قلتُ ولا أزال أكرّر ما أجمع على قوله كثيرون:"لئن كانت الثورة في إطاحتها بالدكتاتورية عملا تاريخيا رائعا،فإنّ التحديات التي تطرحها لاستكمال شروط نجاحها ليست بأهون من إسقاط حاكم طاغية،ذلك أنّ الأهمّ هو تأمين شروط عدم تفريخ استبداد جديد وولادة دكتاتورية أخرى من رحم الثورة."
الثورة في تونس باركها الجميع باستثناء حفنة من اللصوص ومصّاصي الدّماء أزعم أنّ عددهم لا يتجاوز في أقصى الحالات بضع مئات إن لم أقل بضع عشرات...
ماذا حصل في تونس بعد يوم 14 جانفي 2011 ؟
نحمد الله-أوّلا وآخرا-على أنّ البلاد لم تنزلق إلى حرب أهلية كما كان يُراهن على ذلك البعض رغم كلّ المخاطر التي حفّت وما تزال بمسار ثورتها...
نحمد الله-أيضا-على بطلان مفعول ما بيّتتْه "أنظمة الاستبداد الخارجية " من نوايا انتقامية ضدّ الثورة التونسية التي فاجأ اندلاع شرارتها الجميع في بيئة عربية أقلّ ما يقال فيها أنها محكومة بالقمع والطغيان ولا تحتمل حركة انعتاق...
أطلّت الثورة التونسية بكلّ ما هو مُبهر وجميل ورائق وواعد ورعتها العناية الإلهيّة إلى حدّ أنها أغرت غيرها من الشعوب للنسج على منوالها فـ"ورّطت" بعضها في مسار ثوري دمويّ مُروّع ورهيب وثقيل الكلفة...
ماذا في الأثناء إلى اليوم ؟
تكفّلت النخب السياسية "العريقة/المعتّقَة" بالتأسيس لمرحلة انتقالية اعتمدت منهجا أقرب ما يكون إلى تلك اللعبة العبثيّة التي يُطيح فيها الصبيان بقصور من الرّمال يأتون فعلها على رمال شاطئ البحر...
كيف ؟...
- تأسيس حكم انتقالي أُطيح بحكومته الأولى بعد شهرين من عمر الثورة وجاءت حكومته الثانية في أجواء تفاؤلية سرعان ما تسلّل الشكّ في صدق نواياها وانهالت عليها معاول التهشيم إلى حدّ أنّ قدرتها على تأمين تصريف الحياة اليومية في البلاد كادت أن تُشَلّ تماما وما يزال خطر قائما ...
-تأسيس ما سُمّيَ بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" سرعان ما دبّ في صفوف أعضائها "الشقاق والنفاق" فاستقال بعضهم وقاطع أشغالها آخرون فانقادت إلى "الهرج والمرج" لتفقد مصداقيتها لدى رأي عام كان يُعلّق على كفاءات تركيبتها وسياسييها القدامى والمحدثين كلّ آماله في الوصول بالثورة إلى "بَرِّ الأمان أو شاطئ النجاة"...
-انشغالٌ بتصفية تركة فساد منظومة الحكم المطاح بها تؤول إلى عدم ارتياح لمنهجيّتها في العمل ونتائجه.
-اتّفاقٌ على استحقاق انتخابي تأسيسا للانتقال الديمقراطي تأجّل موعده ليوم 23 أكتوبر 2011 بعد أن كان قد حُدِّد ليوم 24 جويلية من نفس السنة.ثمّ اكتشاف غموض في ماهية "المجلس الوطني التأسيسي" المزمع انتخابه مما كرّس الشكّ في نوايا هذا الطرف أو ذاك ودفع "بالمواطن الغلبان" إلى التساؤل:"هل هو ضحية مؤامرة تحاك ضدّه باقتراعه على أشخاص يمنحهم صكّا على بياض يتحكّمون بموجبه في قدَر ثورته؟.."
-تفريخُ أكثر من مائة حزب سياسي "فقّست" بسرعة قياسية فاقت في إتيانها "محاضن البيض الاصطناعي"...أحزابٌ سياسية تبعَث بأيسر من إحداث ورشة صناعية أو دكان فواكه جافة أو تمكين عاطل من موطن شغل،أحزابٌ في سرعة بعثها وكثرتها كأنّما تريد أن تتآمر على الناخب لتضعه أمام عجزه الفادح في التعرّف عليها بل حتى في تعداد أسمائها وإن تفرّغ طيلة شهر رمضان المعظّم إلى طلب "الثواب" في حفظ قائمتها التي ما انفكّت تتمطّط دون توقّف...
دون مزيد لمعاناةٍ ابتُليَ بها متابعٌ للشأن السياسي التونسي نحاول الاختزال في سرد لعبة تدمير القصور الرملية فنضيف:
-القضاء مقدوح في مصداقيته.
-المؤسسة الأمنية متّهمة بحنينها إلى ممارسات العهد البائد.
-إعلام حرّ...لكنّه متآمر ومشكوك في نزاهته...حريةُ التعبير يُمارسها كلّ على هواه وأدواتها معاول هدم ليست مؤهَّلة للبناء.
-الوفاق الوطني أسير النفاق والأحقاد وتصفية الحسابات.
-همس وغمز ولمز مفاده التخوين بادّعاء الالتفاف على أهداف الثورة وارتباطات مشبوهة وعمالة لأطراف أجنبية ومال قذر...
-قانون الغاب يُطلّ علينا بشريعته في ممارسات تكاد تكون يوميّة تُقطَع فيها الطرقات،تُغلَق فيها المصانع،يسطو علينا في مناخها اللصوص دون مُغيث،نُمارس في رحابها الحرّية التي حرمنا منها طويلا،لا يَهمّ حتى تلك التي باسمها تُقترف أبشع الجرائم.ا..
-ذلك العالم الافتراضي بالشبكة العنكبوتية الذي سكن في محرابه شباب الثورة وأطلّوا برؤوسهم منه لإنجاز ثورتهم تسللت إليه بعد 14 جانفي فيروسات خبيثة مدمّرة نالت من نبل رسالته ولوّثت مضامينه،فتحوّل فرسانه في الموقع الاجتماعي "فيسبوك" و"المدونات" إلى غرباء في دار ما كان يلج إليها غيرهم،فإذا بذات الفضاء الافتراضي يُقتَحم عنوة من دخلاء وطفيليين وسماسرة ليُروّج النميمة والكذب والضغينة...
-هناك على الحدود التونسية الليبية ترتسم صورة قاتمة لمأساة شعبين أحدهما أطاح بطاغيته ولا يدري إلى أين يسير وآخر يستميت لبلوغ ما أنجزه الأوّل الشقيق وقد تقطّعت أوصال وطنه وعمّه الخراب (ليبيا) وأذاقه الطغيان ألوانا من العذاب الأحمر/الأسود...
ماذا بقي إذن لنبنيَ عليه ؟..
تسليم الأمر إلى الفوضى/المجهول/الحرب الأهلية تحت أيّ مُسمّى وبأيّ تعلّة...
قلتُ كما يقول كثيرون :"إنها الثورة يا صاحبي..ا."
تناهى إليّ صوتُ ثائر شريف لم يستشهد قائلا :"لن أثور بعد اليوم..ا."
قلتُ :"اللهمّ إني صائمٌ أمنّي النّفس بفرحة العيد..."
التعليقات (0)