لو دامت لغيرك لما وصلت لك
ليلة الفاتح من سبتمبر 1969م
عند حوالي الساعة الرابعة صباحًا من يوم الاثنين 1 سبتمبر 1969م رن جرس الهاتف في بيتي فاستيقظت، إذ كنت أتوقع مكالمة في ساعة متأخرة من الليل من السفير الليبي لدى الأمم المتحدة بنيويورك الدكتور وهبي البوري لتأكيد تفاصيل زيارة المستر يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا يوم 5 نوفمبر، وهي التفاصيل التي سبق لي دراستها مع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي. وبمجرد إجابتي على الهاتف فوجئت بالمتكلم يستفسر مني عن اسمي ومتحججًا أنه يريد شرطة النجدة، الأمر الذي أثار غضبي فأجبته بأنه كان الأولى به التحقق من الرقم الذي يريد مكالمته بدلًا من أن يزعج العباد في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح وأنهيت المكالمة.
وفي الساعة السادسة صباحًا رن جرس الهاتف من جديد، وكان المتكلم الحاج صالح اهميلة رئيس مستودع سيارات رئاسة مجلس الوزراء، وكان غاضبًا، وقال لي بأن رئاسة مجلس الوزراء محاطة بالجيش وأنهم منعوا السيارات التي ستنقل الوزير المغربي الضيف السيد عبدالهادي بو طالب ومودعيه إلى المطار من الخروج، وكذلك منعوا خروج بقية سيارات الوزراء. ورغم استغرابي لمثل هذا الإجراء الأمر الذي جعلني أعتقد أن شيئًا جديدًا قد حدث أثناء الليل، وأن رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدفاع قد يكونوا اتخذوا إجراءًا مستعجلًا بإعلان حالة الطوارىء وتكليف الجيش بتولي الأمن في البلاد، خاصة وأننا جميعًا كنا نتوقع أخبارًا هامة مثل استقالة الملك، أو إجراء تغيير في نظام الحكم، ولهذا طلبت من الحاج اهميلة أن يتقيد بأوامر الجيش وعدم إخراج السيارات حتى اتصل به بعد أن أتحرى عما يجري.
وبعد دقائق رن جرس الهاتف من جديد وكان المتكلم والدي الذي يصحو مبكرًا لصلاة الصبح، وكان يقيم في وسط المدينة قرب سيدي الشعاب قريبًا من رئاسة مجلس الوزراء، وأخبرني بأنه سمع طلقات رصاص وأن سيارات الجيش تملأ شوارع المدينة واستفسر عما كنت أعرف بما يحدث، وطلب مني الاستماع لمحطة الإذاعة إذ هناك بيانات تذاع. وفعلًا فتحت على محطة الإذاعة وسمعت بيان حركة الجيش والموسيقى العسكرية فتأكدت أن حدثًا خطيرًا قد حدث. فحاولت الاتصال برئيس الوزراء ووزير الداخلية في البيضاء ومدير الأمن العام في طرابلس ولكن يظهر أن خطوط الهاتف مع برقة قد قطعت كما أن هواتف كبار المسئولين في طرابلس قد قطعت أيضًا، واستغربت بقاء هاتفي شغالًا، إلا أنني تذكرت بأنه لا أحد يعرفه وغير مسجل في دليل الهاتف.
وبعد دقائق اتصل بي السيد محمد الخويلدي، رئيس قسم المراسم بوزارة الخارجية، وكان يسكن في وسط المدينة وقال لي إن قوات الجيش منعت الناس من الخروج من بيوتها ولا يعرف ماذا يفعل، لأنه يريد الذهاب إلى فندق الودان لمرافقة الوزير المغربي إلى المطار حسبما سبق وأن اتفقت معه عليه، فطلبت منه الانتظار حتى تتضح الأمور. وكانت تدور في رأسي تفسيرات عديدة لما كان يحدث بعد سماعي للبيانات التي تبثها الإذاعة، وعن من هم يا ترى زعماء الانقلاب؟
كنت أعرف بعض ضباط الجيش الكبار من رتبة عقيد إلى رئيس الأركان. ومعظم العقداء كانوا من جيلي وقد كان بعضهم زملاء لي في الدراسة في المدرسة الثانوية في طرابلس، كما أن الكثير منهم كانوا في القاهرة في الكلية العسكرية في نفس الوقت الذي كنت أدرس فيه في جامعة القاهرة. وكنت أعتقد أنهم بعيدون عن السياسة رغم تذمر معظمهم من مجرى الأمور في الجيش، وفي البلاد بصفة عامة. كان التفسير الوحيد والذي استقر عليه رأيي هو احتمال استقالة الملك، الشئ الذي عودنا عليها. إذ قد يكون قرر خطة جديدة بعد فقدانه الأمل في السياسيين، بأن يولي الجيش حكم البلاد بقيادة العقيد عبدالعزيز الشلحي وضباط وأفراد الجيش الموالين له وللملك، بما فيهم دون شك ضباط قوة دفاع برقة، إلا أن نغمة البيانات والأناشيد والتعليقات التي كانت تبثها الإذاعة لا تتمشى مع مثل هذا التفسير، إذ كانت كلها ضد الملك، ولا أعتقد أن العقيد عبدالعزيز الشلحي يوافق عليها.
وزادت شكوكي عندما أذيع خبر تعيين العقيد سعد الدين أبوشويرب قائدًا للانقلاب، إذ هو زميل لي في الدراسة وأعرفه معرفة جيدة كما أعرف أنه خرج من الجيش. ورغم اطمئناني لشخصية العقيد سعد الدين أبوشويرب لكونه شخصًا معتدلًا ومتعلمًا وذا خبرة في الجيش وعارفًا بشئون البلاد وينتمي إلى عائلة معروفة ومحترمة، إلا أنني لم أصدق ذلك، وكنت أرى أن إذاعة خبر تعيينه ما هو إلا تغطية من طرف الضباط الموالين للعقيد عبدالعزيز الشلحي، حتى يضمنوا بذلك تأييد باقي عقداء الجيش الغير موالين لهم.
بعد تعذر اتصالي بأي من المسئولين وعدم استطاعتي القيام بشيء، إذ لم يكن للوزراء في النظام الملكي، أي دور في شئون الأمن أو سلطة أو اتصال مباشر بقوات الجيش أو الأمن، بل حتى بيوت الوزراء وتحركاتهم كانت بدون حراسة على الإطلاق. ولهذا قررت الانتظار وكلي اطمئنان ولم يساورني أي خوف، حيث كنت واثقًا من أنني لم أرتكب عملًا ضد بلادي، ولم أشترك في أي فساد سياسي أو مالي والحمد لله، فأنا لا زلت في بداية السلم الوزاري، وجئت للوزارة من الوظيفة العامة كخبير، ولم يكن في رصيدي في المصرف حينذاك سوى بعض المدخرات، كنت أوفرها من مرتبي للإجازة التي تعودت عليها سنويا في الخارج، ولم أملك أي حساب بأي مصرف خارج ليبيا أو ممتلكات.
كنت أعيش بمفردي في بيت بحي قرقارش في طرابلس دون حرس، سوى خفير عينته إدارة الأملاك الحكومية لحراسة أثاثها المعار لبيتي، وذلك نظرًا لتغيبي الطويل في مدينة البيضاء. وكان معظم جيراني من الأجانب العاملين في شركات البترول، والذين لم يكن لي اتصال معهم، وكان والدي ووالدتي وإخوتي يعيشون بعيدًا عني وسط المدينة. جاءني الأخوان محمود والأمين بن ناجي اللذان كانا جيرانًا لي، بالإضافة لكونهما ملاكًا للبيت الذي كنت أسكنه، وذكرا لي بأنهما لا يعرفان شيئًا عن هوية من قاموا بالانقلاب، رغم أن السيد محمود بن ناجي كان عقيدًا بالجيش واستقال منذ فترة، وكانا يعتقدان كما اعتقدت أن الانقلاب بقيادة العقيد عبدالعزيز الشلحي.
كنت أنتظر اعتقالي وكان هذا واردًا بل توقعته منذ الساعات الأولى من ذلك اليوم، ويظهر أن ضباط الجيش الذين قاموا بالحركة لا يعرفون حتى بيوت الوزراء، فقد سمعت أن رجال الجيش ذهبوا إلى بيت والدي في وسط المدينة يسألون عني، وقيل لهم أنني لا أسكن هناك. وقضيت اليوم كله وأنا لا أعرف شيئا، فقد قطع خط الهاتف عني ولم يبق لدي أي مصدر لمعرفة ما يجري في البلاد سوى ما تبثه الإذاعة. وفي مساء ذلك اليوم ونظرًا لعدم اتصال الجيش بي، ذهبت إلى بيت أحد الجيران، حيث تناولت العشاء معهم وبقيت هناك حتى ساعة متأخرة، قررت بعدها الرجوع إلى بيتي، وعلمت من الخفير أن جنودًا من الجيش قد جاءوا للسؤال عني فأعلمهم بأني غير موجود بالبيت وبأنه لا يعرف مكاني.
كنت أعتقد أسوة بغيري من الشباب المثقف أن النظام الملكي لم يحقق ما كان مرجوًا منه، وأن الإصلاح من الداخل كان متعذرًا في الظروف التي كانت سائدة ويحتاج إلى وقت، كما أن دخل البترول الذي أصبح يتزايد فتح المجال للفساد، الذي بات يسري في أجهزة الدولة وفي دائرة الأعمال التجارية والمالية، كما أن الملك أصبح عاجزًا عن السيطرة على الوضع تتقاذفه، أمواج الحاشية والإقليمية الضيقة بالإضافة لحالته الصحية والنفسية، كما كنت أعتقد أن أي تغيير لن يكون أسوأ مما كان عليه الحال، خاصة إذا كان ضباط حركة الجيش من الشباب المتعلم الواعي.
في صباح يوم 2 سبتمبر وبعد رفع منع التجول، جاءني والدي وأخي الأصغر عبدالعظيم، وقالا لي بأن والدتي تمر بحالة عصبية منذ سماعها خبر الانقلاب، وأنها كانت تصرخ في وجه رجال الجيش كلما جاءوا يبحثون عني، وطلبا مني مرافقتهما إلى بيت العائلة والبقاء معهم فيه حتى يكتب الله امرًا كان مفعولًا. ولكنني رفضت ذلك، وطلبت منهما تطمين الوالدة بأني بخير، ولست خائفأ على مصيري، وليس لدي ما أخشاة، وكل ما أرجوه منها هو الاهتمام بصحتها.
اعتقال الوزراء وكبار المسئولين
أصبحت أحداث الانقلاب تتضح بعد اعتراف ولي العهد وإلقاء القبض على كبار ضباط الجيش والأمن. وبعد منتصف النهار رن جرس الباب، وعندما فتحته وجدت سيارات "لاندروفر" عسكرية أمام البيت، ورأيت عددًا من الجنود بمدافعهم الرشاشة ينتشرون حول البيت، وتقدم مني ملازم وقال إن اسمه أحمد بن حليم، واستفسر مني عن اسمي، ولما أجبته طلب مني مرافقته، فطلبت منه منحي بضع دقائق لأغير ملابسي، فأنتظرني في الخارج ولم يدخل لتفتيش البيت كما فعل غيره مع باقي من اعتقلوا، كما علمت بعد ذلك منهم بأنهم تعرضوا لمعاملة سيئة أثناء اعتقالهم.
كما علمت بعد ذلك أن أحد رجال المباحث أو الشرطة يدعى حسن المصري كما قيل لي، والذي كان يساعد رجال الجيش ويدلهم على بيوت الوزراء وغيرهم من المسئولين، قد جاء إلى بيت العائلة وطلب من أخي الأصغر عبدالعظيم مرافقته الي بيتي لتفتيشه. وفعلًا رافقه أخي وعند انتهاء التفتيش أخذ رجل المباحث معه بعض أوراقي الخاصة، بما فيها شهادات دراستي والملفات الرسمية التي كانت على مكتبي، ويظهر، كما قال لي أخي عبدالعظيم لاحقًا، بأن رجل المباحث كان يبحث عن وجود السلاح ولم يهتم كثيرًا بالأوراق. ارتديت ملابسي، وبمجرد خروجي من البيت رافقني جنديان بمدافعهما الرشاشة إلى إحدى سيارات "اللاندروفر" الواقفة أمام البيت وجلست في المقعد الخلفي بين الجنديين، بينما جلس الضابط بن حليم في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، وركب باقي الجنود السيارات الأخرى.
وقد لاحظت أن جيراني الأمريكيين كانوا جميعًا في شرفات منازلهم يودعونني ويتابعون ما كان يجري أمامهم. وبمجرد تحرك السيارات سألني الضابط بن حليم عما إذا ما كنت أعرف بيت إسماعيل التويجيري، أحد ضباط جهاز أمن الدولة، فأجبته بالنفي، ولكن أحد الجنود قال إنه يعرفه لأنه جاء الليلة الماضية مع أحد الضباط للبحث عنه ولكنهم لم يجدوه. عند وصولنا إلى بيته واستفسار الجنود عنه أخبرهم والده بأنه قبض عليه بالأمس، ورغم عدم اقتناع الضابط بأقوال الأب، إلا أنه لم يصر على تفتيش المنزل.
بعد مغادرة بيت السيد التويجيري سألني الضابط بن حليم عما إذا كنت قد أرسلت برقية تأييد للثورة فأجبته بالإيجاب. كما سألني عما إذا كان السيد حامد العبيدي وزير الدفاع في طرابلس أو بنغازي فقلت له بأني لا أعرف ذلك ولكنه لم يحضر مأدبة العشاء التي أقيمت ليلة 31 أغسطس على شرف الوزير المغربي الزائر، وأتيحت ليّ الفرصة لسؤاله عما تم في إجراءات سفر الضيف المغربي، فأعلمني بأنه سافر برًا عن طريق تونس.
عند وصولنا إلى ثكنات باب العزيزية أخذت إلى إحدى الحجرات، وسئلت عما إذا كنت قد أحضرت معي ملابس للنوم، وعندما أجبتهم بالنفي قدموا لي جهاز هاتف وطلبوا مني الاتصال بعائلتي لإحضار ما سوف أحتاجه من ملابس، وكانت المعاملة طوال الوقت تتم بالاحترام. ووجدت بالحجرة كلا من الوزراء المهندس علي الميلودي والدكتور علي أحمد اعتيقه والسيد حامد أبوسريويل والأستاذ مصطفى بعيو والسيد سالم لطفي القاضي، وكانت الحجرة صغيرة مخصصة لإقامة ضابطين فقط في الثكنات، ويظهر أنهما غادراها على حين فجأة، إذ تركا بها أوراقهما الخاصة مبعثرة والأدراج مفتوحة وملابسهما خارجها.
قضينا ليلتنا الأولى في ثكنات باب العزيزية، وكنا نتجاذب أطراف الحديث وكأننا في مدينة البيضاء، حيث كان الوزراء يعيشون فيها أغلب الوقت بدون عائلاتهم، ويسهرون معًا، وقدمت لنا تلك الليلة وجبة عشاء بسيطة مكونة من صحن من الشوربة على ما أذكر. وفي ساعة متأخرة من الليل أفقنا مذعورين على أصوات طلقات نار من مدفع رشاش استمر بشكل متواصل لعدة دقائق، مما أثار رعب كبار السن منا، ولما كنت أنا الشخص الوحيد بينهم الأعزب وبدون أطفال قلت لهم مازحًا، وشر البلية ما يضحك، يظهر أن رجال الجيش قرروا إعدام المعتقلين، وأن دورهم قادم. ردوا عليّ بغضب ولماذا يقتلون وما ذنبهم، إن لهم أبناء يريدون تربيتهم وتعليمهم أبنائهم وليسوا مثلي رجل أعزب متشائم. وبعد توقف إطلاق النار انتظرنا أن يدخل علينا أحد ليخبرنا بما جرى. ولكن يبدو أن إطلاق النار كان عملًا فرديًا لأحد ضباط أو جنود الحراسة لبث الرعب فينا نفسيًا. وهكذا نمنا حتى الصباح بدون أن نعرف شيئا عن مصيرنا.
وفي صباح يوم 3 سبتمبر دخل علينا بعض الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا والوقوف أمام أسرتنا، وبعد ذلك طلبوا منا مغادرة الحجرة إلى خارج المبنى، حيث وجدنا عددًا من السيارات الكبيرة لنقل الجنود، وكذلك بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى، وكان بينهم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، والسيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والسيد أحمد صويدق وزير الاقتصاد، والسيد حامد العبيدي وزير الدفاع، واللواء السنوسي شمس الدين رئيس أركان الجيش، واللواء نوري الصديق إسماعيل رئيس أركان الجيش السابق، والسيد خليل البناني محافظ مصرف ليبيا المركزي، والسيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ وغيرهم، وطلب منا الجنود صعود السيارات وكانت عالية مما تعذر على كبار السن الصعود إليها، فأسرعنا إلى مساعدتهم، بينما وقف الجنود الشباب يراقبوننا دون تقديم يد المساعدة.
تحركت بنا السيارات دون أن نعلم عن وجهتها، ومرت بنا عبر وسط المدينة التي كانت شوارعها تعج بالمظاهرات الشعبية الهاتفة بسقوط الملكية ومرحبة بحركة الجيش، وكما قال لنا حراسنا من الجيش، بأنه لو تم تسليمنا لتلك الجماهير لقطعتنا إربًا إربًا في شوارع طرابلس، وكان كل هذا يدل على مدى غضب الشعب في طرابلس على النظام الملكي. وصلنا ثكنات الجيش في الفرناج حيث وضعنا في نادي الضباط، وانضم إلينا بعض ضباط الأمن الذين كان من بينهم العقيد علي عقيل، وكان يبدوا عليه أنه عومل معاملة قاسية، فقد قيل بأنه رفض الأوامر التي أصدرها له رجال الجيش.
قدمت لنا وجبة الغذاء التي كانت من المكرونة المطبوخة على الطريقة الليبية، فأكل البعض وامتنع البعض الآخر. أخذنا بعد ذلك إلى صالة لعبة الأسكواش التي حوّلت إلى حجرة نوم لأكثر من 16 شخصًا، وكانت الأسرة والأغطية كلها جديدة ونظيفة وفصلونا عن ضباط الأمن، وعلمنا بوجود مجموعات أخرى في غرف أخرى منفصلة عنا. ووضعوا لنا جهاز راديو لسماع أخبار نجاح الانقلاب وتلاوة برقيات التأييد التي كانت تنهال بكثرة على قادة حركة الجيش من المسئولين والسفراء ومن المواطنين على اختلاف طبقاتهم، وكان من ضمنهم أخي علي السني المنتصر السفير الليبي في بلغراد.
كان يزورنا من حين لآخر ضباط من صغار الرتب لا نعرف منهم أحدًا، وكانوا يسألون عما كنا نحتاجة. فشكونا من عدم وجود تهوية كافية في الحجرة لعدم وجود نوافد فيها. فطلبوا من الجنود وضعنا في صالة النادي حتى مجيء وقت النوم، ووافقوا على نقل السيد محمود المنتصر إلى المستشفى العسكري لأنه كان كبيرًا في السن، ومريضًا يعاني من ضغط الدم وتصلب في شرايين القلب وتضخم في غدة البروستاتا، وكان في حاجة ماسة إلى الرعاية الطبية. وقد استلمنا بعض الملابس من عائلاتنا، وقضينا الوقت في الحديث وسط تساؤلات عن هوية ضباط الانقلاب.
وفي تلك الليلة حدث أمر أثار استغرابنا، حيث طلبوا منا عدة مرات ارتداء ملابسنا وجمع حاجاتنا والوقوف أمام أسرتنا استعدادًا للخروج، ثم طلبوا منا ارتداء ملابس النوم مرة أخرى والرجوع لحالتنا العادية. وكان السيد منصور محمد خليفة، عضو مجلس الشيوخ، كثير الحركة، فوضعوا في يديه سلسلة حديدية مثبتة في الحائط أمام الحجرة. وكان الجنود الحراس متعبين وينامون على الأرض ويرافقوننا إلى دورة المياه كلما طلبنا ذلك.
استنكار دعوة التدخل الأجنبي
وفي إحدى الليالي طلبوا منا ارتداء ملابسنا والخروج إلى قاعة النادي فوجدنا عددًا كبيرًا من باقي المعتقلين من رؤساء الحكومات والوزراء السابقين وكبار المسئولين في النظام الملكي الموجودين في طرابلس يوم قيام الانقلاب، كما لاحظنا وجود رجال الإذاعة والتلفزيون بآلاتهم للتصوير والتسجيل. وتكلم أحد الضباط وقال لقد طلب جماعة الملك الموجودين في الخارج وعلى رأسهم السيد عمر الشلحي من بريطانيا وأمريكا التدخل لقمع الثورة بالقوة، ونريد أن نعرف رأيكم؟ وطلب منا تسجيل رأينا لإذاعته في الراديو والتلفيزيون ضمن برقيات احتجاج المواطنين. وفعلًا ألقى جميعنا كلمات استنكرنا فيها أي تدخل أجنبي في ليبيا مهما كانت الدوافع، وبينا أن ضباط الانقلاب هم من أبناء الوطن وأنهم سيحرصون على مصلحة الشعب وأمن البلاد. الشخص الوحيد الذي لم يتكلم كان السيد محمود المنتصر الذي عندما جاء دوره في الكلام، حسب ترتيب مكانه بين الجالسين، قام متجهًا إلى دورة المياه ولم يطلب منه أحد الكلام بعد عودته.
أذكر أنني قلت في كلمتي بأننا في العهد الملكي حاولنا أن نؤدي واجباتنا وفقًا لضمائرنا في ضوء الظروف السائدة، ولا شك أننا فشلنا في تغيير الأوضاع والقضاء على الفساد بالشكل الذي كنا نأمله ونريده، ولكننا لم نقصر في الحد من ذلك وفقًا لإمكانياتنا، وبأني آمل بأن يتمكن الضباط الشباب الذين قاموا بالثورة من الإصلاح والسير بالبلاد في طريق الحرية والتقدم والازدهار، ونحن ندعوا لهم بالتوفيق. وفي نفس الوقت استنكرت بشدة أية دعوة للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد الداخلية، وقلت إنه لا يجوز لأي من كان أن يتكلم باسمنا او باسم الشعب طلب التدخل الأجنبي. وقد حاول السيد عبدالحميد البكوش نصح ضباط الجيش بالتركيز على العمل بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وشرح الصعوبات التي تواجهها البلاد، كما تكلم الدكتور علي أحمد عتيقة بنفس المعنى. سمعنا بعد ذلك أن كلماتنا أذيعت على التليفزيون، مما طمأن عائلاتنا بأننا بصحة جيدة ولم نتعرض لمعاملة سيئة كما كان يشاع.
وفي إحدى الليالي دخل علينا عدد من الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا وجمع حاجياتنا والتوجه إلى الخارج، وعند خروجنا استغربنا وجود حافلات عسكرية معدة لنا وقوة عسكرية كبيرة وسيارات مدرعة، وجىء بباقي المعتقلين وكان من بينهم الأستاذ محمود البشتي وزير الداخلية السابق الذي أضيف إلى مجموعتنا. وصعدنا الحافلات، وأذكر أني جلست إلى جانب السيد حامد العبيدي وزير الدفاع السابق، وكان يسألني عن اتجاهنا لكوني من طرابلس وملمًا بمسالك طرقاتها أكثر منه، فقلت له إن الحافلات تتجه نحو مدينة طرابلس.
وعندما وصلنا إلى مفترق الطرق عند باب بن غشير اتجهت السيارات إلى اليسار، فقلت له الظاهر أنهم متجهون بنا إلى المطار ولعلهم يرغبون في نقلنا إلى فزان. ولكن قبل وصولنا إلى مفترق الطرق المؤدي إلى المطار اتجهت الحافلات يمينًا نحو الشارع الضيق المؤدي إلى السجن المركزي المبني منذ العهد الإيطالي، والذي كان يطلق عليه اسم سجن "بورتا بينيتو" وعرف أيضًا باسم سجن "الحصان الأبيض" لوجود تمثال حصان أبيض عند مدخله، وقد أسف السيد حامد العبيدي لهذا المصير المهين.
بعد وصولنا دخلنا إلى السجن بين صفين من الجنود المسلحين بمدافع رشاشة، وخصص لكل سبعة أشخاص منا حجرة تحتوي على مرحاض على الطراز التركي يصعب على كبار السن منا استعماله، وبها نافذة قرب السقف محصنة بأعمدة حديدية وكان باب الحجرة من الحديد، أقفل بمجرد دخولنا. والسجن ينقسم إلى أقسام مفصولة عن بعضها البعض، وكان قسمنا كله مخصصا للسياسيين، بينما خصص قسم آخر للعسكريين وقوات الأمن وقسم ثالث لرجال الأعمال وغيرهم، بينما أودع ولي العهد والعقيد عبدالعزيز الشلحي في قسم مستقل كما قيل. كانت الأسرة والأغطية كلها جديدة. وكانت المجموعة التي شاركتني الحجرة تتألف من السادة سالم لطفي القاضي وزير المواصلات، وأحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والهادي القعود وزير المالية، وأحمد صويدق وزير الاقتصاد، وخليل البناني محافظ بنك ليبيا المركزي، ومحمد فخر الدين رئيس تحرير جريدة طرابلس الغرب الرسمية.
السيد الهادي القعود السيد أحمد صويدق السيد محمد فخر الدين
استقر بنا الحال ولم يسمح لنا بالخروج لاستنشاق الهواء والاختلاط بزملائنا الآخرين، أو الاتصال بعائلاتنا هاتفيًا للحصول على ملابس لتغيير ما كنا نرتديه. وبعد أيام سمح لنا بالخروج إلى ساحة السجن مع بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى. وكانت أسوار وسطوح السجن المحاطه بالساحة مليئة بالجنود المسلحين. وطلب منا غسل ملابسنا بأنفسنا في الساحة، وكان بعض الجنود يضحكون ويتندرون علينا.
وأذكر أن السيد محمد سيف النصر الموجود معنا في المعتقل، نظر إلى الجنود ناهرًا إياهم بحدة على سوء تصرفاتهم. ولم نكلف بتنظيف حجراتنا بل أتي الحراس بالمساجين العاديين للقيام بذلك، وحذرونا منهم بعدم ترك حاجات ثمينة في متناولهم أثناء تنظيفهم للحجرات لأنهم كانوا من اللصوص المحترفين أصحاب السوابق. وفعلًا وفي كل مرة بعد تنظيفهم للحجرات يعود إلينا الجنود بالساعات والحاجات الثمينة التي سرقها السجناء من حاجيتنا واسترجعها منهم الجنود.
وكان من بين المساجين سجين قديم من عائلة اعبيد التي أعرفها بمصراته، وكان يعرف أفراد عائلتي، جاءني وقال لي بأنه مفرج عنه صباح اليوم التالي وسألني فيما كنت أريد تبليغ رسالة شفوية لعائلتي، فشكرته على ذلك، ولم أطلب منه شيئًا حتى لا أسبب له أية مشاكل قد يتعرض لها بسبب ذلك.
بعد أيام سمح لنا بترك باب الحجرة مفتوحًا، كما سمح لنا بعد ذلك بزيارة زملائنا في الحجرات الأخرى، وفي الليل كان بعض الضباط وبالأخص الخويلدي الحميدي وعبدالمنعم الهوني يزوروننا باستمرار، ويسألوننا عما كان يجري في البلاد، وكان السيدان الخويلدي والهوني يتصرفان معنا باحترام وتفهم كاملين. كما زارنا بعض الضباط الآخرين، وقد عرف الشيخ سالم لطفي القاضي أحدهم وقال إن اسمه عمر المحيشي، وكان يعرفه لأنه كان منافسًا لأبيه السيد عبدالله المحيشي في الانتخابات النيابية في مدينة مصراته.
أما عبدالسلام جلود فزارنا مرة واحدة وكان شديدًا في كلامه معنا، وخاطبنا بلهجة غير لائقة ووجه للمعتقلين التهم بسوء السلوك، وخص بكلامه السيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ من فزان. وكذلك كان المقدم موسى أحمد وزير الداخلية في زيارته الوحيدة لنا، فقد وجه التهم للمعتقلين متوعدًا بالعقاب. وقد اعتذر الضابطان الخويلدي والهوني لنا على تصرفات الضابطين عبدالسلام جلود وموسى أحمد.
وفي هذه الفترة أخبرنا الضباط المشرفين بأنه تقرر وقف صرف مرتبات الوزراء وستصرف مرتبات الموظفين لعائلاتهم. وأذكر أن الضابط عبدالمنعم الهوني طلبني لمقابلته خارج الحجرة، وسألني عما إذا كنت في حاجة إلى مبلغ من المال للانفاق على عائلتي، لأنه لاحظ أني علقت على هذا القرار بقولي وماذا يفعل الوزير الذي كان موظفًا قبل تعيينه وزيرًا. فشكرته وقلت له بأني أعزب وليست لي عائلة، وبأني سأشتغل عندما أخرج من المعتقل في أي عمل ولا أحتاج مالًا الآن، رغم أني علمت أن جاري السيد محمود بن ناجي، الذي هو في نفس الوقت مالك البيت الذي أسكنه، أرسل لعائلتي رسالة طالبًا إخلاء البيت لأن مصلحة الأملاك أنهت العقد معه، وقد طالب بإيجار البيت في حالة تأخر تسليم البيت، كما كانت لي التزامات مالية أخرى.
كان السيد محمود المنتصر، الرئيس السابق للديوان الملكي، مريضًا وأخذ إلى المستشفى عدة مرات وأعيد في اليوم التالي في كل مرة، وكنا نسمع وقع عكازه على الأرض عندما يعاد في الساعات المتأخرة من الليل. وفي أحد الأيام وقع في دورة المياه، ولم يستطع الوقوف لكبر سنه لفتح الباب، فاضطر السيد شمس الدين محسن رفيقه في الحجرة إلى الدخول من الفتحة الموجودة في أعلى الباب لإخراجه. وكانت حالته الصحية سيئة. واجتمع المعتقلون وطالبوا ضباط الجيش بنقله إلى المستشفى وتركه هناك، لأن حالته الصحيه تزداد سوءًا كل يوم. وأذكر ان السيد محمود عبدالمجيد المنتصر ابن عمه ثار في وجه الضباط قائلًا إن هذا الشخص مريض جدًا ويجب تركه تحت الحراسة في بيته إذا كان لابد من اعتقاله، وإن وفاته في المعتقل سيشوه سجل الثورة، مما جعلنا جميعًا نخاف على ما قد يلاقيه السيد محمود عبدالمجيد المنتصر نتيجة شجاعته التي قد تؤدى بوضعه في زنزانة منفردة، ولكن الذي حصل كان العكس، إذ أفرج عنه ضمن المفرج عنهم تلك الليلة.
بداية الإفراج عن المعتقلين
بعد فترة لا تزيد عن شهر بدأ الإفراج عن بعض المعتقلين، والغريب أنه أطلق سراح بعض السياسيين القدامى مثل السادة سالم لطفي القاضي وحامد أبوسريويل وأبوبكر نعامة في أول دفعة في شهر رمضان، ولكن أعيد اعتقالهم بعد ثلاثة أيام، وقيل أن ضباط حركة الجيش لاحظوا كثرة زوارهم للتهنئة، فلم يعجب هذا التصرف ضباط الجيش فأعادوهم إلى المعتقل وبقوا بعدها فترات طويلة.
السيد حامد أبوسريويل السيد أبوبكر نعامة
وفي شهر رمضان سمح للعائلات باحضار الطعام للمعتقلين، فتراكمت الموائد في السجن. وكانت مطابخ أهم وأرقى بيوت طرابلس المعروفة ترسل بكل ما لذ وطاب من طعام إلى نزلاء المعتقل من رجال العهد الملكي، مما حدا بالبعض إلى تسمية المعتقل تنذرًا باسم "هيلتون طرابلس". وكانت سهريات رمضان صاخبة في المعتقل نتيجة الدردشة ولعب الورق. وفي أحد الأيام أرسلت بعض الجرائد المصرية إلى أحد زملائنا المعتقلين، فرأينا فيها صورة الملك على الصفحة الأولى لجريدة الأهرام وهو يهبط من الباخرة في الإسكندرية، ويستقبل معززًا مكرمًا من طرف محافظ الإسكندرية نيابة عن الرئيس جمال عبدالناصر، وخصص له قصر السلطان بحي الدقي في القاهرة لإقامته. وبقدر ما سر البعض له بسلامة المصير وحسن المعاملة شعر البعض بعدم الرضا عن اختلاف المعايير في المصير، فبينما يسجن وزراء العهد الملكي يستقبل الملك بالترحيب من الرئيس عبدالناصر الذي ساعد حركة الجيش على النجاح.
خروجي من المعتقل
في يوم 3 ديسمبر بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر في المعتقل، شعرت بمعاملة ودية جدًا من طرف الجنود والضباط المشرفين علينا، وخاصة من الملازم المبروك القويري، مما جعل زملائي في الحجرة يتوقعون خروجي في تلك الليلة. وفعلًا طلب مني بعد تناول العشاء إعداد حاجياتي وارتداء ملابسي والخروج. وبعد توديع الزملاء مررت على إدارة المعتقل حيث قدمت لي ورقة وقعت عليها متعهدًا فيها بعدم مقاومة الثورة وأن لا أقوم بأي عمل ضدها. وكنت كباقي المعتقلين جميعًا قد سبق وأن وقعت على إقرار بذمتي المالية عن أية ممتلكات لي في داخل البلاد وخارجها.
وكلف أحد الجنود بنقلي إلى بيتي في سيارة "لاندروفر"، فطلبت من السائق نقلي إلى بيت والدي في الهضبة الخضراء، لأني لم أكن أعرف ما تم في بيتي الحكومي المؤجر في قرقارش وهل سلمّ لمالكه أم لا. عند دخولي لبيت الوالد وجدته بمفرده يؤدي صلاة التراويح، وبمجرد ما رآني بعد أن أنهى صلاته قام وعانقني وفرح كثيرًا لرؤيتي طليقًا، وأخبرني بأن والدتي وأخي عبدالعظيم ذهبا إلى بيتي في قرقارش لإحضار ملابس لي لإرسالها لي في المعتقل. وشاع خبر الإفراج عني بين عائلات المعتقلين، إذ يبدو أن بعض أفراد هذه العائلات الذين كانوا أمام المعتقل ينتظرون الدخول لزيارة ذويهم المعتقلين قد رأوني خارجًا من المعتقل في السيارة العسكرية فأخبروا أهاليهم بذلك. انهالت المكالمات الهاتفية علىّ، وسمعت الوالدة بالخبر قبل رجوعها للبيت ففرحت تلك الليلة فرحًا عظيمًا. وقد علمت بأنها كانت خلال فترة وجودي في المعتقل في حزن وعذاب شديدين أثرا في صحتها بقية حياتها.
كنت شابًا قادرًا على الحياة الخشنة، ورغم أني لم أتعرض للتعذيب أو الإهانة، إلا أنني وجدت أن نزيل المعتقل يقاسى دائمًا آلامًا نفسية صعبة. فشعوره بأنه تحت رحمة الغير ولا يستطيع عمل أي شئ تضعف من معنويته وكرامته كإنسان.
كنت الشخص الوحيد الذي أفرج عنه في تلك الليلة الأمر الذي لم يحدث من قبل، فقد كان المعتقلون يفرج عنهم في مجموعات صغيرة من حين لآخر، ولا أعرف من الذي أمر بالإفراج عني تلك الليلة، ولا كيف يتم اختيار من يفرج عنهم. ورغم أن مسئولياتي في النظام الملكي لم تكن بأهمية مسئوليات بعض زملائي الوزراء، إلا أنني أنتمي إلى عائلة لعب بعض أفرادها دورًا بارزًا في النظام الملكي، وأعتقد أن ذلك كان سبب الإبقاء عليّ لفترة ثلاثة أشهر بدلًا من إخراجي مع أول دفعة. كنت آخر معتقل يفرج عنه طوال شهر ديسمبر، لأنه بعد الإفراج عني بأيام اعتقل المقدمان موسى أحمد وآدم الحواز بعد أول محاولة انقلاب فاشلة على النظام الجديد وأغلقت أبواب المعتقل لفترة نتيجة لذلك.
أول شيء عملته بعد الإفراج عني هو الانتقال إلى بيتي الجديد في جوار الوالد، وسلمت البيت المؤجر إلى صاحبه والأثات إلى إدارة الأملاك، ولم أطلب إجراءات تمليكي للأثاث بعد نصيحة السيد سليمان الكبير مدير إدارة الأملاك آنذاك بعدم شرائه من الإدارة، لأن ثمن الأثاث الحكومي غالبًا ما يكون عاليًا جدًا كعادة المشتريات الحكومية، وهكذا أعدته لإدارة الأملاك وفرشت بيتي الجديد بأثاث بسيط.
وفاة السيد محمود المنتصر
بقيت في بيتي ولم أخرج منه بالرغم من عدم وضعي تحت الإقامة الجبرية كبعض المعتقلين الذين أفرج عنهم. وفي هذه الفترة حصلت أحداث أولها قيام المقدمين موسى أحمد وآدم الحواز بحركة تمرد على حركة الجيش التي كانا من المشتركين فيها، وفرضت قيود جديدة على التحركات وتوقف الإفراج عن المعتقلين السياسيين من العهد الملكي السابق.
أما الحدث الثاني فكان وفاة السيد محمود المنتصر في المعتقل يوم 30 ديسمبر 1970. وقد تأثرت لذلك كثيرًا إذ كان يحبني كأحد أولاده ويحترمني ويعاملني في العمل معاملة حسنة، ولا أعتقد أنه وثق في إنسان أكثر من ثقته بي. ولم أتمكن من رؤيته منذ نقله من المعتقل إلى المستشفى بعد حادثة وقوعه في دورة المياة. ورغم أني كنت أقيم في حجرة غير الحجرة التي كان يقيم فيها في المعتقل، إلا أنني كنت أقضي معه بعض ساعات النهار والليل عندما كان في المعتقل، وكان حراس السجن ينقلونه إلى المستشفى للكشف والعلاج ثم يعيدونه إلى المعتقل باستمرار، ورغم مرضه ووضعه الصعب كانت حالته النفسية حسنة ومتفائلًا.
ولقد خرجت لأول مرة من بيتي بعد مغادرتي للمعتقل لحضور جنازة السيد محمود المنتصر وللمشاركة في مراسم العزاء في بيته. وقد قيل أن ضباط الجيش لم يبلغوا أو يسلموا جثمانه إلى عائلته إلا في اليوم الثاني لوفاته، حتى لا يصادف دفنه يوم تشييع جثمان الرئيس عبدالناصر، لأن ذلك قد يدفع ببعض الآف من المواطنين الذين تجمعوا يوم تشييع الرئيس عبدالناصر في طرابلس للمشاركة في جنازة السيد محمود المنتصر طبقًا لعادات الليبيين في احترامهم لجلال الموت.
وفاة الرئيس جمال عبدالناصر
وفاة الرئيس عبدالناصر كانت أيضًا مبعث أسى وحزن كبيرين لي. فقد أحببته منذ قيام ثورة 23 يوليو والتي عشت السنوات الأربع الأولى منها في مصر، وقد تشبعت بمبادئها وطموحات الرئيس عبدالناصر القومية، الذي كان وبدون منازع باعث القومية العربية والداعي إلى الوحدة والحرية في الوطن العربي. ولأول مرة في تاريخ العرب الحديث تتوحد الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج تحت زعامة عربية واحدة تعبر عن آمالها وأمانيها رغم الحدود المصطنعة والأنظمة الحاكمة التي فرضها الاستعمار على العالم العربي. عندما أذيع خبر وفاته على التلفيزيون انهمرت دموعي مدرارًا وبكيت بمرارة، وكانت والدتي تراقبني باستغراب، وقالت لي إن هذا الرجل هو سبب المشاكل التي تعرضت لها بعد الثورة لها فكيف أبكيه؟ لم يكن ذلك كرهًا من والدتي للرئيس عبدالناصر، والذي أصبح في جوار ربه، إنما كان ذلك راجعًا إلى حنان الأم على ابنها الذي اعتقلته حركة الضباط التى شجعها الرئيس عبدالناصر ودعم نجاحها.
أداء فريضة الحج
بعد أن أحالت الثورة والدي على التقاعد، وكان وكيلًا لكلية العلوم في جامعة طرابلس، قرر الذهاب لآداء فريضة الحج برفقة والدتي وأخي الأوسط الحاج الهادي الخبير في شئون الحج، لأنه رافق عماته وخالته للحج عدة مرات، فتوكلت على الله وقررت مرافقتهم للحج. وكانت الصعوبة الوحيدة التي واجهتني تكمن في حصولي على الإذن بالسفر، إذ كان معظم المسئولين في النظام الملكي ممنوعين من السفر إلى خارج البلاد. وبعد عدة اتصالات ومراجعات وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على سفري وحصولي على وثيقة سفر وتأشيرة الحج، وذلك بعد تأكده من عدم وجود أي تهمة ضدي في ملفات القضايا التي ستنظر أمام محكمة الشعب.
1970م - بشير المنتصر ووالده فوق جبل عرفات لأداء مناسك الحج
وهكذا غادرنا طرابلس للحج وكانت هذه أول رحلة لي للخارج بعد تغير نظام الحكم في البلاد. وبعد وصولنا إلى الأراضي المقدسة ساعدنا السفير الليبي السيد حسين بلعون، وهو من سفراء النظام الملكي السابق الذي لم يتم تغييره بعد، على الحصول على وسائل النقل والحجز لنا في فنادق "تيسير" المريحة في جدة والمدينة ومنى.
كان الحج راحة لي ولأعصابي بعد الأحداث التي مرت بي من اعتقال واعتكاف في البيت إلى هجران قسري واختياري للأصدقاء والأحباب. كان جلال الكعبة المكرمة وزيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أثر في نفسي بقية حياتي، وزاد قوة إيماني بالله والاعتماد عليه، وثقتي بنفسي لخوض مرحلة حياتي الجديدة القادمة التي أقبلت عليها بعد الفاتح من سبتمبر 1969م.
بعد الحج غادرنا الرحاب الطاهرة إلى بيروت، وبعدها سافر الوالد والوالدة إلى طرابلس وأخي الهادي إلى دمشق لمواصلة دراسته الجامعية بها، وبقيت أنا في بيروت لعدة أيام، اتجهت بعدها إلى القاهرة المدينة التي ارتبطت بها عاطفيًا حيث كنت قد قضيت فيها أحسن سنوات حياتي، سنوات الدراسة الجامعية وسنوات الشباب، وبعد فترة راحة قصيرة فيها عدت إلى طرابلس. لم تكن زيارتي هذه للأراضي المقدسة هي الأولى، فقد سبق وأن زرتها للعمرة سنة 1964م عندما رافقت الوفد الليبي برئاسة رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر لتهنئة الملك فيصل عند توليه عرش المملكة العربية السعودية. وكذلك قمت في الثمانينات بعمرة أخرى إلى مكة المكرمة عندما كنت في الأمم المتحدة أحضر مؤتمرًا للأمم المتحدة في الرياض.
بداية العمل في شركات البترول
بعد رجوعي إلى أرض الوطن شعرت بضرورة هجر حياة الانزواء التي فرضتها على نفسي. وقد سنحت لي فرصة زيارة السيد سليمان قرادة لي في البيت، وهو صديق وزميل لي في العمل حيث كان أحد المدراء في رئاسة مجلس الوزراء التي كنت أتولى وزارة الدولة فيها، والذي اختير بعد الفاتح من سبتمبر ليكون السكرتير الخاص لرئيس الوزراء آنذاك العقيد معمر القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة. وذكرت أثناء زيارته لي في البيت بأني أرغب في العمل، إلا أنني لا أعرف عما إذا كان مسموحًا لي من قبل نظام الحكم الجديد بالعمل أم لا، فأنا كما هو يعلم لا أملك شيئًا وأعيش على المرتب الوظيفي. واقترح عليّ مشكورًا بأنه في إمكانه أن يسلم رسالة محررة مني إلى رئيس الوزراء الأخ العقيد معمر القذافي أطلب فيها الإذن بالعمل. وفعلًا سلمته رسالة مني لرئيس الوزراء بهذا المعنى طالبًا السماح لي بالعمل في شركات البترول. وبعد يومين أخبرني الأخ سليمان قرادة بالهاتف بأن رئيس الوزراء العقيد معمر القذافي لا يرى مانعًا في أن أعمل في القطاع الخاص، بما في ذلك مجال البترول، ولكنه لا يسمح لي والعاملين في المناصب العامة في العهد الملكي بالعمل مع الحكومة في النظام الجديد. وهكذا بدأت البحث عن عمل في شركات البترول.
وخلال زيارتي للسيد محمد الكاديكي، المدير الليبي للعلاقات التجارية بشركة شل، الذي عمل معها لأكثر من 17 سنة، علمت منه أن الشركة تبحث عن عنصر ليبي لتولي مهام مدير إدارتها لشئون الموظفين، لأن وزارة البترول أصرت على تلييب هذه الوظيفة في جميع شركات البترول، ونصحني بالتقدم إليها، وفعلًا تقدمت بطلب مكتوب للعمل بها. وقدمني السيد محمد الكاديكي إلى مدير عام الشركة المستر بيتر هولمز، الذي كان يعرفني لقيامي بمهام وزارة شؤون البترول بالوكالة في العهد الملكي، وقد رحب بي بكل احترام واستعرض معي ملخص حياتي الدراسية وخبرتي والمسئوليات الإدارية التي توليتها، وقال لي بأنه يسر شركة شل أن تضمني إلى فريق مدرائها، ولكن نظرًا لمناصبي السابقة إبان الحكم الملكي فإنه يود أخذ موافقة وزير النفط قبل أن يقدم لي عرضًا رسميًا بالوظيفة، الأمر الذي اتفقت معه على وجوب اتباعه. وبالمناسبة المستر بيتر هولمز المدير العام لشل ليبيا آنذاك أصبح رئيسًا لمجلس إدارة شل العالمية ومنح لقب "سير" بعد ذلك.
كان وزير النفط آنذاك السيد عزالدين المبروك وهو صديق لي وزميلي في المدرسة الثانوية في طرابلس، وكذلك تشاركنا في السكن إبان دراستنا الجامعية في القاهرة. وبعد أيام اتصل بي المستر هولمز وأبلغني أن وزير النفط وافق على تعييني في الشركة بالإضافة إلى تزكيتي وبأنني سأكون مفيدًا للشركة ولعملياتها في ليبيا.
بداية عملي بشركة شل ليبيا للاستكشاف
باشرت العمل مع شركة شل في أوائل سنة 1971، وقد أوضح لي المدير العام للشركة بأنه يتحتم عليّ قضاء فترة تدريب بمركز الشركة في لندن، وحضور دورات مكثفة في الإدارة وشئون الموظفين قبل تسلمي لمهام وظيفتي من مديرها الإنجليزي آنذاك المستر جراهام هيل. كان هذا الإجراء شيئًا جميلًا بالنسبة لي، إلا أني أشرت له بإمكانية وجود صعوبة في حصولي على إذن للسفر إلى بريطانيا. وعليه بدأت اتصالاتي للحصول على إذن السفر وبعد جهد وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على السماح لي بالسفر إلى لندن.
سفري إلى لندن للتدريب
التحقت في لندن بالمركز الرئيسي لشركة شل العالمية للبترول في مبنى الشركة الشاهق في منطقة (ووترلو)، والذي يعتبر أحد معالم المدينة لزوار لندن من السواح. حضرت أثناء وجودي في لندن عدة دورات عالية المستوى في الإدارة على مختلف مستوياتها، سواءً كان ذلك فيما يتعلق باتخاد القرارات أو علم السلوك الصناعي والعلاقات بين المستخدمين والإدارة، بالإضافة إلى مواضيع شتى في معاهد عالية متخصصة. كانت بيئة العمل في شركة شل ممتازة تتناسب ورغبتي في مواصلة الدراسة في ميادين البترول التي لها مستقبل في ليبيا والبلاد العربية. كما كان عملي في لندن فرصة ذهبية للعودة إلى الحياة في هذه المدينة التي أحببتها وقضيت فيها حوالي أربع سنوات أثناء عملي في السلك الدبلوماسي.
وفي شهر ديسمبر من سنة 1971م استلمت رسالة من مدير عام الشركة في ليبيا يخبرني فيها بأن السلطات الليبية مصّرة على الإسراع في تلييب وظيفة مدير إدارة شئون الموظفين وسفر المدير الإنجليزي (جراهم هيل)، وعليه فهو مضطر إلى أن يطلب مني قطع فترة التدريب التي كنت ملتحقًا بها، واستدعائي للعودة إلى طرابلس لاستلام مهامي، التي عينت من أجلها، كمدير لإدارة شئون الموظفين بالشركة. وهكذا عدت إلى طرابلس وبدأت عملي الجديد في شركة شل ليبيا. وبهذا دخلت فترة جديدة من حياتي لا تشملها هذه الذكريات عن النظام الملكي في ليبيا، والتى سأتناولها بالتفصيل في الجزء الثاني من الذكريات، إذا كان في العمر بقية.
التعليقات (0)