مواضيع اليوم

لن أعود!

سلطان الصبحي

2010-06-09 20:30:16

0

 

 

بقلم: حسن توفيق

 


(1)

قليلون هم الذين يعرفون متي ولد هذا الشاعر ومتي رحل عن عالمنا، وكيف عاش علي امتداد سنوات حياته، لكني أتصور أن كثيرين من عشاق القطبين الكبيرين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم يعرفون علي الأقل اسمه، فقد غني له عبدالوهاب قصيدة الكرنك كما غنت له أم كلثوم قصيدة جميلة ما يزال العشاق يستمتعون بأن يستمعوا إليها حتي الآن:

أن لن أعود إليك مهما استرحمتْ دقاتُ قلبي

أنت الذي بدأ الملالة والصدود وخان حبي

فإذا دعوت اليوم قلبي للتصافي.. لن يلبي

وفي هذه القصيدة صور رائعة للعاشق الذي يسهر وحده معذبا، وهو يتذكر ما كان من حب، ويتحسر علي أيامه ولياليه الفائتات:

يسهر المصباح والأقداح والذكري معي

وعيون الليل يجري نورها في أدمعي

قصة الأمس أناجيها وأحلامُ غدي

وأمانيُّ حسانٌ رقصت في معبدي

وجراح مشعلات نارها في مرقدي

وسحاباتُ خيال هائم كالأبدِ

وإذا كانت هذه القصيدة مشهورة علي نطاق واسع، فإن لمبدعها قصيدة أخري غنتها مطربة رائعة هي أسمهان، لكنها ليست معروفة، وربما كان السبب .. أن الشاعر أهداها إلي أسمهان في مارس 1938 فغنتها لحساب الإذاعة البريطانية، علي ان تذاع من إذاعة لندن وحدها.. ولهذا لم يتحقق لها ما تحقق لقصيدة الكرنك وقصيدة قصة الأمس من انتشار جماهيري واسع، ومما ورد في هذه القصيدة العذبة والرقيقة:

يالعينيك ويالي.. من تسابيح خيالي

فيهما ذكري من الحب ومن سهد الليالي

عبرات الأمل المسحور في دنيا الجمال

وسحوب من ضني اللوعة والسقم بدَالي

وسؤال يعبر الأفق إلي رد السؤال

وحديث طال في صحبة أيامٍ طوال

وذهول الشاعر الهارب من حلم الوصالِ

وشقاء الروح يسمو نحوها طيف ملال

وصراع في هدوء، وعتاب في دلالِ

وعذاب كعذابي.. يا لعينيك ويَالي

.. قد يتصور الذين استمعوا إلي ما غنته الأصوات الرائعة من شعر هذا الشاعر إنه رومانسي رقيق وأن عالمه الذي عاش فيه عالمي يفيض بتنهدات الحب، لكن الحقيقة الغريبة هي أن هذا الشاعر قد شارك في الحرب، أعني الحرب العالمية الثانية، وهو هنا يذكرنا بشاعر وكاتب مهجري كبير هو ميخائيل نعيمة الذي شارك في الحرب العالمية الأولي باعتباره جنديا أمريكيا ضمن القوات الأمريكية التي قاتلت في فرنسا خلال تلك الحرب، وبعد عودته إلي الولايات المتحدة الأمريكية، كتب قصيدة مؤثرة عن مآسي الحروب بصورة عامة، أشار فيها إلي ما يتعرض له العرب من هوان وإذلال:

أخي إن ضج بعد الحرب غربيُّ بأعماله

وقدسَ ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمتْ بمن دانا

بل اركع صامتاً مثلي بقلب خاشعٍ دامٍ

لنبكي حظ موتانا

أخي إن عاد بعد الحرب جنديُّ لأوطانه

وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلاَّنه

فلا تطلب إذا ما عدتَ للأوطان خِلاَّنا

لأن الجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم

سوى أشباح موتانا

هذا ما كان من أمر ميخائيل نعيمة، أما صاحب الكرنك و قصة الأمس ويالعينيك ويالي فإنه كرر تجربة الشاعر والكاتب المهجري الكبير دون قصد بطبيعة الحال، حين التحق بالقوات البريطانية التي كان يقودها الماريشال مونتجمري في الصحراء الغربية لمصر، وكان في مواجهته - وقتها - ثعلب الصحراء روميل، لكن شاعرنا الذي لم أذكر اسمه حتي الآن لم يلبث أن ترك حياة الجندية وانطلق إلي لندن، ليعمل هناك في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية منذ أوخر فبراير سنة 1944 ثم استقال في يونيو سنة 1946، ومن لندن كتب هذا الشاعر رسائل عديدة لأحد أصدقائه في القاهرة، وفي هذه الرسائل يرسم له انطباعاته عن الحياة في مجتمع غربي، ويقارب بين مثل هذا المجتمع والمجتمع الشرقي، قائلا: الفارق الملحوظ هو تقديس الحرية الفردية إلي أبعد حد.. .

في لندن، تزوج الشاعر شابة إنجليزية جميلة، وأنجب منها طفلة، وكان يمكن أن يعيش هناك هانيء البال، لكن هذا لم يتحقق.. لماذا؟ وكيف؟.. ومن هو هذا الشاعر الذي يردد العشاق ما أبدعه أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي ؟

 

(2)

 

اكتفت أم كلثوم بأن تغني له قصيدة واحدة، هي التي يستهلها قائلا: أنا لن أعود إليك.. مهما استرحمتْ دقات قلبي وغنت له أسمهان قصيدة واحدة كذلك، مطلعها: يالعينكِ ويالي.. من تسابيح خيالي وكان محمد عبدالوهاب قد سبق هاتين المطربتين الرائعتين فغني له قصيدة الكرنك التي يقول فيها:

حلم لاح لعين الساهرِ

وتهادي في خيالٍ عابرِ

وهفا ملء سكون الخاطرِ

يصل الماضي بحلم الحاضرِ

طاف بالدنيا شعاع من خيالي

حائر.. يسأل عن سر الليالي

ياله من سرها الباقي.. ويالي

لوعة الشادي ووهم الشاعرِ

حين ألقي الليل للنور وشاحه

وشكا الطلُّ إلي الرمل جراحه

يا تُري هل سمع الفجر نواحه

بين أنداء النسيم العاطرِ

أحمد فتحي.. هو الشاعر الذي كتب هذه القصائد التي تسببت - بعد غنائها - في ذيوع اسمه بين الناس، وان كان كثيرون لا يتذكرونه الآن، خاصة من أبناء الجيل العربي الجديد، وهؤلاء معذورون بطبيعة الحال، لأن ساحة الغناء العربي قد أقفرت ولم تعد تتردد فيها إلا أصوات النهيق والنقيق والخوار!

لم يهتم النقاد بالشاعر أحمد فتحي، لكن صديقه الشاعر صالح جودت تكفل بأن يصدر عنه كتابا كاملا بعنوان أحمد فتحي - شاعر الكرنك وقد صدر الكتاب في ديسمبر سنة 1973، ومنه نستطيع التعرف علي حياة الشاعر وشعره بصورة دقيقة، فهو لم يعش سوي سبع وأربعين سنة، فقد ولد يوم 2 أغسطس سنة 1913، وكان إذا تعرض لمحنة أو واجهته أزمة، يرجع السبب إلي أنه من مواليد رقم مشؤوم هو (13) ورحل الشاعر عن عالمنا يوم 4 يوليو سنة 1960 بعد أن خاض تجارب حياتية، بعضها صعب، وبعضها غريب، ويتحدث صالح جودت عن فرحة صديقه عندما غنت له أم كلثوم قصة الأمس في أيامه الأخيرة، قائلا .. أما نصيبه المادي من هذه الأغنية، فلا يزيد على خمسين جنيها، ينفقها في غمضة عين، ويعود إلى حانته ليغرق همه في الكأس ويستسلم لموجة قاتلة من اليأس، ويصعد ذات ليلة، هي ليلة 4 يوليو 1960 إلي غرفته رقم 14 بفندق كارلتون - شارع 26 يوليو بالقاهرة - ويحس أنه متعب مكدود، ويحاول أن يظفر بأحد من أصدقائه الأطباء، فلا يجد منهم أحداً، ويصبح صباح حزين، وفي الساعة العاشرة من الصباح يصل الطبيب، فيجد أن رحمة اللَّه بشاعرنا قد سبقته في ساعة مجهولة من الليل.. .

لأحمد فتحي كتاب وحيد، أقرب إلي الرواية، ولكنه علي ما يبدو سيرة ذاتية مستترة ومتخفية، وهو كتاب اللَّه والشيطان ويروي الشعر في كتابه هذا - علي لسان البطل - ما يلي: لم أكن في صدر صباي طفلاً حسن السلوك علي أي حال، وهل هذا هو ما كان يحدو بأمي إلي تخويفي بالشيطان كلما ثارت النزعات الخبيثة في نفسي، تلك النزعات التي كانت تزين لي الحماقات دائماً، وفي كل مكان.. ويواصل أحمد فتحي حديثه علي لسان البطل فيقول: .. حين دلفت إلي سن الشباب، وأخذت أتناول الحياة من كل جانب، وأروي من شبابي ظمأه إلي المتعة واللذاذات، وجدت أني أغدو علي مر الأيام، صديقا حميما للشيطان، وتابعاً من أتباعه المطيعين، وكم كان يحز في نفسي أنني لا استطيع أن أراه.. .

وأما القصة المؤثرة الحقيقية التي تجعلنا نتعاطف مع أحمد فتحي رغم إدراكنا أنه وحده المسؤول عنها، فهي قصة زواجه من الشابة الإنجليزية الجميلة عندما أقام في لندن وعمل في إذاعة B.BC العربية هناك، ذلك أنه لم يستطع مواجهة تكاليف الحياة الزوجية، فقرر أن يهرب من لندن، عائداً إلي القاهرة، دون أن يصطحب معه زوجته كارول ولا ابنته الطفلة الصغيرة التي كان يتذكرها باستمرار، كلما أفرط في الشراب، وأحس بأنه ارتكب أمراً صعباً تجاه طفلة رقيقة أنجبها، ثم تركها تواجه مصيرها مع أمها التي حكمت لها المحكمة غيابياً بالطلاق!

لم يبق من أحمد فتحي سوى كتاب اللَّه والشيطان وديوان شعر صغير بعنوان قال الشاعر ولم يبق ممن يتذكرونه إلا الذين يستمعون إلي قصة الأمس وها هو يصور حياته ومعاناته عندما ابتعدت عنه الحبيبة:

إن يومي ضني وليلي سهاد

وجراحي تشكو جنون النصال

وحنيني إليك هم مقيم

ملء قلب من حبه غير سال

ودموعي منهلة غام فيها

أفق لاح كالضباب حيالي

وظنوني لئيمة الهمس تتري

مرجفات بكل قيل وقال

يا تُري من عرفت بعدي ومن

.. يلقاك في يوم موعد لوصال

ومن الشاعر الذي يتغني

لك بالحب في أسي وابتهال؟

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !