لفهم طبيعة الروابط التي تجمع بين الولايات المتحدة الأمريكية ودولة إسرائيل وهذا الدعم الغير مشروط من قبل البيت الأبيض للسياسة الإسرائيلية، يحتاج المرء إلى تكوين فكرة عن المجتمع الأمريكي وتركيبته الديمغرافية. فالأمريكيون شعب جد متدين. 73.7٪ منه مسيحيين، أغلبيتهم (46.5٪) من البروتستانت. وهؤلاء، الجزء الأكبر منهم من أتباع الكنائس الإنجيلية.
أغلبية هؤلاء الإنجيليين صهاينة. هم الطرف الأقوى مما نسميه "الصهيونية المسيحية". كانوا من بين المؤيدين الرئيسيين لإنشاء الدولة اليهودية في عام 1948. ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، لم يتوقفوا عن إظهار حبهم لإسرائيل بشكل صريح وعلني وإصرارهم على الدفاع بكل الوسائل وبكل ما أوتوا من قوة عن وجودها.
دعمهم لإسرائيل كان في البداية روحانيا صرفا ينحصر في الصلاة. ومع الوقت تطور هذا الدعم واتخذ أشكالا مادية لتسريع وثيرة إعادة اليهود إلى أرض أجدادهم. وفي هذا السياق، العديد من المنظمات والجمعيات أنشئت لتقديم الدعم المالي واللوجستيكي للإسرائيليين واليهود في جميع أنحاء العالم.
دائما في نفس السياق، أصبحت تقوم بعض الكنائس الإنجيلية بتنظيم احتفالات سنوية تكريما لإسرائيل واحتفالا بالأمة الإسرائيلية والروابط بين اليهود والمسيحيين. وتتخلل هذه الاحتفالات أنشطة لجمع التبرعات، تقدم لجمعيات تنشط بالديار اليهودية.ثم تحول هذا الدعم إلى دعم سياسي بعد أن كثرت أعداد الإنجيليين الصهاينة وتقوت شركاتهم ونفوذهم الاقتصادي.
ولضمان دعم أبدي لإسرائيل، أنشأ هؤلاء المسيحيون منظمات وجمعيات شغلها الشاغل، مراقبة من ينتقدون إسرائيل، جمع معلومات حولهم وإطلاق حملات إعلامية لهدمهم وتشويه صورتهم لدى الرأي العام، وأخرى تراقب وسائل الإعلام وتعمل على تهييج المجتمع الأمريكي وخصوصا المستشهرين ضد المنابر الإعلامية التي لها خطوط تحريرية معاكسة للفكر الصهيوني. كما قاموا مؤخرا بإنشاء مؤسسات جديدة، نشاطها يتجلى في مراقبة عمل الجامعات التي يشتبه في تعاطف مسؤوليها مع القضية الفلسطينية ومعاداتهم للصهيونية وتقديم تقارير عنها.
لما يفعلون كل هذا ؟! ببساطة لأنهم يرون في حمايتهم ودعمهم لمصالح إسرائيل "عبادة مقدسة" و "شكل من أشكال التقرب إلى الرب". فالإنجيليون هؤلاء يعطون أهمية كبيرة للعهد القديم (التوراة) ويقرؤونه قراءة حرفية. جذور صهيونيتهم نجدها في العديد من أجزاء كتابهم المقدس، وخاصة في رؤى نهاية العالم من سفر دانيال وسفر حزقيال، وكذلك في سيناريوهات آخر الزمن التي جاءت في العهد الجديد (الإنجيل).
هم يعطون لهذه الرؤى تفسيرات جيوسياسية. بالنسبة لهم، الأحداث التاريخية لهاته المصادر الدينية يجب أن تقرأ وفقا لسيناريو يؤدي بالضرورة إلى عودة المسيح ونهاية العالم في نسخته الحالية. وبهذه الطريقة، يرون في تهويد إسرائيل الكبرى (أي إسرائيل الحالية والأراضي الفلسطينية) وعودة القبائل الإثني عشر لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة "واجب ديني" و "التزام اتجاه الرب" من شأنه أن يعيد يسوع إلى الكرة الأرضية ويحقق النصر للمسيحية.
استعادة اليهود لأرض أجدادهم هي كذلك في نظرهم "هدية من الله" أحلت "البركة" على الولايات المتحدة الأمريكية وجعلت منها الدولة الأقوى والأعظم في العالم. هم يعتقدون أنه كلما زادت مساندتهم ودعمهم لإسرائيل كلما زاد حب الله لهم وزادت بركاته ونعمه عليهم. الأمر هذا يدفعهم إلى النظر للفلسطينيين كمعارضين للإرادة الإلهية، أعداء للرب، وعقبة أمام عودة المسيح للأرض يجب إزالتها والتخلص منها بأي شكل كان.
معتقداتهم هذه ألهمت ولا تزال تلهم العديد من المواقف الدبلوماسية والعسكرية لأمريكا. بالنسبة لهم الحرب في العراق والمعارك السياسية التي يشنها البيت الأبيض ضد إيران وسوريا وبقية أعداء إسرائيل هي "التزام ديني"، "عبادة مقدسة" من شأنها أن تسرع عودة المسيح إلى الأرض. كذلك يرون في اغتيال القادة المناهضين للصهيونية مثل صدام حسين ومعمر القذافي وفي معاناة الشعوب المسلمة ومقتل العديد منهم جراء الحروب "انتقام إلهي من أعداء إسرائيل".
هم كذلك ينظرون إلى إصابة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون سنة 2006 بجلطة سببها نزيف دماغي حاد تسبب له في فقدانه لوعيه ودخوله في ما يعرف طبيا بالحالة الخضرية الدائمة التي انتهت بوفاته بعد ثماني سنوات (2014) على أساس أنها "انتقام رباني" وعقاب على تفريطه في أراضي من حق إسرائيل وقيامه صيف 2005 بإخلاء المستوطنات الإسرائيلية ومعسكرات الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة وأربع مستوطنات أخرى في شمال الضفة الغربية.
فهم يرفضون كل القرارات والسياسات التي تصب في اتجاه التخلي عن جزء ولو بسيط مما يسمونه "أرض الله الموعودة للشعب اليهودي" ويعتبرونها "عرقلة" و "نسف" لمخطط عودة المسيح. ولهذا هم يدفعون بحكوماتهم إلى عرقلة جميع محاولات التوفيق في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين والوقوف حائلا أمام وساطة كل من الأوروبيين أو الدول العربية المعتدلة وإجهاض كل مجهوداتهم لإحلال السلم بالمنطقة. ناهيك عن تحريك قادتهم لتفعيل حقهم في الفيتو وإقبار كل قرار أممي يقضي بمعاقبة إجرام إسرائيل ضد الإنسانية وسياساتها الاستعمارية.
على المستوى الوطني، هم كذلك يقومون بقطع الطريق على كل مرشح أمريكي معروف بمعاداة السياسات الإسرائيلية يرغب في ترأس الولايات المتحدة الأمريكية. وليس مستبعدا أن يكونوا هم من يتخفون وراء مقتل جون كينيدي بسبب رفضه السماح لإسرائيل بتصنيع القنبلة النووية.
كثرة أعدادهم بالولايات المتحدة الأمريكية وتملكهم لأقوى شركاتها ووسائل إعلامها يجعل منهم "مجموعة الضغط" الأكثر تأثيرا على سياسات البيت الأبيض. أصواتهم تؤثر بشكل كبير على نتائج المعارك الانتخابية ثم بعد ذلك على مواقف وأداء المرشح المنتخب. فحتى لو استغنى المرشحون للانتخابات الأمريكية عن أصواتهم فلا يمكنهم الاستغناء عن دعمهم المالي والاعلامي لتموين وإنجاح حملاتهم الدعائية. وهذا الدعم، هم لا يقدمونه مجانا. مقابل دعمهم، أن يلتزم المرشح بالدفاع عن مصالحهم وسياساتهم بما فيها حماية ودعم إسرائيل من داخل سلطات الجمهورية.
وحتى لو فرضنا أن رئيسا أمريكيا أفلت من قبضتهم الحديدية فسيجد نفسه محاصرا من طرف عملائهم القابعين بالكونغرس الأمريكي. فمن بين المائة عضو بمجلس الشيوخ، 70 على الأقل يكونون على الدوام خاضعين بشكل أو بآخر للوبي الصهيونية المسيحية الأمريكية. كل هؤلاء مجندون للدفاع عن الدولة اليهودية ويصوتون بشكل أتوماتيكي ضد كل قرار للبيت الأبيض أو اقتراح يتعارض مع المصالح العليا لإسرائيل.
فعلى سبيل المثال، كان الرئيس الأمريكي جيرالد فورد يستعد في عام 1976 لدعوة إسرائيل بشكل علني إلى احترام المواثيق الدولية والامتثال لحدود عام 1967. رسالة من أعضاء مجلس الشيوخ جعلته يتراجع عن قراره هذا وإلغاء الخطاب الرسمي الذي كان يعتزم القيام به بشكل نهائي. كما كانت هناك محاولات رئاسية للتخفيض من قيمة الدعم المالي المقدم لإسرائيل، كلها باءت بالفشل.
فمنذ عام 1985 إلى يومنا هذا، تم منح ما لا يقل عن 100 مليار دولار أمريكي من المساعدات العامة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل. وهذه المنح والمساعدات لا تتوقف أبدا ولا تعرف قيمتها الانخفاض حتى عندما تعرف صناديق وحسابات أمريكا الخسارة أو يكون اقتصادها في وضعية أزمة أو في حالة عجز خطير. فبالنسبة لممثلي لوبيات الصهيونية المسيحية داخل مجالس الكونغرس الأمريكي، دعم الدولة العبرية والسهر على حمايتها خطان أحمران ومهمتان مقدستان لا ينبغي لأحد المساس بهمامهما كانت الأحوال.
التعليقات (0)