الحزن و الفرح من المشاعر الإنسانية التي تظهر بصورة تلقائية على وجه الإنسان بسبب ما يعتمل في داخله من أحاسيس، و ذلك بعد سماعه أو مشاهدته لأخبارٍ و أحداث مُحزنة أو مُفرحة. و من الصعوبة بمكان أن يكتم الإنسان مثل هذه المشاعر، أو على الأغلب أن يتحكم بها، إذ لا يمكن أن يُطلب من إنسان أن يؤدي فاصلاً من الضحك أو البُكاء، بالضد من إرادته، و كأنه يؤدي أي عمل من الأعمال.
لكن في ظل الأنظمة الدكتاتورية القمعية تُصبح مثل هذه المشاعر و أصحابها مُلكاً للحاكم، بل من الواجبات الوطنية، التي يجب على المواطن أدائها، مثلها مثل إحترام دستور الحاكم و قوانينه، و ترديد نشيده الوطني و رفع علمه، فإذا ما أحسن إستخدامها و التحكم بها، و جارى بها مزاج حاكمه، كانت بمثابة جواز عبور إلى الراحة و النعيم و الوقاية من الشرور، أما إذا أطلق العنان لمشاعره، كما هي، فقد يجلب لنفسه المتاعب التي لا تنتهي.
في كوريا الشمالية، التي تُطلق عليها سوريا، خلافاً لدول العالم، إسم كوريا الديمقراطية، مع العلم أن السلطة إنتقلت فيها وراثةً من الأب إلى الأبن و مؤخراً إلى الحفيد، بطريقة معاكسة تماماً لألف باء الديمقراطية، هناك عوقب مجموعة من المواطنين لأنهم فشلوا بإظهار كمية من الحزن تعادل وزن مناسبة كرحيل الرئيس الكوري، فتم الحكم عليهم بعقوبات، منها العمل القسري لمدة شهور في أماكن مخصصة لمثل هذه الإجراءات العقابية، و بذلك برهن النظام الكوري الديمقراطي بأن مشاهد الحزن و البكاء و النواح و العويل على الزعيم الراحل، التي بثها تلفزيونه، لم تكن سوى مشاهد تمثيلية، إخرجها النظام، و إشترك فيها مجموعة من الناس المقهورين، بعد إرغامهم على ذلك، بإخافتهم من العقاب.
أما في سوريا، فكم أُضطر المرء للتلاعب بمشاعره، و تغيير ملامح وجهه، لكي يجنب نفسه و أقربائه الهلاك، كم أُضطر للضحك و هو يشعر بالغيظ، و لإظهار حزنه و هو يشعر بالشماتة، ، كم أُضطر المواطن للهتاف بحياة القائد و هو يتمنى له قِصر العُمر، و كم خرج في مسيرات التأييد و هو من أشد المعارضين، و كم أُضطر لإخفاء هستيريا الفرح التي أصابته عند رحيل الدكتاتور بسبب الخشية من أزلامه، و كم أجبر نفسه على الحديث عن حكمة القائد و هو يرى الغباء متجسداً فيه بأوضح صوره.
و قد روى أحد الأصدقاء حادثةً لا تخرج عن هذا المعنى، ففي إحدى مناسبات النظام السوري، و كان الناس يقومون كالعادة في تلك المناسبات بالمزاودة على بعضهم البعض من خلال رسم الإبتسامات العريضة و التصفيق الحاد و الهتاف العالي، كان أحدهم في وادٍ آخر، و لم يستطع لسببٍ ما مجاراة الآخرين في نفاقهم، و بعد أيام قليلة أُستدعي للتحقيق، إذ يبدو أن أحدهم قد (سلخه) تقريراً، لكن الرجل نجا من المشكلة، بعد أن وعد بأن يعوض ما حصل منه من تقصير في مناسبة قريبة قادمة، و فعلاً راح منذ تلك اللحظة يمهد للمناسبة المقبلة بقصفٍ من الوطنيات، و عندما حان الوعد، و كان الوقت صيفاً شديد الحرارة، تصدى الرجل للدبكة كأحد فرسانها، و لم يتركها لحظةً، و كانت عينيه تتنقل خلال ذلك، و هو يتصبب عرقاً، بين الحضور، و كأنه يبحث عن غريمه الذي سيقوم بكتابة التقرير التالي، يرجوه عساه يتلطف بحاله. و عندما سألت عما حدث بعد ذلك قيل لي، بأن الرجل عبر الإمتحان، و لكن قالوا له حرفياً بأن النجاح التام كان يتطلب منه أن يصل بدبكته إلى مرحلة (ينخ) فيها كالجمل.
إن الرعب الذي غرسه النظام جعل النفاق و الإنتهازية و غيرها من النقائص تسود في كثيرٍ من مجالات الحياة، حتى في صفوف المعارضة، في العلاقات التي سادت بينها، و ذلك من أجل التسلق و الوصول إلى غايات دنيئة، يعجز الإنسان من الوصول إليها في حالة الصدق، فكم من سكرتير حزبٍ أُضطر للكذب و إخفاء حقيقة مشاعره أمام أعضاء حزبه ليستمر في قيادة الحزب، و كم من عضوٍ حزبي أُضطر للكذب على قيادته و حزبه و رفاقه و هو يخفي عدم إيمانه بالحزب و مبادئه ليتسلق على ظهورهم، و كم من حزبٍ أو جماعة كذبت على أُخرى و دخلت معها في تحالفات لتوقعها و لتقضي عليها لتنفرد وحدها بالساحة، و كم من سكرتيرٍ حزبي حفر لزملائه (السكرتيرات) و نشر عنهم الإشاعات ليقصيهم.
منذ بدء الثورة السورية بدأ الناس يُظهرون حقيقة مشاعرهم، أسقط أطفال درعا حاجز الخوف، و أصبح الشعب يريد إسقاط النظام، أصبح يقول ذلك جهاراً نهاراً بصوته العالي، دعى الشهيد مشعل تمو الشعب إلى البصق في وجه جلاديه في وضح النهار، صار الناس يفرحون من أعماق قلوبهم و هم يرون النظام يترنح، و يحزنون من أعماق قلوبهم أيضاً على الشهداء الذي يضحون بأنفسهم في سبيل ذلك، و يقيمون لهم مظاهرات العزاء، رغم التضحيات الغالية.
عندما يأخذ النظام السوري معه جميع الرذائل التي غرسها إلى مزابل التاريخ، و عندما يصبح بإمكان الناس التعبير عن مشاعرهم بصدق، حينها فقط يمكن القول أن الثورة قد إنتصرت.
التعليقات (0)