الطريق، واضطررنا الآخر لأن يدافع عن نفسه، فينضم إلى العدو، بينما منطق العفو يُوحي له بأنه أمام قلب كبير، وعقل كبير، وأمام عدالة اجتماعية.

 

- هل يُسمّى احتواء؟

 

الجعفري: هو استيعاب..

الآلية الأولى: أن لا تعتبر مَن كان في مؤسسة عدوانية مُعادياً، فلعله كان مضطراً، وهم الغالبية العظمى.

منطق العفو يعني أننا ضمِنـّا الطرف المقابل، حتى وإن كان مقصّراً، لكن منطقك لا ينبغي أن يكون منطق انتقام إنما منطق عفو عنه هذا ليس في المجال السياسيّ فقط وإنما في كثير من الخصومات التي تحصل، الانتقام يعني أن لا تعطي فرصة للآخر لأن يتجاوز عن خطيئته وخطئه، ويرتحل إليك.

هذه هي أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وآله -، وقد وصفه الله تعالى:

((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ))

للشخصية بوّابتان، إحداهما بوّابة القلب، والأخرى بوّابة العقل..

بوابة القلب تـُفتـَح بالأخلاق والقِيَم، وبوّابة العقل تـُفتـَح بالاستدلال والفكر، وإذا قسونا على الطرف المقابل سيغلق قلبه مهما كانت أدلتنا قوية.

 

- ومن ثم نخسره؟

 

الجعفري: الله - تعالى - يصف النبي - صلى الله عليه وآله -:

((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ))

لم تتغلب بدليلك القوي، إنما لأنك قدّمتَ الرحمة، فربما تقع الأفكار القوية والمنهجية القوية ضحية الفضاضة والانقطاع عن الناس؛ لذا بدأ القرآن الكريم بفتح القلب، حتى وإن كان للإنسان جريرة سابقة.

قد يعمل شخص ما في مؤسسة معادية، لكنه ليس من الضرورة أن يكون عدواً، واستعمال العفو يجعل الآخر يحسّ أنه أمام قلب كبير، ولكن لا يُفهَم أن العفو يعني الانفلات، وعدم الالتزام، واللاقانون؛ لذا أعقبت الآية ((وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)) ليشعر الآخر أنه لا يُعفى عنه من موقع الفراغ، إنما هناك فكر جديد ومؤسسة جديدة تقوم على العدل والثقافة.

العُرف هو ما يتعارف عليه الناس، ويُقرّه العقل، ويوافق عليه الشرع؛ لذا سُّمي المعروف معروفاً؛ لأنه تلتقي فيه القضية العُرفية الاجتماعية والعقل، ويُقرّه الشارع المقدّس، وسُمّي المنكر منكراً؛ لأن العرف الاجتماعيّ يُنكره فالقتل قبيح ومنكر عقلاً، يأتي الأمر الإلهي ليقول: ((وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ))؛ إذن نحن أمام منظومة.. هذا هو المحور الثاني..

المحور الثالث: واعرض عن الجاهلين، لماذا؟

من يُرد أن يشيع الإصلاح والعدالة الاجتماعية، ويساوي بين المواطنين، ويتحدث بقيم جديدة وفكر جديد، ويعالج الفساد فإنه سيواجه جيشاً من المفسدين ممن تتضرّر مصالحهم، وهم بتجاهل لا بجهل يدافعون عن أنفسهم، ويبرّرون الوضع الذي كانوا فيه؛ ليحافظوا على امتيازاتهم؛ فيقول الله تعالى:

((وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ))

هذا أبلغ جواب..

حتى يحافظ القائد على مصداقيته كقائد ومتصدٍ في الوقت الذي يتمتع بقوة القلب وقوة الإرادة يجب أن يتمتع بقوة الأخلاق والثقة بالنفس.

لا يوجد متصدٍ اليوم لعمل معيّن، ولا يسمع ما يسوؤه من كلام ونعوت يطلقها عليه من تضرّر من الوضع الجديد وقيمه.

كانت العرب تنعت النبي قبل الإسلام بالصادق الأمين، وبعد أن أظهر دعوته نعتوه بالكذاب والساحر والمجنون، وهو يمثل ذروة الكمال البشريّ، بل ذروة الكمال في كل المخلوقات، فلا نبيّ مُرسَل، ولامَلـَك مقرّب، ولا جنّ ولا كل مخلوق يصل إلى ما وصل له النبي - صلى الله عليه وآله -، وقد رُمِيَ بالكلمات القاسية، حتى قال:

(ما أوذي نبي مثلما أوذيت)

فماذا كان يعمل؟

عمل بـ((وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ))

على المسؤول أن يتحلى بها، وحتى لا يتصور نفسه يمثل الكمال البشريّ إذا كان من الناس الاعتياديين؛ لذا خاطبه بالآية الثانية:

((وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)) 

(النزغ) في اللغة العربية عكس النزع، (النزع) أن تسحب شيئاً من شيء آخر بشكل هادئ، و(النزغ) أن تدسّ شيئاً في شيء آخر بشكل هادئ، فهو عملية شيطانية. الشيطان لا يتمثل على شكل إنسان يصرخ بأذنك إنما هو مخلوق معيّن يأتي، وينزغ بينك وبين زملائك، وبينك وبين أهلك، وأنت كمسؤول بينك وبين الموظفين العاملين تحت لوائك.. ينزغ بقلبك فاستعذ بالله، ما لديك إلا أن تستعين بالله - تبارك وتعالى - وتستعيذ به من الشيطان إنه سميع عليم.

لا تتصوّر أنك بعيد عن سمع الله - تبارك وتعالى -، أو أنك بعيد عن نظر الله - تبارك وتعالى - نحن نمشي في حضرة الله، وهو بكل شيء عليم:

((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ))

من لا يتحلى بعقلية المراجعة، ولا يحاسب نفسه بنسبة ضئيلة من الوقت، فلعله اجترح خطأ، بل ارتكب خطيئة، وليس العيب أن تخطئ إنما العيب أن تكابر، ولا تعترف بالخطأ، فلا يمكن أن تكون مصلحاً ما لم تكن صالحاً.

الإصلاح إفاضة من المصلح إلى الفاسد حتى يصلحه، ويوقفه عند حده، فإذا كان من ينهض بمهمة الإصلاح غير صالح فلا يتحقق الهدف الإنسانيّ المُتوخـَّى من قيمه، وما يحمله من فكر.

العفو سيّد القِيَم، وعلى الإنسان أن يعيش لذته في حياته، ويحاول أن يمارسه.

هاتان الآيتان الكريمتان تريدان منا أن لا نفكر بعقلية الانتقام، إنما نتدرّج مع الطرف المقابل إلى أن نوصله إلى حيث نحن، أما إذا كان الشخص من النوع الذي يزيغ الشيطان في قلبك، فعليه أن يراجع نفسه، ولا يعتبر نفسه صاحب الحق المطلق.

من الجميل أن يراجع الإنسان نفسه، وهنا أذكر قول المسيح - عليه السلام -:

(يا عبيد الله أتحكمون على الناس بالظن، ولا تحكمون على انفسكم باليقين)

من يظن بالناس سوءاً، ويحكم عليهم بالظن فليراجع نفسه، ويحاسبها فيرى في داخله أفكاراً وأحاسيس وممارسات سيئة وغير صحيحة.. نحن أمام حقيقتين: (ظنون على الآخرين، وحقائق على النفس)

للمضي في الطريق يجب أن يكون العفو في أوله لمن هو بعيد؛ حتى نفتح له المجال لأن يتقدم، ويقترب، ويأتي إلى جادة الصواب، ثم و((وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)) الشرع يأمر بالمعروف، ثم (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) لا يهمك، فعندما يكون فعلك كبيراً تكون ردود فعلك أيضاً كبيرة، فطريق البناء، والحق، ومحاربة الفساد تجعل المتضرّرين يقفون ضدك؛ فكان الإعراض عن الجاهلين مَلـَكة رائعة جداً خصوصاً في شهر رمضان المبارك، فإنه يعطيك قدرة هائلة، ويعطيك ملكة التقوى والصبر والصمود أمام كل التحديات.. لا تستطيع أن تخفف من شدة الريح، إنما تستطيع أن تصعّد  مستوى مقاومة الريح؛ لذا فإن السعيد في الحياة والمستقر هو من لديه القدرة على المقاومة، ويمضي إلى الأمام رغم شدة الريح.

 

- لو طـُبِّق مبدأ (خذ العفو) على ما يجري في العراق فهل ستختلف الحياة؟

 

الجعفري: بلاشك..

يوجد في مؤسسات الدولة موظفون كانوا فيها منذ عهد النظام السابق، وهم يريدون أن يعملوا، وعلى أحدهم ملاحظات، فماذا تفعل؟ ابدأ صفحة جديدة، ثم مادمت تدعي أنك تحمل قيماً وأفكاراً فأمر بالعُرف، فهو إنسان مثلك.

إذا كانوا سابقاً منعوك، وما سمحوا لك بأن تتكلم بقيمك ومفاهيمك فقد حان الوقت لأن تصدح بصوتك، وتقول:

((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))

قل أنا أحمل هذا الفكر، وأنتمي إلى منظومة معرفية جديدة تغاير تلك التي كنتم عليها.. بهذا الأسلوب نستطيع أن ننعطف بالمتلقي من اتجاه إلى اتجاه آخر، وتتحوّل المؤسسة إلى حالة تثاقف، وتعاطٍ ثقافيّ.. إلى حالة قيم ومحبة بيننا وبين الآخرين، وتجعل طريق العودة والرجوع إلى الصواب قصيراً جداً، نعم.. لا نقول أن نلغي الخلافات، وحتى العداوات، لكن هناك فرق كبير بين أن تمتد علينا العداوات، وتلتهب المؤسسة، وتلتهمها وبين أن تمتد القيم والمشاعر الطيبة والأفكار الصحيحة، وتتقلص  دائرة العداوات بأضيق دائرة ممكنة.

يمكن استخدام مفهوم العفو في البيوت، فلا يكاد يخلو بيت من المشاكل، وغياب قاعدة (خذ العفو) أزمّت الكثير من المشاكل، والكثير من الأحاسيس قد تبدو بسيطة في البداية ثم تكبر لا لشيء إلا لأن المتحاورين متأزّمان..

حين ينظر الإنسان بنظرة مأزومة ستتفاقم الكثير من المشاكل.

http://www.al-jaffaary.net/index.php?aa=news&id22=1138




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !