مواضيع اليوم

لو خُيّرتُ ما اخترتُ

جمعة الشاوش

2010-10-24 12:16:03

0


لا أدري على وجه الدّقّة الإحساس الذي يعتمل داخل العربيّ المسكون بعروبته أو حتّى ذاك المنشغل عنها بما استطاع أن يتوفّر له من انشغال،وهو يقف وجها لوجه أمام هويّته العربيّة تُطارده مطاردةَ الجريمة لمقترفها أو المشترك في ارتكابها.ولا أخال أننا،نحن العرب،من المحيط إلى الخليج كما درجنا على القول، بحاجة إلى عرض شريط الاعتداء على شرف العروبة من جديد والحال أنّ ما يُمارس ولا يزال عليها من فظاعة يكفينا وزيادة،فالشواهد تتالى أمامنا ماثلة للتوّ تتحدّى الكرامة الإنسانية وتمعن في إذلالنا وتزدري بوجداننا بالقول: العروبة أكذوبة. لا نجانب الحقيقة في شيء بادّعائنا أنّ الرّمز اليتيم الماثل لجمع شتات الأمة العربية- جامعة الدّول العربيّة- لم يعد قادرا على الانشغال إلا بتدوين هزائمنا والحضور في جنائز الشهامة العربية في هذا البلد العربيّ أو ذاك وحثّنا على الصبر الجميل تحمُّلاً لفواجعنا.
لكن أليس مُتاحا للإنسان العربيّ أن يتنكّر لعروبته؟
أغلب الظّنّ أنّ هويته العربية تلاحقه كظلّه شاء أم أبى ،تلاحقه من خلال ملامحه ولغته وعاداته وأشيائه الخفيّة الأخرى،وحتى إن استطاع أن يطمس في شخصه معالم "الجريمة"-أقصد عروبته-فهو سرعان ما ينكشف أمره إن طُرح عليه سؤال الهويّة بقصد الإجابة المحدّدة : من أنت؟.. وعبثا يحاول المراوغة بالقول،مثلا، أنّه قرطاجنّي أو فرعوني،أو أنّه فرنسيّ أو أمريكي بموجب حيازته على هذه الجنسيّة أو تلك في حين يكون هدف الآخر المستجوب أو المستجوبة كشف القناع عن الهويّة الحقيقية لغاية التحرّي الأمني الجدّي أو تبادل مصلحة مشتركة ذات أثر دائم مثل الزّواج أو الانتداب في مخابر العلوم ذات الأهمّيّة الخاصّة أو التحالف من أجل هدف استراتيجي.
ليس أمام العربيّ الذي يُخفي عروبته في لغة تواصل حذقها غير لغته العربيّة أكانت فرنسيّة أو انكليزيّة أو صينيّة إلاّ أن ينتظر اكتشاف أمره،وعليه الاستنجاد بنزار قباني وهو ينشد:
أنا يا صديقة متعب بعروبتي فهل العروبة لعنة وعقاب؟
أو بتلك النهاية التي ذيّلتْ بها أحلام مستغانمي مقالا لها:"الحائرة أختك في لعنة العروبة."
ظلّ الواقع العربي على ما هو عليه بعد فجر نخوة كفاح التحرير وبُعيْد نشوة الإحراز على الاستقلال إلى اليوم من حيث وفائه في تشكيل مشهد دراما الهوان والتردّي وحالة العجز التي انحدرت إليها الأمّة العربية،ووقع الخطاب العربي في مأزق تمجيد الذّات أو جلدها...من مضامينه المتفائلة تلك الدّاعية إلى نبذ جلد الذّات تأسيسًا على مرجعيّة الوعظ والإرشاد التي قد تُسكّن أوجاعًا لكنّها لا تُعالجها...تلك المرجعيّة التي تقول لك - كلّما أعيتْك الحيلة في مواجهة واقعك العربي المأزوم المهزوم،وحاصَرك أينما ولّيتَ وجهك ممعنا في الازدراء بك- يقول لك بغباء وسذاجة:اُنبُشْ في قبور أجدادك فإنّك عاثرٌ على ما تتزوّد به لتحمّل آلام حاضرك العربي المعلول،واستشرف المستقبل فقد ترى في مرآته وجها مشرقا تتطلّع إليه غير عابئ بجراح حاضرك...والحقيقة أنّه في حالتي الانشغال بالماضي أو المستقبل أنت تتعمد الهروب من راهنك الذي تتجرّعُه عروبةً مُرّةً،سواءً واجهْته بشجاعة أم أشحْت عنه وجهك.
ليس ثمّة من فسحة أمل في أن تغنم من عروبتك ما يُخفّف معاناتك بسببها،إذ العربيّ يلعن في هزيمته وهوانه عروبته في حين إن جاءته النّعمة،حتى إن كانت عابرة أو مغشوشة،ردّها إلى فضل الآخر عليه أو إلى عبقريّته الشخصيّة أو اعتبرها إرث قبيلته أو طائفته وانفرد بملذّاتها يستمتع بها في نهم بعد أن يكون قد أوصد أبوابه وحدود إمارته دون شقيقه.شقيقٌ لا يتورّع في التّآمر عليه،ودون استحياء يتواطأ ضدّه مع الآخر المبجّل المتعالي المستكبر.
هل عذرنا أدونيس حين قال:
"تلْبَسُ الحداد؟
على اللّغة العربيّة؟ على العروبة؟ على العرب؟
الأسود،في كلّ حال،يليق بهذا الزّمن.
لكن لنفترض تأميلا أو ترويحا عن النّفس المعذّبة أنّه أضحى متاحا للعربيّ الاختيار بين الإبقاء على هويّته أو الانسلاخ منها؟لنفترض أنّه مرحّب به للاندماج في هويّة أخرى-تحديدا-تلك التي بحوزة شعوب العالم المتقدّم المتحكّم في مصيره،فما عساه فاعل؟
ربما تمنّى ما تمنّاه زعيم وطني-برّد الله ثراه- في أن يكون بإمكانه اقتلاع إمارته المنغرسة في الوطن العربي إلى حيث جغرافيا الغرب
أما أنا لو خُيّرتُ بين عروبتي وبين التخلّي عنها من أجل تعويضها ما اخترتُ:
لا أرغب في أن أكون الآخر المتفوّق لأنيّ أرى في صورته سببا من أسباب شقائي بعروبتي،فلا أريد لنفسي،إذن، مشاركته جريمته.وبالمقابل لا أقدر على تحمّل حزني على عروبتي،وإن كنتُ أرتاح لقول عليّ بن أبي طالب،كرّم الله وجهه:"لكلّ قلب زكاة،وزكاة القلب الحزن."...كدتُ أضيف وزكاة العروبة الحزن.
لا عجب،إذن،إن حذق العرب اليوم فنون المقاومة ولم يحذقوا فنّ السياسة على حدّ رأي برهان غليون،فهم يدفعون زكاة العروبة حزنا والسياسة لا تصلح لتكون زكاة...
بعبارة أخرى-والقول لأدونيس-:
"ما من صوت في العالم
يعرف أن يُغنّيَ الموت استهتارا بالحياة،
كما يُغنّيه الصّوت العربيّ:
أهي فضيلة أم رذيلة؟ "




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !