مواضيع اليوم

لم يكن مجرد رجل ثرى - 2-

حسن توفيق

2009-03-13 07:26:35

0

محمد التابعي.. من فرنسا إلى مصر على إيقاع ثورتين

 لم يكن مجرد رجل ثري يتذوق الجمال الأنثوي -2 

  بقلم: حسن توفيق 

  تبارى كثيرون في الكتابة عن  أمير الصحافة..  محمد التابعي عن علم أو عن جهل على حد سواء، وهنا لا بد أن أذكر هؤلاء جميعاً وأن أتذكر معهم أن أحداً منهم أو من سواهم لا يمكنه أن يدعي معرفة  الحقيقة المطلقة  وربما كان هذا المعنى هو الذي جال في عقل الشاعر العربي القديم والعظيم أبي نواس حين قال:
فَقُلْ لمن يدعي في العلم معرفةً
عرفتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ
يستطيع كل منا أن يكتب عن  الحقيقة  كما رآها ووعاها، بشرط أن يكون مدركاً أنه لا يكتب عنها إلا من زاوية معينة هي التي عرفها دون سواها من الزوايا الأخرى التي لا تكتمل الحقيقة إلا بها مجتمعة، وهكذا تظل الحقيقة دائماً  نسبية  دون أن تكون  مطلقة  على وجه الإطلاق.
اتساقاً وتناغماً مع هذا التصور للحقيقة، أود أن أتوقف عند ما كتبه الكاتب الكبير أنيس منصور بعنوان  غراميات محمد التابعي بعد منتصف الليل!  حيث استهل مقاله بالقول:  كان الأستاذ محمد التابعي أستاذ الصحافة الحديثة رجلاً ذئباً ذواقة، فقبل وفاته استدعاني وأعطاني، ويده ترتعش، صوراً لصديقاته الفرنسيات والإيطاليات والمصريات، وخطاباتهن إليه، ولم يقل شيئاً، فأنا أعرف زوجته وهي شديدة الغيرة عليه، لدرجة أنها كانت تسأل أصدقاءه في أنصاف الليالي: إن كان التابعي يعرف فلانة، ولماذا عرفها ولماذا تركها؟..  ويضيف أنيس منصور إنه كان قد كتب سلسلة مقالات عن غراميات التابعي  .. وكيف إنه في إحدى المرات استأجر عربة قطار سويسري، وجعلها مكاناً لحفل عيد ميلاد إحدى صديقاته.. .
ولأن الحقيقة - كما قلت - تظل دائماً نسبية، فمن المهم أن أشير إلى ما كتبته شريفة ابنة محمد التابعي، رداً على ما كتبه أنيس منصور من جهة وحرصاً على كرامة أمها وأبيها من جهة ثانية، حيث أكدت أن الصور التي أعطاها أبوها لأنيس منصور هي مجرد نسخ متكررة مما هو موجود بالفعل في البيت وتحت يدها وتصرفها، أما أمها التي كانت أصغر من الأب بنحو ثلاثين سنة، فإنها كانت سيدة  متعقلة  ولم تكن من ذلك الطراز من النساء اللواتي تعميهن الغيرة على أزواجهن!.
وفيما يتعلق بحكاية استئجار عربة قطار سويسري لجعلها مكاناً لحفل عيد ميلاد إحدى صديقات التابعي، فإن كتاب  بعض من عرفت  وهو كتاب ممتع ومشوق حقاً يتضمن هذه الحكاية وسواها من الحكايات التي لا تندرج - من وجهة نظري - في إطار الغراميات، بقدر ما تنبع من محاولات التعمق في الحياة والنفس البشرية من خلال المرأة بتناقضاتها وتصرفاتها التي تبدو أحياناً أقرب إلى الألغاز، والقارىء لكتاب التابعي  بعض من عرفت  يستطيع تتبع تصرفات وأهواء النساء من  ميريام - الفتاة التي أرادت أن تنجح  إلى  ماري كريستين - أرادت أن تنجو.. وأبيت عليها النجاة  إلى  مد موازيل م - قديسة تشتغل مانيكان  حتى  شارلوت - كان قلبها مملوءا بالرماد  ومما يؤكد ما أقوله من أن التابعي لم يكن مجرد رجل ثري يتذوق الجمال الأنثوي أن تذوقه للشعر ينبىء عن إحساس مرهف بل في غاية الرهافة، ومن خلال تذوقه للشعر وتعلقه به كان حرصه على أن يقدم كل حكاية من حكايات  بعض من عرفت  بيت شعر أو أكثر، يكون بمثابة مدخل تمهيدي للحكاية ذاتها، وعلى سبيل المثال فإنه استهل حكاية  هرما - مأساة  عادية من مآسي الحياة  بثلاثة أبيات تكثف تلك المأساة تكثيفاً رشيقاً ودقيقاً، والأبيات للشاعر اللبناني الكبير  إلياس أبوشبكة :
وَحَقِّ حبكِ لم أشمتْ بفاتنةٍ
زلتْ بها قدمٌ أو غرَّها ذهبُ
فكيف أختلس الحقَّ الذي اختلسوا
وكيف أذأبُ عن لؤمٍ كما ذئبوا
لي ذكرياتٌ كأخلاقي تؤدبني
فلا يخالجني روعٌ ولا كذبُ
وكما دافعت شريفة محمد التابعي - في ثنايا ردها على أنيس منصور عن كرامة أمها وأبيها، فكذلك فعلت السيدة كاميليا الأطرش - جنبلاط فيما يتعلق بسيرة وحياة أمها الفنانة الرائعة أسمهان، ويمكن لمن يود أن يستزيد في هذا السياق أن يعود - إذا شاء - لعدد 27 أيلول - سبتمبر 2008 من مجلة  الموعد  اللبنانية، ومما ذكرته كاميليا  .. لم تحاول والدتي إجهاضي خوفاً على نفسها من الموت كما جاء في المسلسل لأنها رزقت بصبي وبنت قبلي.. .
