لن ترتفع المآذن في سويسرا بعد اليوم.ا..
هذه آخر صيحات الموضة الغربية تفتّقت عنها مواهب السويسريين في استفتاء جاء ليحظر بناء المآذن على أرض وطنهم.
سويسرا،كما هو معلوم،بلد الجمال والحرّية والحياد والتسامح والتعايش بين الأعراق والديانات والأجناس،ومع ذلك استنفرت قوّاها مُستكْثرة على مسلميها شموخ مئذنة في هندسة معماريّة منسجمة مع تضاريس البلاد الجبلية...تُرى هل الذّوق السويسري صحا على أنّ الشموخ حتى إن كان معماريا يُؤْذي المشاعر ويُنغّص على الناس مُتعهم الحياتية ويخنق أنفاسهم؟...إذا كان الأمر لا يعدو أن يكون ذوقا جماليا فإنّ أخشى ما نخشاه على هذا البلد المُبهر أن يمتدّ الحظر على جباله في استفتاء يأذن بإزالتها،وهي الجبال التي يطيب للولوعين بالتزحلق الحجّ إليها وتهفو أنفس المترفين إلى الاسترخاء والنقاهة بين أحضانها...
إنّ الشعب السويسري كتضاريس أرضه سحرُ جماله ومواطنُ إبهاره تكمن في هذا التنوّع الخلاّق الذي يُميّزه فكرا وعقيدة ولونا يتظلل بظلال أشجاره الوفيرة حرّية وتسامحا ورغد عيش...
إنّ تسطيح الثقافة هو تسطيح للتضاريس،وجمال سويسرا في تضاريسها الطبيعية والبشرية...والمئذنة هي كأيّ معلم يُفصح عن تنوّع ثقافة شعب وتواصل حوارها الخلاّق من أجل تجذير محبّة الوطن والإخلاص له وبناء عظمته...بناء الصومعة هي لبنة في بناء النّسيج المتماسك للمجتمع السويسري...
لماذا،إذن،صوّت السويسريون لمنع بناء الصّوامع في بلادهم؟..
لماذا يخرقون دستورهم ويعتدون على علمانيّتهم بهذا القرار المتسرّع،إذ هو إجراء قبل أن يُوحيَ باستهداف المسلمين في رمز دينيّ يستهدف العلمانية في جوهرها،العلمانية مُقامة على ألاّ تحشر أنفها في الدّيانات وتنأى بنفسها عن مزالق تسييسها وتُقرّ بحرّية المعتقد وتأمين حقّ المواطن في ممارسة شعائره...
إنّهم يدّعون أنّ المئذنة "رمز سياسي ديني" والحال أنّ حظرهم للمئذنة هو الذي ينطبق عليه هذا الادّعاء الذي يجرّ المعتقد الديني إلى المحظور في علمانية الغرب،مصدر فخره وتباهيه.ثمّ إذا سلّمنا،جدلا، بادّعائهم أليس من العدالة التي يتبجّحون بها أن يسريَ الحظر على سائر رموز الدّيانات الأخرى وشعائرها؟..
والحقيقة أنّ التطرّف السياسي هو لا يختلف عن التطرّف الديني الذي يتعلّلون بالخوف منه،بل إنّ اليمين المتطرّف السّويسري بحزبيه الشعبوي والمسيحي هو الذي تخفّى بالدّيمقراطيّة ليُلطّخ جبينها بوحل حقد دفين على ديانة التسامح في بلد التّسامح...وهو فعل متعصّب مُتشنّج يُهدّد القيم النبيلة التي يقوم عليها التّعايش ويُذكّي مشاعر الحقد بين الدّيانات...ولسنا فيما نقوله خروجا عن نصّ ما صرّح به مثلا "كوشنير" وزير خارجية فرنسا التي،هي الأخرى، لامست محظور علمانيّتها في منعها للحجاب.
"إذا كنّا لانريد بناء مآذن"،والكلام لكوشنير،"فهذا يعني أننا نقمع ديانة..هل يُشكّل بناء مُرتفع قليلا ضررا في بلد فيه جبال؟.."
وإذا كانت إجابة اليمين المتطرّف في سويسرا تقول أنّ المئذنة رمز لهيمنة السّلطة الإسلامية،فإنّه بات واجبا التّنبيه إلى أنّ الحماقة يجب ألاّ تقود إلى حدّ منع الشّموخ الإسلامي حتّى في صومعة"ترتفع قليلا" عن الأرض...
ولئن نُقرّ بحرّيّة الشعوب في قراراتهم،ونغبطهم على ممارستهم للفعل الدّيمقراطي فإنّ التّحذير مطلوب من مغبّة أن تتحوّل الديمقراطية إلى سيف يقمع الأقلّيات وتحديدا الإسلامية منها...والشعب السويسري الذي انقاد،مغرّرا به،بآلة تعبويّة إعلاميّة مُتطرّفة أوقعته في شراك التناقض مع القيم التي تحكمه،لا تزال أوصاله تنبض بالدفاع عن حرّيّة الرّأي والمعتقد وممارسة الشعائر وحتى الشّذوذ...والذين لم يُصوّتوا منه لفائدة حظر المآذن ليسوا مسلمين،فحسب،بل هم قطاع واسع من السويسريين الذين لم ينطل عليهم خداع المتطرّفين...
أجل إنّهم ليسوا أغلبية لكنّهم أيضا ليسوا أقلّيّة هامشية غير قادرة على الفعل وتغيير موازين القوى لصالحها متى أخذت بزمام المبادرة وقلبت السحر على الساحر بنفس آلية حرّيّة الرأي والديمقراطيّة ومؤسسات المجتمع السويسري والمجموعة الأوروبية وبدعم من كلّ القوّى المستنيرة غير المُتطرّفة في العالم بما فيها،طبعا،قوى العالم الإسلامي...
التعليقات (0)