الدين النصيحة
جلستُ اليوم بعد صلاة الفجر في جلسة علم تقام اسبوعيا، نستفيد فيها من المواضيع التي تطرح ونتناقش حولها، وكان موضوع اليوم هو: (النصيحة والتناصح)، وكعادة المشايخ جاءوا بكلمات رائعة، وفتحوا الموضوع من جوانب جديدة لم تُطرق من قبل، وقد منَّ الله عليَّ خلال هذه الجلسة بفائدة حول قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، ولكن لم يتح لي الوقت لعرضها، فأردت أن لا أحرم نفسي من مشاركة إخواني بها هنا، فأقول:
أولا: المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" أي: دليل قوة الالتزام بالدين هو تقديم النصيحة به للآخرين. ووجود التناصح في حياة المسلمين دليل على قوة الالتزام في المجتمع، وكذلك عند أفراده.
ثانيا: المجتمع المتناصح: إن وجدت المعاصي في المجتمع وكثرت، لا يمنعه من الهلاك، إلا أن يوجد فيه المصلحون الناصحون، يقول الله تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}، أي: ناصحون.
وإذا عُدم المجتمع النصيحة دلَّ ذلك على قلة الدين فيه، وهذا ما قد يؤدي إلى نزول عقاب الله، قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم لم يأخذوا على يديه ، أوشك الله أن يعمهم بعقابه". وكان من أول الأسباب لخيرية هذه الأمة، أمرها بالمعروف، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف..}
وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..}.
فالتناصح في المجتمع دليل على قوة الدين فيه، لأنه لن تستمر فيه الظواهر المخالفة للدين، ولشرع الله، فإن الرأي العام في الإسلام له كلمته، وتناصحه سياج حديدي يحميه من عوامل الفساد، التي تريد هدمه وخرابه. فالدين النصيحة، أي: مقياس قوة الدين في المجتمع النصيحة.
ثالثا: الفرد الناصح الأمين: هو الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يبتغي بنصحه غير رضا الله، ولذا تقوى نفسه أمام كل المحبطات والكواسر التي تريد كسر نصحه، ولهذا كان الميت في سبيل نصحه سيد الشهداء، كما قال صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله".
فقليل الإيمان وصاحب المنكرات يريد أن يكون المجتمع كله مثله، لأنه لا يريد أن يكون شاذا عن المجتمع، وأنه الفاسد الوحيد الذي يُنظر إليه باشمئزاز، لأنه المخالف والعاصي. فحاله حال إبليس الذي قال : {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وقال: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} حتى لا أكون أنا وحدي العاصي، ويكون لي رفقاء في النار.
أما صاحب النصح الذي يسدي النصح لعباد الله، ويأمر بالمعروف وإن ادى أمره بالمعروف للقتل، فهو صاحب دين صُلب، فالدين النصيحة. أي: مقياس قوة الدين في الفرد النصيحة.
وأختم كلامي بقصة رائعة لأبين لكم أن الناصح في مجتمعه كمثل طبيب يشفي المرضى، ويسهر ليعالجهم، ويذهب ويأتي من أجل تمريضهم، ففي زمن التابعي الجليل إبراهيم بن أدهم، خرج تاجر في قافلة للتجارة، وفي طريقه في صحراء من الأرض، رأى غرابا أعمى مكسور الجناح. فدُهش بما رأى ووقف يتأمل، ويقول:
سبحان الله، في وسط هذه الصحراء، غراب أعمى ومكسور الجناح. من أين يأكل؟ ومن يسقيه، وكيف يعيش؟!!
وبينما هو في ظل تأمله هذا، إذ جاء غراب مبصر صحيح فأطعمه وأرواه حتى شبع، فقال:
سبحان الله، والله لقد أراني الله آية، أَبَعْدَ هذا نطلب الرزق؟! فاتخذ صومعة له، واعتزل الناس.
فسمع به الإمام ابراهيم بن أدهم، فذهب إليه، وسأله عما جعله يعتزل الناس وتجارته وأعماله، فقال: والله لقد أراني الله آية...ثم حكى له ما حدث.
فقال له الإمام الزاهد: (سبحان الله! ولم رضيت أن تكون الأعمى). لماذا لا تكن أنت المبصر الصحيح الذي يعطى الناس جميعا، ويُفيد الناس جميعا، لماذا أحببت أن تكون ذلك الكسير المريض. ولم تكن ذلك الصحيح النشيط السليم؟
وهذا هو حال الناصح الصادق، فإنه إن كان ناصحا لمجتمعه، إنما بذلك مثل الصحيح السليم الذي يطعم المرضى ويرعاهم..
16/7/2011
التعليقات (0)