لم يكن مجرد رجل ثري يتذوق الجمال الأنثوي _1
محمد التابعي.. كاتب فنان يرسم بالكلمات أروع اللوحات بقلم: حسن توفيق
عاد اسمه فجأة إلى دائرة الضوء، بعد أن كانت دوامة النسيان قد طوته وابتلعته.. منذ أن حظي المسلسل الرمضاني الشهير عن حياة الفنانة الرائعة أسمهان ما حظي به من إقبال جماهيري ضخم، أخذ كثيرون يكتبون عن محمد التابعي، لكن القليلين من هؤلاء الكثيرين هم الذين عرفوا الرجل حق المعرفة وأظهروا مدى عمق تأثيره على امتداد العصر الذي عاش فيه، أما الآخرون - وهم الأغلبية - فإنهم قد انساقوا وراء شخصية التابعي كما تجلت في المسلسل، فتصوروا أنه مجرد رجل ثري وصحفي مرموق لا همَّ له إلا السعي وراء الجميلات من النساء لكي يتذوق الجمال الأنثوي. قلت - حين كتبت ما كتبت عن أسمهان - إن اختصار حياة محمد التابعي في مجرد علاقته مع هذه الفنانة الرائعة أو مع سواها هو اختصار مخل، بل هو اختصار مشوه لسيرة ومسيرة «أمير الصحافة المصرية» وأكاد أتصور أن من كتبوا عنه على هذا النحو لم يقرأوا له كتاباً واحداً من كتبه العديدة التي أصدرها خلال حياته الطويلة التي امتدت ثمانين سنة، عاشها بالطول والعرض والعمق، تماماً مثلما فعلت أسمهان خلال حياتها القصيرة التي لم تتجاوز اثنتين وثلاثين سنة. ولد الطفل «محمد التابعي محمد وهبة» سنة 1896 وإن كانت رواية غير مؤكدة تشير إلى أنه ولد سنة 1898، وهي نفس الرواية التي ترى أنه قد ولد على شاطىء بحيرة المنزلة، ولكن الصحيح أنه ولد في قرية «نوسا البحر» القريبة من مدينة المنصورة الجميلة عاصمة محافظة الدقهلية في مصر، ومن ناحيتي فإني قمت بزيارة هذه القرية التي ولد فيها محمد التابعي، سعياً وراء البحث عن المكان الذي ولد فيه شاعر رومانسي لم يعمر طويلاً، وكنت وقتها كتبت عنه باعتباره واحداً من أرق الشعراء الذين لم يحظوا بشهرة كبيرة، ولن أتحدث عن هذا الشاعر الآن، لكني أذكر هنا أني تجولت في تلك القرية «نَوَسا البحر» ثم تحمست وانطلقت مشياً على الأقدام إلى القرية التي تجاورها، وعرفت أن اسمها هو «نَوَسَا الغيط» والمقصود بـ «البحر» عند الفلاحين المصريين هو «النيل» أو أية «ترعة» كبيرة من الترع المتفرعة منه، أما «الغيط» فهو الحقل، وهذا يعني أن «نوسا البحر» كانت الأقرب - بصورة مباشرة - إلى مصدر الماء المتدفق، أما «نوسا الغيط» فهي بعيدة عنه. وإذا كان محمد التابعي - الطفل - قد ولد، على وجه التحديد، يوم 18 مايو سنة 1896 فإنه رحل عن عالمنا يوم 15 ديسمبر سنة 1976، وعلى امتداد مسيرة حياته ما بين المهد واللحد وبين الميلاد والغياب، استطاع هذا الرجل العملاق أن يسهم في إثراء الحياة، كما استطاع أن يكون إنساناً مؤثراً، مساهماً بالمشاركة الفعلية أو بالمشورة من وراء ستار في صياغة العديد من الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية التي قدرد له أن يعاصرها عن قرب، وأن يحيا في قلبها. ولكي تتضح جوانب الصورة فإني سأستشهد هنا بما قاله كاتبان كبيران، ينتميان إلى جيلين متعاقبين، لكنهما عرفا محمد التابعي عن قرب وتعلما منه، كل منهما بطريقته الخاصة، وهذان الكاتبان هما محمد حسنين هيكل ورجاء النقاش. يقول هيكل في مقدمة طبعة جديدة لكتاب التابعي عن أحمد حسنين باشا: «كان التابعي ظاهرة مستجدة على العلاقة بين الصحفي والأمير، ولذلك كان احتمال الخلط وارداً، فقد كتب التابعي عن الملك فاروق وعن الملكة نازلي وعن أحمد حسنين وعن غيرهم من موقع المعايشة، وفي بعض المشاهد فإنه - هو نفسه - كان جزءاً من الصورة، وكان المأزق في تجربة التابعي أنه وهو يعايش الأمراء تصور أنه يجاريهم، بظن أنه ليس أقل منهم، ولم يكن بالفعل أقل منهم، بل لعله كان أفضل، فهو أمير بالقيمة والآخرون - ودون تعميم - أمراء بالألقاب..». وأكاد أقول هنا إن ما كتبه محمد حسنين هيكل عن أستاذه يكاد ينطبق عليه هو شخصياً، مع الفارق في طبيعة العصر، فالتابعي كان مؤثراً حقاً خلال العصر الملكي - وبالذات عهد «جلالة الملك فاروق الأول» - أما هيكل فكان مؤثراً وصانعاً ومشاركاً في الأحداث خلال حكم الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر، وإذا كنت قد استشهدت بما قاله عن أستاذه، فلا بد أن استشهد بما قاله رجاء النقاش. «من أسرار الساسة والسياسة» كتاب جميل وممتع من كتب أمير الصحافة، وقد صدر - في طبعته الأولى - فبراير سنة 1970 ضمن سلسلة «كتاب الهلال» التي كان يرأس تحريرها رجاء النقاش، وعلى الغلاف الأخير من الكتاب نقرأ هذه السطور: «يقدم الكاتب الكبير محمد التابعي في هذا الكتاب صفحات مجهولة ومثيرة في السياسة المصرية قبل 23 يوليو 1952، وقد عاش محمد التابعي هذه الحياة وعرف أسرارها، حيث كان واحداً من ألمع الصحفيين والكتاب المتصلين بهذه الحياة عن قرب..» ويرى رجاء النقاش الذي كتب ما كتب دون توقيع «أن هذا الكتاب يعتبر وثيقة تاريخية على غاية من الأهمية والقيمة.. إنه وثيقة للباحثين والدارسين يستطيعون أن يكتشفوا من خلالها تلك الخبايا التي لم يكن أحد يعرفها، حيث أنها كانت كلها تدور في الظلام ومن وراء أستار كثيفة.. وهذا الكتاب أيضاً وثيقة بالنسبة للمواطنين جميعاً يعرفون من خلالها صورة واضحة عن فترة تاريخية خطيرة مرت بها مصر، وقد أتيح للحقائق التي يكشفها هذا الكتاب قلم ساحر، هو قلم الأستاذ التابعي، عميد المدرسة اللامعة في الكتابة الصحفية، وهي المدرسة التي جعلت من الصحافة أدباً رفيعاً قريباً من قلوب الآلاف الذين عرفوا التابعي وأحبوا أسلوبه وتابعوا رحلته الصحفية الرائدة..». وبحكم الاهتمام، فإن رجاء النقاش قد التفت إلى ما لم يلتفت إليه هيكل، وهو ما يتعلق بجعل الصحافة أدباً رفيعاً، وهو أمر حققه رجاء النقاش شخصياً في كتاباته الأدبية والنقدية والسياسية على حد سواء، وهو أمر يؤكد - من ناحية ثانية - أن الأجيال المتعاقبة تستطيع أن تستفيد من بعضها، حيث يحاول الجيل اللاحق أن يحذو وأن يكمل مسيرة الجيل السابق، والشرط الوحيد في تحقيق هذه الاستفادة يتمثل في ضرورة التواصل الحي الفعال ما بين الأجيال، أما القطيعة فإنها لا تورث غير العقم!. بهذا المعنى، أستطيع القول باطمئنان إن الأسلوب الساحر الذي يترقرق في ثنايا كتابات محمد حسنين هيكل هو امتداد متطور لأسلوب التابعي في كتاباته، كما أن هيكل قد استفاد - في تقديري - من التابعي فيما يتعلق بتحويل الحدث السياسي - عند الكتابة عنه - من مجرد تقرير مباشر إلى ما يكاد أن يكون قصة قصيرة، تتجلى فيها كل عناصر التشويق والإثارة التي تجعل القارىء يلهث وهو يبحث عما ستفضي إليه الخاتمة في نهاية المطاف، وهذا هو الفارق - في تصوري - بين الذين يكتبون في السياسة وهم يتصورون أنهم «منظرون» و«مفكرون» وبين الذين يكتبون في السياسة بروح الفنانين المبدعين، ومما لا شك فيه عندي أن «أمير الصحافة» محمد التابعي هو كاتب فنان كبير، يرسم بالكلمات أروع اللوحات، حتى وهو يكتب عن أدق تفاصيل الأحداث السياسية التي عايشها وعاصرها عن قرب.. «ولذلك كان احتمال الخلط وارداً» كما قال هيكل. لم يكن كتاب «أسمهان تروي قصتها» أشهر كتب محمد التابعي، وإن كان من أجملها، لكنه - بعد المسلسل الشهير عن حياة الفنانة الرائعة - أصبح الأشهر، لدرجة أن الطبعة الجديدة منه، وهي طبعة فخمة مزدانة بالصور، قد لقيت رواجاً غير عادي، لكن للكاتب الفنان الكبير كتباً عديدة متميزة ومفعمة بالحيوية، من بينها كتاب «بعض من عرفت» - سنة 1950، و«من أسرار الساسة والسياسة» - سنة 1959 وقد أعيد طبعه أكثر من مرة و«ألوان من القصص» - سنة 1964، و«أحببت قاتلة» - سنة 1966، و«عندما نحب» - سنة 1969، و«ليلة نام فيها الشيطان» - سنة 1969 كذلك و«صالة النجوم» سنة 1970، وبالطبع فإني كنت قد قرأت بعض هذه الكتب خلال السنوات التي شهدت صدورها، لكني أحببت أن أعيد قراءتها من جديد، وهذا ما تكفل به الصديق الشاعر والكاتب شعبان يوسف، حيث بادر بإرسالها بالبريد الممتاز من القاهرة إلى الدوحة، وعلى الفور قضيت أوقاتاً ممتعة بين أحضانها، لأنها منبثقة - كما قلت - من قلب وعقل كاتب فنان كبير، يرسم بالكلمات أروع اللوحات. وأتوقف هنا عند ما كتبه التابعي في مقدمة كتابه «من أسرار الساسة والسياسة» حيث يتساءل تساؤلاً جوهرياً وحاسماً يتمثل في قدرة الإنسان - أياً كان - على أن يقول الحق لوجه الحق. يقول الكاتب الفنان الكبير - ص 7 من طبعة دار الهلال - «.. اقترح عليَّ كثيرون من الأصدقاء أن أكتب مذكراتي عن الساسة والزعماء والنساء والرجال الذين عرفتهم في حياتي وعن الأحداث والأزمات.. ورفضت.. وكانت حجتي أنني لم أدون مذكراتي إلا في فترات متقطعة.. متباعدة - فالتسلسل مفقود - والسياق مضطرب والدقة في الرواية غير مأمونة أو مضمونة.. ثم شيء آخر وهو الأهم عندي.. من الذي يستطيع دائماً أن يقول الحق.. كل الحق ولا شيء غير الحق؟!» ونمضي في القراءة مع الكاتب الفنان الكبير حيث يتساءل بالتفصيل: «هل أروي مثلاً حديث الزعيم فلان عن الزعيم فلان؟ وهو حديث مملوء غيرة وحقدا؟.. وهل أروي مثلاً وأصف صور الضعف والاستهتار.. صور الخنوع والذل والاستمساك بالحكم بأي ثمن؟ وصور الطمع والجشع والنفاق وعدم الوفاء.. وقصص الخلاعة والمجون، وأبطالها زعماء وساسة مبرزون؟.. ثم مسألة أخرى.. ما هو الحد الفاصل بين ما يجوز نشره وما لا يجوز؟.. والأمانة الصحفية وسر المهنة؟.. ما هي حدود هذه الأمانة وهذه السرية؟!». «بصراحة».. فإني حين قرأت هذه المقدمة كاملة للمرة الأولى أحسست كأني قد قرأتها من قبل.. لماذا؟ لأن ما طرحته من تساؤلات يتجلى فيها صراع الكاتب مع الإنسان الكامن في أعماقه، هي نفسها التساؤلات التي طرحها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه الجميل «لمصر.. لا لعبد الناصر».. وأعود فأقول إن اللاحق لا بد أن يتعلم من السابق، إذا أراد الأول حقاً أن يتعلم وأن يستفيد، لكن هذا لا يتحقق - كما قلت - إلا إذا كان هناك تواصل بين الأجيال، لكي تكتمل المسيرة في كل مجال من مجالات الحياة.
التعليقات (0)