لن يصدق الناس إتهام البشير لمصر ما لم ...
مصعب المشرّف
27 مايو 2017م
بعد خروج الرئيس السوداني عمر البشير على الملأ. وتحديده بكل حزم وثقة تورط الحكومة المصرية في الدعم والتخطيط ، وتمويل غزوة دارفور (21مايو 2017م) بقيادة ميني أركو مناوي ... وإعلانه في مكاشفته الصريحة تلك غنيمة دبابات ومدرعات مصرية ... فقد كان الرأي العام السوداني والعالم يتوقع أن يتخذ السودان إجراءات قوية من شأنها تعزيز إتهاماته تلك التي جاءت على لسان رئيس الجمهورية الذي يعتبر في كل البلدان أعلى مستوى السلطة التنفيذية ؛ وبما يجعل من كلماته وتصريحاته وقعها الإستثنائي ......
للأسف فقد كان قصارى ما إتخذه السودان هو إستدعاء السفير المصري .. وإعتبرت وزارة الخارجية السودانية أن ذلك الإستدعاء هو "نصر" في حد ذاته .. أو كأنها إستدعت السفير الأمريكي ؛ وليس سفير دولة جارة من دول العالم المتخلف ؛ تعتاش على المعونات والعطايا والمنح والهبات مثلها مثل غيرها من الدول والشعوب الغلابة في القارة الأفريقية.
في عام 1976م حاول مرتزقة بقيادة تحالف الأحزاب السياسية السودانية مدعومين من ليبيا القذافي ، للإطاحة بالرئيس جعفر نميري (رحمه الله) ونظامه السياسي بالقوة ..... فما كان من نميري إلا أن بادر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا , وإعلان العداء السافر للقذافي حتى رحيله عن السلطة جراء إنتفاضة أبريل 1985م.
كذلك سارع النظام المايوي آنذاك إلى إنزال الشعب إلى الشارع ... وخرجت مسيرات حاشدة تعلن عن شجبها وإستنكارها للتدخل الليبي بالدعم والتمويل لمجموعات هي بالطبع سودانية .. ولكن درج التوجه الإعلامي العام على تسميتها مجازاً بالمرتزقة.
اليوم ؛ وفي عصر حرية وسهولة إنتقال المعلومة . فقد سبق تصريح الرئيس بإتهام مصر . سبقه نزول العديد من الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو إلى الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل . والتي توضح بكل جلاء مصرية هذه المدرعات والناقلات والدبابات .. وكذلك تواجد أكثر من عنصر مصري ضمن مجموعة الأسرى .....
ولكن بعد كل هذا نفاجأ بأن أقصى ما إستطاعه السودان الرسمي هو إستدعاء السفير المصري في الخرطوم إلى وزارة الخارجية السودانية... والذي جاء إلى مبنى الوزارة وخرج منها كما جاء ؛ نافخاً أوداجه نافشاً ريشه مسبلاً أهدابه ؛ يمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل .... أو كأنه يحاكي ويقلد هنا المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر. الذي حكم مصر من وراء ستار لمدة ربع قرن.
الأكثر إثارة للحنق والأسى على الكرامة السودانية التي باتت مهدرة على الساحة المصرية . أن وزارة الخارجية لم تكلف تفسها حتى مشقة إستدعاء السفير السوداني في القاهرة للتباحث معه والمشاورة. تماشيا بما تقتضي الأعراف الدبلوماسية في مثل هذه الحالة.
لم يتم إنزال حشود جماهيرية إلى الشارع .... ولم يسارع السودان إلى إلغاء إتفاقية الحريات الأريع المثيرة للجدل . والتي جلبت آلاف الجواسيس المصريين للبلاد .. وجلبت أطنانا من المخدرات وحبوب الهلوسة لتدمير الشباب السوداني من الجنسين.
كذلك لم تصدر أحزاب الوفاق السودانية بيانات شجب وإستنكار ؛ رغم أنها أكلت من الكيكة ولا تزال ..... أو كأن الأمر لا يعنيها من قريب ولا بعيد ..... حتى حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي لم يحرك أحدهما أو كلاهما ساكنا رغم مواقفهما التاريخية المعلنة بشأن طبيعة العلاقة مع الجارة مصر . ناهيك عن أن تفعل أشلاء الأحزاب التي تعيش في جلباب الختمية والبيت الميرغني... والممولة ومدعومة أصلاً من مصر.
ستظل إتهامات الرئيس البشير لمصر معلقة بين السماء والأرض حتى يشفعها بإجراءات دبلوماسية صارمة يزكي بها حصاد الألسنة.. ونتوقع أيضاً الإعداد لإستعراض قوة عسكري على الحدود مع مصر...... وإجراء مناورات عسكرية بالمشاركة مع الجارة أثيوبيا في منطقة شمال بورتسودان أو على مرأى من حلايب ....
كذلك ننتظر تصعيد عربي أفريقي آسيوي دبلوماسي على أعلى المستويات (ولا ننسى هيئة الأمم المتحدة) ؛ للتنوير وشرح ما حدث ؛ وشفاعته بالأدلة والمستندات .. وحيث نتوقع بالطبع أن كافة الدول العربية والأفريقية وشعوبها قد إطلعوا على أخبار وصور وفيديوهات هذا الغزو والدعم والتمويل المصري من خلال حساباتهم الألكترونية والفضائيات المتلهفة لإلتقاط وبث كل خبر جديد.
كذلك ؛ وعلى مستوى الجبهة الداخلية والأغلبية الصامتة . فإنه دون إتخاذ إجراءات وردود أفعال صارمة ؛ سيذهب الشعب السوداني قاطبة والرأي العام العالمي إلى الظن بأن إتهامات رئيس الجمهورية لمصر مجرد محاولة من النظام السوداني لإلهاء شعبه عن مشاكله ومطالبه اليومية .. وحـشـد الصفوف خلف قيادته في مثل هذه الظروف التي ترفع من مستوى حامض الأدرينالين . وتستدعي نداء الواجب ورغبات الفداء ، والإستشهاد لأجل تراب الوطن.
أقصى ما يمكن أن يحتمله نظام سياسي شمولي هو مجرد تفكير الآخر في إزاحته عن كراسي الحكم بالسلم أو بالقوة.... وبالتالي فإنه ما من أحد إلا ويتوقع ردود أفعال قوية صارمة .. وحيث لا ننسى أحكام الإعدامات التي صدرت قبل ذلك في حق 28 من ضباط القوات المسلحة بعد فشل محاولتهم الإنقلابية (22/4/1990) . وتم التنفيذ عشية عيد الفطر السعيد إمعاناً في التأكيد على الحسم....... فإين حزم وحسم اليوم من حزم وحسن البارحة؟ ... أم هل يرغب النظام في أن تطاله السخرية ويتهم بمقولة: "أسـد علينا وأمام أولاد بمبة نعامة"؟
الشاهد اليوم أن هناك معالجات سرية وطبخات دبلوماسية ؛ أدناها الصمت وأقصاها أن يعترف السودان بطريق غير مباشر بعدم حدوث تدخل مصري سافر في غزوة أركو ميناوي الأخيرة لدارفور ؛ وبحيث يؤدي هذا الإعتراف الضمني إلى إغلاق المحضر و ستر المفضوح ، وعفا الله عما سلف.
التصريحات الرسمية السودانية (المائلة للين) تدور في فلك التسليم بأن هذه الدبابات والمدرعات المصرية التركيب والذخائر المصرية الصنع إنما جاءت إلى أيدي مني أركو مناوي من تنظيم حفتر مباشرة.... على إعتبار أنه مجرد تنظيم وليس دولة ..... وأن الأخير سلمها إلى ميناوي دون إستشارة المخابرات المصرية.
كذلك من المتوقع فرز الأسرى المصريين عن السودانيين والمرتزقة .. والزعم لاحقاً أنهم ليبيين تابعين لحفتر ، صاحبوا الغزو بصفتهم "خبراء" صيانة أجانب.
مثل هذا السيناريو لو حدث واكتمل ورضي الرئيس عمر البشير بإخراجه . فإننا نذكر هنا بأن هناك دماءاً سودانية قد سفكت وسالت على الأرض التي دارت فوقها المعارك .. وسواء أكانت هذه الدماء من الجانب الحكومي أو من جانب قوات مناوي . فإنها تظل دماء سودانية غالية ؛ لا ينبغي أن تضيع هدراً وتذهب كـزبد السـيـل جفاء.
ولا أدري ما هي الرجاءات والمصالح التي يظن السودان ونظامه السياسي أن مصر ستحققها له أو يمكنها تحقيقها؟
منذ فجر التاريخ وخاصة ذلك الموثق بدقة إبتداءاً من إحتلال الهكسوس لمصر عام 1789 ق.م (على الأرجح) ؛ ظل السودان هو الذي يعطي ويمنح مصر من ثرواته وجنوده . ولا يجد من مصر سوى الجحود والإستهزاء والتبخيس وتقليل القيمة . ونكران الحميل وطلب المزيد .... والغزوات السريعة التخريبية الإجهاضية.
وخلال التاريخ المعاصر ؛ حاول النظام السوداني من قبل الإستعانة بـ (نفوذ) مصر لحل مشكلة الجنوب .. فكانت الطامة أكبر . وجاءت الحلول على طريقة "جا يكحلا عماها" ....
ولم يترك القصر الجمهوري وداً ولا صاعاً إلا وبذله لمصر وشعبها . فمنح كل لاعب من لاعبي منتخب مصر لكرة القدم وجهاز الفريق الفني هدية عينية عربة صالون فاخرة لم تمنحها لهم حتى بلادهم ...
وسافر على عثمان طه (النائب الأول سابقاً) إلى القاهرة خصيصاً ليوزع الأموال على منتخب مصر القومي دون مبرر ولا داعي وطني يلبي مصلحة السودان الذي دفعت تلك الهدايا وهذه الأموال السائلة من حصيلة ثرواته وموارده... وكان هو الأولى بها.... وربما لو أنفقت هذه الأموال على تجهيز وتدريب وإعداد الفريق القومي السوداني ، لكان قد حقق نتائج ومراكز مرموقة في البطولات الأفريقية... وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم وشهدنا من المهازل العجائب حين إستقبل الرئيس السيسي (المستجد على المنصب) .. إستقبل الرئيس عمر البشير الأقدم في الرئاسة منه ؛ دون أن يكلف البروتوكول المصري الرسمي نفسه تكبد مشاق وضع العلم السوداني خلفه .. لا بل وتمادت عنجهية "أولاد بمبة" فوضعوا في الخلفية خريطة سياسية حديثة لمصر ضمنوها أرض حلايب وشلاتين....
ولم يفيق الشعب السودان من فلقة الدماغ والصدمة تلك حتى فوجيء بمرآى رئيس الجمهورية بجلالة قدر منصبه الدستوري يستقبل بحفاوة بالغة مطرب مصري (نص كُم) إشتهر بأغنية تقول كلماتها السوقية الهابطة: "الله عليك يا سيدي" .... "قلبك داب في إيدي".
كل ذلك لم يفيد ولم يجدي نفعاً في مصر ولا في حكومتها لجهة المساعدة على رفع العقوبات الأمريكية عن السودان .... أو لجهة إيجاد حلول يتفادى بها الرئيس البشير مذكرة المثول أمام المحكمة الجنانية الدولية.....
كل هذا وغيره يشير للأسف إلى أننا في الواقع نعطي لمصر وحكومتها حجماً فوق ما تستحق لجهة قدراتها ونفوذها ، رغم أنها ليست دولة عظمى .. ولا ترقى حتى إلى وصفها بأنها دولة عالمية محورية من الدرجة الثانية بوزن اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية .... أو حتى ذات قدرات نووية مثل كوريا الشمالية.
ولعل الأطرف من كل هذا أن الكونغرس الأمريكي أدخل مصر في قائمة الدول المصدرة للإرهاب ..... ثم وقررت نفس الهيئة التشريعية في الولايات المتحدة تخفيض المعونات السنوية إلى مصر بمقدار النصف ,.. ووصف أعضاء بارزون في الحزب الجمهوري داخل الكونغرس .. وصف مصر بأنها أصبحت بالوعة معونات.
ولا أشك مطلقاً أنه غداً إذا حدث وأطلقت مصر طلقة واحدة تجاه أثيوبيا القلعة الأفريقية المسيحية التليدة .. فإنها ستكون القاضية والراجفة التي تتبعها الرادفة.
لأجل كل ذلك وكثير غيره . لا يزال الشعب يتساءل فيما بينه عن سر هذا الخنوع وطأطأة الراس في حضرة مصر.
ما هو الداعي لكل هذا التراخي والعجز حتى عن المعاملة بالمثل . ناهيك عن الردع ومحاسبة العملاء ؛ ومحاصرة الآلاف من المصريين الذين يجوبون المدن والقرى والحلال السودانية منذ سنوات وحتى يومنا هذا... يجمعون المعلومات ويلتقطون الصور وأفلام الفيديو .... ومنهم من إنتحل صفة بائع عـدة المونيوم ودخل على النساء في بيوتهن وزنا بهن.
واضح أن هناك (مساحة عمياء) في العلاقة بين البلدين ؛ منحت مصر كل هذا التفوق النفسي ؛ والنفوذ المذهل من القمة إلى القاع .. وتفعل فعل السحـر وسط فئات متعددة وأعمار متباينة من الجنسين أبناء الشعب السوداني........
ولنا في تحليل ذلك عودة بإذن الله.
التعليقات (0)