مواضيع اليوم

لن يحصل انفجار

شيرين سباهي الطائي

2010-04-21 19:30:20

0

طلبتُ منها أن لا تضَعَ "الثُّوم" في طبخة "المُلوخيّة" فما كانَ منها إلا أن أَظْهرَتْ جميعَ قَسَمَات العَجَب والاستغراب من طلبي هذا بحجّة أنّ صناعة "الملوخيّة" لا تتمُّ بغير "الثّوم" بل ولا يُمكنُ أن تكونَ كاملةَ الأركان بغيره وربّما فقَدَت هذه الطّبخة العريقة اسمهَا وماهيَّتها إن لم يكُنْ "الثّومُ" حاضراً بقوّة في طَهْيِها’أخبرتُها بأنّ أُمّي كانتْ تُجيدُ تحضيرَها "بثومٍ" ومن غيرِ "ثوم" فزادَ عجَبُها وضاعَتْ محاولاتي إقناعَها أدراجَ الرّياح وخَتَمَتْ حديثَها بأنّها هكذا تعلَّمتْها ..

وفي المُقابلِ سألني أحدُهم كيفَ يفتحُ حساباً مصرفيّاً في أحَدِ البنوك وقبلَ أن أُفتيه بما يحضُرني حيالَ هذه المسألة العويصة والدّقيقة سألتُه عن السبب وراءِ رغبته في المعرفة فقال لي بأنّ الوظيفة التي التحقَ بها طلبَتْ منه ذلك لأنّ المرتّبَ سيودعُ في الحساب كلّ آخر شهر،وزادَني كلاماً بأنْ فضفضَ لي أنّه منذ سنوات يُفكّرُ في أن تكونَ له بطاقةٌ للصرف الآلي مثلَ بقيّة خلقِ الله لكنّ الفرصة لم تسنَحْ وهوَ لا يعرفُ كيفَ يحصُلُ عليها لذلك سأل،ولمّا أجبتُه بما أعرِفْ قالَ "لو أنّي أعرفُ أنّ الأمر بسيطٌ جدّاً ما كنتُ سألتْ،لو أنّي أعرفُ أنّ البنكَ قريبٌ جدّاً ما كنتُ نطَقَتْ" ..

وفي الجهةِ الأخرى طلبَ منّي صديقي في اتصالٍ هاتفيّ أن أقومَ بالاتصال بصديقٍ آخر مشتركٍ بيننا لأطلبَ منه أن يُحضَرَ له قليلاً من "الشاهي الأخضر" الذي انتهى لديه وليسَ لديه مواصلات ليُحضره،ورغمَ أن صديقنا مستودع الخير هذا يقطُنُ قريباً من "منقطِع الشاهي" بينما أسكنُ أنا على بعد عشرين كيلومترا من الاثنين إلا أنّ حُجّةَ صاحبنا بأنّه لم يطلبُ من ذلك الشخص شيئاً من قبل ويخشى المُغامرة في تجربةٍ لا يعرفُ منتهاها،وبإلحاحٍ منّي مخلوطٍ بامتعاض جرّبَ ونجَح ..

في حينِ أنّني سمعتُ من الكبار في السّن أن شابّاً رغِبَ في الزواج فأخذَ يُملي على أبيه قائمةً طويلة من طلَبات إقامة وليمة العرس والأبُ يكتبُ ويسمَع ولمّا انتهى الابن من سردِ المستلزمات التي تتطلّب رصيداً ماليّاً كبيراً يعتبره الوالد من قبيل الإسراف والتبذير الذي لا طائلة من ورائه قال لابنه وهو يقرأُ من تلك الصحيفة آمراً الشاب أن يأخذَ ورقةً وقلماً ليسجّل الملاحظات،ماذا سيحصُل يا ولدي إذا لم نشتر كذا؟فيجيب الابن بأنّها فضيحة،فيأمرهُ الأب أن يسجّلَ فضيحة في الورقة،وهكذا حتى قضى على ثلاثة أرباع الطلبات وتجمّعت أكثرُ من عشرين فضيحة فقالَ الأب سجّلْها فضائح على أبيك وسأقيمُ العرس بدونها ..

وقلتُ لطالبٍ كنتُ أدرّسُه مادّة "القرآن الكريم" لِمَ لا تَحفظ بطريقة الكتابة؟ فاستغرَبَ من اقتراحي وقالَ كيفَ أكتبُ "القرآن الكريم" فأجبتُه "اكتبْهُ فلنْ يحصُلَ انفجار" فضحكَ الطالبُ وبدأ يكتبُ ما يحفظه من القرآن في طريقةٍ للتسميع ذاتيّة تجعلُ الذهن يستذكرُ ما كتبَ ويُتقِنُ حفظَ ما أخطأ فيه وبحمد الله تعالى لم يحصل انفجارٌ في الورق ولا في ذهن الطالب ولا في القاعة التي كُنّا نتناقشُ فيها ..

ماذا لو جرّبَ إنسانُنا العربي كلّ ما يخطُرُ في باله من اهتمامات وأمنيات وأخطأ في مرّة أو مرّات ثم فرِحَ بانتصاره عندَ المرّة الحادية والخمسين بعد المائتين؟ وماذا لو اقتحمَ طفلنا العربي مَجالَ الاعتماد على حدْسه وجرأته ومحاولاته؟ وماذا لو اقتنَعَ نصفُ سكان عالمنا العربي بأنّ ما لديهم قد لا يكونُ هو الأصح،وما لدى غيرهم قد لا يكونُ هو الأفضل،وما ورثوه قد لا يكونُ هو المناسب،وما تعلّموه قد لا يكون هو الكافي،وما غابَ عن عقولهم قد يكونُ على مرمى حجرٍ منهم؟ ..

مُشكلةُ كثيرٍ منّا أنّه رسَمَ لنفسه ومن يعولُ مستطيلاً وحبَسَ فيه الفهمَ والتفكير والطّموح وأقسمَ لهؤلاء الثلاثة بأنه "لا يُريهم إلا ما يرى" فلا مجالَ للخروج ولا مناصَ من الاستسلام،فكلّ جديدٍ خرقٌ للعادات وكُلّ مستحدثٍ هو من نتاج غزوٍ فكريّ وكلُّ فكرة مُصادرَةٌ لأنّها من صغيرٍ في السنّ لم يجرّب ولم يعرفْ الأمور وكلّ ثائرٍ أحمق وكلّ مُناهضٍ عاصٍ وكلّ مُخترعٍ ساحر ..

معَ أنّ معيشتنا العربيّة اليوم قائمةٌ على كلّ شاردٍ وواردٍ من أفكارِ مجانين الموضة ومساطيل الأكلات ومهابيل التقنيات،ونتلقّى تلك التجارب بصدرٍ أرحبُ من صحراء الربع الخالي أو الصحراء الكبرى ولا نشعرُ بامتعاضٍ ونحنُ نشتري الجديد في عالم الدواء أو الغذاء أو الهواء وهو ما يزالُ قيدَ التقييم ومعرفة جودته من عدمها،ولا يصدُمنا ولا يؤثّرُ فينا إن كُنّا "فئران" تجارب أو "حملان" محاولات ..

للمعرفة أبوابٌ كثيرة وطرقٌ أكثر ومفاتيحُ كُثْر،وللعلم أدواتٌ متغيّرة ومكاييل مختلفة وأوزانٌ متعدّدة،ولم يستطع فيلسوفٌ ولا مُفكّر أن يحجُرَ على بني آدمَ سبيلاً يتلقّونَ من خلاله علماً أو معرفة طالَما بقيَتْ في الإنسان الطبيعيّ غريزةُ التّجربة وحُبُّ المُغامرة وإلحاحُ المُحاوَلة ..

هناكَ خوفٌ كبير غيرُ مُبرَّرٍ في قلوبنا من استكشافِ الأخطاء ومحاولة إصلاحها ذاتيّاً بالرّغمِ أن أجهزِةَ الحاسب الآلي عوّدَتْنا على هذه الطريقة من خلال برنامج "الويندوز" العملاق،وهناكَ استخفافٌ عظيم بقدرة الإنسان الكامنة في نفسه أنه يستطيعُ الوصول للحقيقة دونَ مُعلّمٍ يفرِضُ رأيه قَسْراً على التلاميذ حتى إذا شابوا لم يأبهوا بالمُستَجد ولم يهتمّوا بالتطوير فحسبُهم ما قالَ لهم أستاذُهم ..

لو ترَكْنا الوِصاية على الحلول لوَجَدَ ابن العاشرة منفذاً مريحاً لإقناع من يتحرّشُ به جنسيّاً أن ذلك خطأ،ولو صبرنا على فتاة العشرين لعرَفَتْ كيفَ تأخذُ حقوقها دونَ أن يُشمّرَ دعاةُ تحرير المرأة عن سواعدهم المليئة بوشم التخبّط،ولو جرّبَتْ كلّ أمّةٍ أن تستفيدَ من خبرات أفرادها وقدرات شعوبها وتيقَنَتْ بأن الخطأ يقودُ للصحيح والفشَلَ مفتاحُ التألّق لعدَوْنا فسبَقْنا ظِلّنا ..

مصيبةٌ اسمُها "الجاهز" هي التي أودَتْ بنا في هذه الحالة المريرة عبيداً لمن يُخبرنا كيفَ العمَل؟ وأينَ الطريق؟ ومِمَّ الخلل؟ وماذا نفعَل؟ وأيُّ شيءٍ سنجنيه؟ فرضينا بالوجبَات الجاهزة والملابس الجاهزة والبيوت الجاهزة والحلول الجاهزة،بل وعمَدَ تعليمنا ومُرَبُّونا "لتحضير الدروس الجاهزة" وغضَّ أكاديميّونا في الجامعات الطّرفَ عن اعتماد الطلاب والطالبات على البحوث الجاهزة والدراسات الجاهزة ..

مُتأكّدٌ أنا بأنّ "للمولخيّةٌ" طعمٌ آخر من غير "ثوم" ومتيقّنٌ أنا بأنّ لمنزلي طريقٌ أخرى توصلُ إليه غيرَ تلك التي أعرفُها،ومؤمنٌ أنا بأنّ ربي قال "وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَليلاً" وأنّه قال "وفَوقَ كُلِّ ذي عِلمٍ عليمٌ" ..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات