الكلام, مكتوب او شفهي, هو في الوقت نفسه مادة واداة تدخّل للوصول لهدف معين. وهو اداة برهنة هادفة بلغة طبيعية مفهومة لمتلقيها, لغة كل يوم. تختلف في اساليبها واستعمالاتها , ولكن لا تختلف في اهدافها: ايصال فكرة أو مقولة, أو احساس, أو رغبة, او طلب, الى الاخر. ووُصف الانسان بانه حيوان ناطق. وانه "بأصاغريه قلبه ولسانه".
ليس المقصود هنا لغة الجبر والرياضيات والرموز حيث لكل كلمة أو رمز تعريف خاص دون اي غموض في المعنى . ولا اللغة التي تقتصر على مصطلحات مهنية كالمصطلحات الطبية او الكيمائية أو الفزيائية أو القانونية او الفلسفية.. وانما اللغة والكلام المستعمل في الحياة اليومية والمخاطب به كل الناس شفهيا او كتابيا. ومع ذلك نادرا ما يصل لكل الناس كاملا بكل ما يحمّله اياه مرسله. فللمتلقي نفسه دور في اضفاء قيمة عليه قد لا تكون فيه, او في الانتقاص مما يعنيه, او تفسيره أ وتأويله حسبما يريده هو بحسن او سوء نية, وحسب فهمه واهتمامه وثقافته.
لاشك ان نقص البلاغة والمقدرة على التعبير وضعف الثقافة يترك للمتلقي هامشا أوسع لتفسير وتأويل وفهم المتحدث او الكاتب على هواه هو . ولا نريد للقارئ ان يدخل هنا في فلسفات ومقولات حول علم الكلام وطرق التحليل والتفسير...فليس هذا هدف هذه السطور.
الكلام وفن التعبير اشتهر به العرب قديما, ( والقديم المقصود هنا هو ما قبل عصر الانحطاط الاول, الذي تبعته بعض الصحوات القصيرة , الى دخول عصر الانحطاط الحالي الممتد دون انقطاع, والاشد انحطاطا من سابقه بما لا يقاس) نظموه شعرا أو خطبا أو أحاديث أو حكما, وعادات وتقاليد في التخاطب والاستماع, وبنوا عليه قيما ونظام تفكير (ليس بمعنى النظام المعروف عند غير العرب, فالعرب لم يشتهروا بالتنسيق والتنظيم والنظام, ولم يدخلوه حياتهم الخاصة او العامة ).
كان يعاب على الشاعر, مثلا, الخطأ في بناء القصيدة او الكسر في اوزانها . ويعاب على الخطيب الخروج عن عادات الالقاء, وتخفيفه من العبوس الذي قد يذهب بالوقار. والتلعثم , وتهدج الصوت, وعيوب النطق, اكثر مما يعاب عليه سطحية الفكرة وهزال المضمون والكذب على نفسه وعلى المستمع.
الانحطاط السياسي غير المتوقف منذ تأسيس الانظمة السياسية الحالية قاد المنطقة العربية الى الدخول في عصر الانحطاط الشامل. انحطاط في المفاهيم والقيم, في الثقافة والتعليم , في الاقتصاد والاجتماع, في مستوى الحياة من كل جوانبها, وفي بناء الانسان ..
ما يهم هذه السطور الاشارة الى انحطاط لغة التخاطب والكلام , وانهيار كل مصداقية على لسان الحكام العرب وانظمتهم. ليس لان "الانحطاطات " الاخرى اقل ضررا ــ فهي في الواقع من الاسباب الرئيسية التي قادت الى انحطاط لغة التخاطب والتعامل والتفكير والكلام ــ , وانما لأنه التعبير الظاهر والمسموع على مدار الساعة, والمعبر عن كل انواع الانحطاط ودرجاته والكاشف عنها.
كلام مارسته تلك الانظمة وسمعه المواطن العربي المنكوب بحكامه عقودا طويلة, كان يأتيه, وما يزال, مصاغا بشعارات أو تصريحات أو وعود. يقابلها, هذا المغلوب على أمره بهتافات واشادات وتصريحات حب وفداء, كلام مطلق على عواهنه وكانّ لا خادع فيه ولا مخدوع.
كلام على المخاطبين به أن يستحسنوه ويصدقوه وان يردوا عليه التحية بأحسن منها, ويقبلوا منه بضاعته مع علمهم بطبيعتها وزيفها, وان لا يتوقفوا عن التظاهر بالتصديق والتفاؤل , وعن الهتاف والتصفيق حتى ادماء الاكف, للهرطقة والشعوذة بسفاسف الكلام واحتراف الخداع.
كلام لم يعترف مطلقوه بعد انه فقد كل ما كان يرجى منه, وما كان يعول عليه, وعلى التداوي به كعلاج بديل. وبانه ازاد تهافتا مع الزمن. ( الزمن الذي لم يقم بدوره وفرض قوانينه عليهم كفرضها على بقية بني البشر, مفضلا تركهم خلفه لزمنهم هم, ولصنع زمن شعوبهم على مقاييسهم هم. وكأنه زمن عنصري ومتآمر لا يهمه العربي. العربي الذي لم يعد دائما يهم نفسه ).
كلام, المنطوق منه والمكتوب والمسموع, لم يعد مصاغا بجمل سليمة أو مفيدة , اصبح رنانا اكثر, ونشازا بامتياز, واصواتا تخيف ولا تطرب. لا جديد فيه. ولا يحتوي الا المكرر منذ عقود. يُردد ببغائيا بمناسبة وبغير مناسبة, فينساب على السنة الحكام الذين يحسنون الكلام أو بعضه, ويتلجلج على السنة نظرائهم ممن حرمهم الله نعمة الافصاح. ومن هنا اهمية دور الناطقين باسمهم والمؤجرين لهم السنتهم, والمستفيدين من خدمتهم , والداعين لهم بالسراء والضراء لان في الدعاء زيادة النعم. ومن هذا القبيل الكلام المرسل والمبثوث في محطاتهم الفضائية والارضية. والمسطر بالألوان في الصحف الورقية والالكترونية .كلام من نفس الكلام ..
يكفي, على سبيل المثال, الاستماع لبرامج تلفزيونية ( تقدم على انها مهنية صرفة, او على قدر من المهنية. غير موجهة, او قليلة التوجيه, او ليس من المتاح للجميع توجيهها, او ان بعض التوجيه فيها ولها من قبيل "الرتوش" لمجرد الإصلاح وتحسين ما هو خام) لنرى ونسمع مسرحيات عبثية باقتتال تسبق فيه الحركة العنيفة الكلمة النابية , وتوحي تعابير وجه الضيف ــ الذي جاء ليطرح رايا معاكسا او مواليا, ليس بطبيعة الحال دائما لوجه الله ــ بما في داخله من حضارة وآداب في التعبير والاستماع والالقاء, فيخرج منه وعنوة عنه الشخص الحقيقي الكامن في باطنه الرافض للترويض, ولو في حضرة برامج ومعدي برامج, ومستمعين في مشارق الارض ومغاربها. يتصارع الكلام ويجهد لان يقول شيئا مفيدا فلا يفلح طيلة فترة الحوار الحامي الوطيس ولا يخرج المستمع بشيء مفيد, مكتفيا, كعزاء, ببسمة خفيفة على شفاه المضيف الذي اوصل برنامجه لنهاية سعيدة.
يتفوق كلام المضيفين, معدي بعض البرامج, محرضي المدعوين بعضا على بعض, على كل كلام. وكأننا نرى السياسة العربية ممثلة بمسرحية هزلية على شاشة صغرة تضاهي الشاشات العالمية, ان لم تتفوق عليها بهرجة وتضليلا.
بداية صدّق المستمع العربي, المكتوم على انفاسه وعلى اسماعه لعقود طويلة, ان هناك ثورة اعلامية , فضائية , وأن هناك كلاما جديدا, وخروجا على المألوف. وبان الحقيقة وجدت اخيرا من ينطق بها. وانه رُد الاعتبار للكلمة و دورها, وأصبح في اللغة ما يقال. وان الجرأة دخلت اخيرا أرضنا المرعوبة, ليكتشف لا حقا بانه كما خُدع لعقود بالكلام المباشر واللغة المخادعة والادوات التقليدية, يُخدع من جديد بالإعلام الجديد المحسّن الصورة بجمال وجوه جميلاته فقط.
وباختصار, توقف الكلام عن لعب دوره في خدمة السياسة بعد ان اذلته وسفهته وجردته من كل صفاته لتحوله لثرثرة , ليس فقط "على ضفاف النيل", لا علاقة لها بالواقع وبالفعل, ولا وبالإنسان وكرامته . فلم يعد الانسان بأصغريه.
ويحضرني هنا, وللمقارنة بما يمكن ان يترتب على الكلمة الواحدة ان لم تكن محسوبة ومحترمة, و في محلها, ما جرت عليه العادة في المحاكم الفرنسية , حين يقول الرئيس (ة) للمحامي الكلمة لك استاذ. فيحيب هذا شكرا السيد (ة) الرئيس. كلمة شكرا هذه, التي لا تعني للمحامي اكثر من لباقة ومجاملة تجاه المحكمة , يترتب عليها الكثير في المفهوم القضائي. فهي لا تضع الفاعلين في الدعوى على قدم المساواة وانما تزيد المحاباة محاباة. فالقضاة جلوس على منصة القضاء, والمحامي واقف امامها ينتظر القاضي ليسمح له بالكلام. كلمة شكرا لأنه سمح له بأخذ الكلمة تزيف حقيقة الاجراءات , وكانّ المحامي يتوسل من القاضي البدء بمرافعته. وكأن لا حق له فيها وعليه ان يستجديها. في حين ان الدعوى ليس لها معنى ولا مبرر الا بالمرافعات فلا توجد دعوى حقيقية دون مرافعات. اذن لماذا الشكر والقانون يفرض هذا الحق فرضا على القضاة؟ ما يمكن ان يبرره فقط آداب المجاملة والاحترام المتبادل.
فما بالنا اذن بحقوق المواطنين على حكامهم, المفترض انهم في الحكم لخدمتهم, وخدمة مصالحهم التي هي مصالح الوطن, هل يتوجب على هؤلاء المواطنين استجداء حقوقهم منهم والقيام من اجل ذلك بطقوس الشكر والحمد والتسبيح, وحتى التذلل والانبطاح والتنازل نهائيا عن الكرامة ؟ .
هذا بعض ما جعل الناطقين بالعربية يتمنون النطق بغيرها من اللغات, كل اللغات, عدا العبرية بطبيعة الحال. بلغات المسلسلات التركية والمكسيكية ... والاستماع الى الخطب المصدرة الينا بالتركية والفارسية... وتلك التي تحتوي كلمات تلهب المشاعر العربية, بعد ان كادت تتحجر. المشاعر الباحثة عن صدق, او ما تحس فيه بعض الصدق. عن دعم في اي مكان, وملء الفراغ باي كان. الا يتمسك الغريق بقشة عل فيها نجاته. الا يحلم اليائس بمنقذ يعيد حقا ضائعا او كرامة مهدورة, أو يبعث املا بلقمة عيش كريمة. وحل قضية معلقة تأبد تعليقها.
تُردد, على سبيل المثال لا الحصر, كلمة غزة الآلف المرات في اليوم الواحد , على طول الوطن العربي وعرضه, وكلمات الحصار, وكسر الحصار, والنصر, والنصرة, والانتصار. وتبقى غزة على حالها ويضيق الى الاختناق الحصار, و لا تكسر من بعض جوانبه الا كلمات قليلة أجنبية غير راقصة ولا غنائية, ولا شاتمة او مهددة او متوعدة أو استعراضية. كلمات هادئة لها معان حقيقية ومدعومة بفعل يحمل تلك المعاني.
وعليه ليس غريبا ان يبحث العربي, المستعد لتعلم اللغات, عن حاكم ولو كان غير عربي, وغير ناطق بالعربية, وان كان منازع بشرعيته او نجاعته وبشعبيته في بلده. انها الآمال بالتغيير التي يئست غالبة الشعوب من قدومه. ولو كان تغيير كلام غير متهافت واقل خداعا وسوقية, وفيه بعض الواقعية, ويحمل شيئا من المسؤولية, بكلام متهافت . اليس الخطاب غير المألوف وغير المجرب بعد خير من ذلك الذي صدأ على السنة مردديه.
لم يعد بمستطاع الحكام, بعد مُر التجارب, بناء امال وتطلعات شعوب على اوهام ينقلها خادع الكلام. فهذا لا يعيد ارضا مغتصبة. ولا يرد حقا مسلوبا. ولا يطعم جائعا, ولا يجد عملا شريفا لمئات الالاف من العاطلين عن العمل. ولا يردع اجيال الشباب عن ركوب قوارب الموت باتجاه المجهول في المغتربات. افقدوا الكلمات فاعليتها بتجريدها من مصداقيتها. وكيف لمن لا يهتم بمصير الشعوب ان تهمه معاني الكلمات ومدلولاتها ووظائفها؟.
لقد انهى غير الملتزم عهد الكلمة الملتزمة والملزمة, والغى مسؤوليتها. ولو قُيض لسيسرون احد حكماء روما القديمة واشهر خطيب في كل العصور, ان يبعث حيا في زمننا هذا, في منطقتنا هذه, لما قال قوله: "يربط الثور من قرونه, ويربط الانسان من لسانه". ولأحتار في معرفة من اين يربط حكام شعوبنا, وباي عضو, وكيف.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)