لم يكن التابعي مجرد رجل ثري يتذوق الجمال الأنثوي، بل كان مفكراً مستنيراً وإنساناً ممن يعشقون الحرية ويؤمنون بكرامة الإنسان في كل زمان ومكان، ومن دلائل ما أؤكد عليه أنه اختار يوم 14 يوليو سنة 1934 موعداً لصدور العدد الأول من مجلته الشهيرة  آخر ساعة  وذلك لأن هذا اليوم هو اليوم الذي قامت فيه الثورة الفرنسية - أم الثورات العالمية - حيث اقتحم المتظاهرون  سجن الباستيل  وقد اشتعلت هذه الثورة التي هزت أوروبا بأكملها وقتها يوم 14 يوليو سنة 1789 ولعل من حصاد المصادفات - على سبيل المثال لا الحصر - أن نتذكر أن أسمهان قد غرقت يوم 14 يوليو سنة 1944 وأن ابنتها الصغيرة كانت تتهيأ في نفس ذلك اليوم للاحتفال بعيد ميلادها، أما الثورة التي أطاحت بالملكية في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم فإنها انطلقت يوم 14 يوليو - تموز سنة 1958.
وبعيداً عن حصاد المصادفات، أتذكر - بنشوة - أني اقتنيت مجموعة من أعداد  آخر ساعة  منذ نحو شهرين، وقد حرصت على شراء أحد هذه الأعداد، لمجرد أنه العدد الذي صدر يوم 23 يوليو سنة 1952 وبالطبع فإن ثورة الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر كانت قد انبثقت في ذلك اليوم نفسه، فكأن محمد التابعي - عاشق الحرية - كان يتنقل - من خلال  آخر ساعة  - من فرنسا إلى مصر على إيقاع ثورتين، الثورة الفرنسية أم الثورات العالمية، وثورة 23 يوليو 1952 في مصر، وهي أم الثورات العربية.
أمامي الآن وأنا أكتب هذه السطور عدد آخر من مجلة  آخر ساعة  هو عدد 30 يوليو 1952 أي بعد أسبوع واحد من قيام الثورة التي كانت قد اتخذت من اللواء محمد نجيب واجهة لها. في ذلك العدد مقال للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وهو بعنوان  لقد أصبح الحلم حقيقة.. من كان يتصور؟  ونظراً لأن هذا المقال تاريخي حقاً ومجهول في آن واحد، فلن اقتطف منه سطراً واحداً، بل سأنشره في جريدة  الراية  لكي يتعرف عليه القارىء بصورة مباشرة، وهذا المقال - كما قلت - منشور في المجلة التي أصدرها محمد التابعي ابتداء من يوم 14 يوليو سنة 1934.
لم يكن التابعي بالطبع هو الوحيد الذي عشق ما بشرت به الثورة الفرنسية وما رفعته من شعارات  الحرية - الإخاء - المساواة  فقد كان كتاب كبار من أبناء جيله يعشقون ما عشقه، ومن هؤلاء طه حسين وتوفيق الحكيم وحسين فوزي وأحمد الصاوي محمد ويحيى حقي، وقد كان هؤلاء جميعاً وسواهم امتداداً طبيعياً لأولى البعثات التعليمية المصرية والعربية في عهد مؤسس مصر الحديثة - محمد علي باشا، فهذه البعثة هي التي قدمت لنا رفاعة رافع الطهطاوي صاحب  تخليص الإبريز في تلخيص باريز ، وهناك دراسات مهمة صدرت عن تأثير الثقافة الفرنسية على أجيال الرواد من المفكرين والكتاب العرب، من بينها دراسة أصدرها الأب كمال قلتة، وهو أحد أبناء دفعتي خلال سنوات الدراسة الجامعية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، أما دراسته التي أشرفت عليها وقتها الأستاذة الدكتورة سهير القلماوي، فهي بعنوان  تأثير الثقافة الفرنسية على فكر طه حسين .
ولم يكن التابعي يتجول في فرنسا وإيطاليا والنمسا وسويسرا وسواها من الدول الأوروبية وحدها، ولكنه تجول كذلك في أرضنا العربية، وبالذات في أرض الشام - سوريا ولبنان وفلسطين - كما أنه كان واحداً ممن ركبوا  قطار فلسطين  الذي كان ينطلق من  القنطرة  ويمر بمدينة العريش، لكي يواصل رحلته إلى عكا وحيفا وتل أبيب.. وبالطبع فإن أسمهان قد ركبت هذا القطار كذلك مع كثيرين من أبناء الجيل العربي الذي عاش قبل أن تحل كارثة النكبة، وقبل أن تضيع فلسطين، وقبل أن يتوقف قطار فلسطين نهائياً، بعد أن قامت للكيان الصهيوني دولة على حساب فلسطين - شعباً وأرضاً، ولعلي أشير هنا - بلوعة وحسرة - إلى القصيدة المؤثرة الرائعة التي كتبها الشاعر العظيم محمود درويش، وهي بعنوان  سقط القطار عن الخريطة  ففيها تصوير بارع ودقيق لكل ما ضاع ومن ضاع.. من أرض وشعب.. ومن صور للحياة كانت حية وموجودة، وأصبحت منذ 15 مايو سنة 1948 صوراً شاحبة بل مفقودة.
وفي الخاتمة أقول: لو كان محمد التابعي مجرد رجل ثري يتذوق الجمال الأنثوي، ما كان قد أثار في عقلي وقلبي كل هذا الذي أثار مما أشرت إليه ومما لم أشر على حد سواء




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !