لمن يحسن المحسنون ..
ثمة مساجد تفوق عدد الحارات في الأردن ، وثمة مصليات صغيرة ملحقة بها ، ولن يكون أمام من أراد الصلاة عذرا انه لم يجد مسجدا يصلي به بعد الان ، فالمساجد منتشرة كثيرة ، بل إنها تعاني من كساد وقلة رواد ، وفائض في الموظفين القائمين عليها ليكونوا بذلك من ضمن البطالة المقنعة التي نتحدث عنها عموما .
وبالتالي هل هناك من مبرر لبناء مزيد من المساجد ، لتضيف كسادا إلى الكساد ، وبطالة إلى البطالة ، وربما تقضم المزيد من الأراضي الزراعية او أراضي الخدمات العامة ، إلا إذا كنا ننوي أن نبني مسجدا لكل عائلة في الأردن أو البلاد العربية ، وقفت بالأمس على سطح العمارة التي اسكنها ، فوجدت العشرات وربما المئات من المآذن التي تنتشر في سماء المدينة ، تصدح بذكر الله تعالى كل وقت وحين ، فهل على من يريد الصلاة أن يخرج من بيته ليضع قدمه في المسجد ..
أم أن في المشي إلى دور الله سبحانه وتعالى فائدة دينية ودنيوية ليست بخافية على احد . فمثلا احد المساجد القريبة منا وهو واحد من أكثر من عشرة مساجد أخرى جميعها تتسع لمئات ، بل ازعم أن المسجد الكبير والأخر القريب منه يتسع كل منهما إلى أكثر من ألف مصلي ولكن لا يتوافد عليه أكثر من مائتين أو ثلاثة في اشد الأوقات .
بل راح البعض من الناس يدعوا إلى الصلاة في المعلب البلدي أو ساحة المدرسة القريبة ، أو إحدى الساحات العامة في أيام الأعياد.. ويتركوا المساجد للمؤذن وخادم المسجد .
هل كانت المساجد في المدينة المنورة أو مكة المكرمة في عهد الرسول عليه السلام هكذا .. وهل كانت المساجد في عهود الدولة الإسلامية بكافة عصورها بهذه الغزارة ( علما بان روادها كانوا هم الأكثر من عددا وهمة والأكثر إيمانا وحماسة للدين والدنيا على حد سواء .
هل تسابق تجار وأغنياء الدولة الإسلامية على مر عصورها إلى التباهي ببناء المساجد التي أخذنا نتفنن في بنائها وزخرفتها وعلوها وفخامتها ودقة صنعها .. والتمييز بين الغني والفقير من الناس حتى في المساجد .. فالمساجد في الإحياء الراقية راقية بالفعل ..وإما تلك التي في الأحياء الشعبية فهي مجرد بناء ليس أكثر .. والواقع يشهد على ذلك بما يكفي . ليس بلد عربي أو إسلامي دون غيره .
في المدينة المنورة ثمة مسجد كبير ( المسجد النبوي ) ولا يوجد الكثير من المساجد المنتشرة في أرجاء المدينة عامة .. فعلى من يريد الصلاة تجشم قليلا من المعاناة والذهاب إلى اقرب مسجد وليس بالضرورة أن يكون المسجد في الحارة ذاتها .أو حتى المجاورة لها . وفي هذا فائدة تشريعية قد تخفى على الكثير ، فهي تقوي صلة الفرد بمجتمعه ، وتزيد من الترابط الاجتماعي ، وتعمل على زيادة المعرفة ، ومعرفة الناس يبعضهم ( لتعارفوا ) من مصالح الدولة الإسلامية .
وكذلك في مكة المكرمة ، فالناس يأتون ويسعون إلى المسجد للصلاة من كل مكان ..ومن الخصائص التي تميزت بها المدينة العربية الإسلامية وجود المسجد الجامع الذي يأتيه الناس من كل مكان .
مسجدنا الذي في حينا تبرعت به محسنة امارتية ، والمسجد الذي خلفنا تبرعت به جمعية محلية من مؤسسات المجتمع المحلي ، والجامع القريب تبرع به تاجر عن روح والدته ، وهكذا ..مع حفظ احترامنا وتقديرنا لكل متبرع ومحسن فهو ما أراد إلا الخير ..
اليوم نشهد حملة غير مسبوقة لتعمير المساجد ..من محسنين عرب وأجانب( ربما ) ومن أهل الحي الذي ينون إقامة مسجد بعدما يتبرع محسن كريم بقطعة ارض لبناء مسجد حصريا ، أي لا يجوز بناء مسرح مثلا ، او نادي أطفال ، او حديقة عامة ، او مكتبة عامة ، او موقف سيارت ، او...
وهنا أتذكر غزوة العسرة ( غزوة تبوك ) وكيف تبرع محسن كريم ، سيدنا عثمان ، وسيدنا ابو بكر وعمر بتجهيز الجيش ، ولم يلتفت إلى عدم وجود مسجد في حي من الأحياء ، او حارة من الحارات ، او بالقرب من بيت احدهم .. وكيف تبرع سيدنا عثمان ببئر الماء وجعله وقفا للمسلمين وغيرها الكثير .. ذلك أن كرامة الإنسان اعز عند الله من الكعبة المشرفة .. ( لتهدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من إراقة دم مسلم ) .
مساجد كثيرة لمصلين قلة .. ما فائدة مسجد في كل شارع أو كل حي ، أو كل مربع من القرية او المدينة .. رأيت بعض المساجد ما يسمى اسما شعبيا لدرجة أن العامة من الناس من يسمى المسجد باسم العائلة التي بنته او باسم المتبرع او باسم الذي اشرف على جمع التبرعات او باسم العشيرة الأقرب إليه ..
نعم بات لدينا مسجد لكل عشيرة او عائلة ، او حي ..
لكننا لا نجد موقفا لسياراتنا .. او حديقة لاطفالنا .. او مكتبة عامة .. لماذا لا نبادر او يبادر المحسن الى بناء مدرسة .. او مركزا صحيا .. او مستوصفا ..
في باب كل مسجد العشرات من المتسولين الذي يدعون الحاجة والفقر والعوز والمرض .. وفي داخل كل مسجد ثمة معاق يجلس وهو يضع امامة سجادة الصلاة يتسول مستعينا بما أصابه من إعاقة .. والى جانبه رجلان يضع كل منهما سجادة صلاة يقف فوقها .. ربما يساعده احد الأطفال .. احدهما يجمع لصالح رعاية المسجد ... والأخر يجمع لصالح الأسر الفقيرة ..
رعاية المسجد يجب أن تكون منوطة بوزارة الأوقاف أولا وأخيرا .. فهي المسؤولة عنها .. وليس على المصلين ان يجمعوا ثن فاتورة الكهرباء والماء والصيانة الدورية والمستلزمات الضرورية لبقاء المسجد مفتوحا .. فوزارة الأوقاف وكما يقولون هي من أغنى الوزارات في بلداننا العربية عموما والأردن بشكل خاص ، ولكنها لا تحمل أي نفقات اتجاه المساجد ، او أي مسؤولية ، إلا أنها تأخذ ما يتم جمعه من أموال بسندات قبض رسمية ، وما ذا يحدث بعد ذلك الله اعلم . اما من يجمع لصالح الأسر الفقيرة .. فتلك الأسر الفقيرة أراها في باب المسجد .. فأين انتم من الأسر الفقيرة ...
احد من يجمع لصيانة المسجد لا اعرف ما هو عمله ربما كان عاطلا عن العمل بملابس رثة .. ولكن في كثير من الأوقات( بعد مغيب الشمس بعد أن تلقي الأسر بأكياس النفايات ) أره يجمع مخلفات المنازل في أكياس .. كعلب المشروبات الغازية والروحية ...
من هوا لذي يقوم على رعاية المسجد .. ومن كلفه بهذا ..
ومن هو المكلف برعاية الأسر الفقيرة .. وما دور وزارة الأوقاف ..وما دور وزارة التنمية الاجتماعية ...وما هو دور المحسن الكبير الذي لا يزال مصرا على بناء مسجد رغم ما نراه من كثرة المساجد وقلة من يرتادها ..
أدرك واعرف حجم الأجر الكبير الذي يحصل عليه المحسن والمتبرع الذي يبني مسجدا ، في الدنيا والآخرة ..وأدرك ما يحصله بعد أن يكتب على حجر من الرخام بالخط الأسود العريض( تبرع ببناء هذا المسجد السيد او الشيخ فلان ابن فلان ). ولكن هل يفقد المحسن أجره إذا بنا مدرسة او مكتبة او مستوصفا او حديقة أو..
أما آن لنا أن نفهم أن بناء وقفا إسلاميا لغايات مختلفة وليس بالضرورة مسجدا يقدم خدمة كما يقدمها المسجد خاصة في ظل غياب تلك الخدمة او نقصانها . رأيت في مكة المكرمة مجمعا تجاريا ضخما ليس واحد بل أكثر من واحد ..ويحتوي على العديد من الأسواق والمولات والمطاعم والمحلات التجارية بمختلف أنواعها وصالات العاب للأطفال وأماكن للجلوس والراحة .. وكل هذا في مبنى ضخم جدا أمام الحرم المكي ليكون وقفا إسلاميا لصالح رعاية المسجد الحرام ..اي ريعه يكون لصالح المسجد الحرام .. يغني المسجد ومن يقوم على رعايته وصيانته من السؤال ، هذا أعطى وهذا منع .
بهذا ساهم المحسن الكريم في تشغيل أيد عاملة كثيرة ، تعيل اسر عديدة ، وساهم في إنعاش السوق والحركة التجارية في البلد ، كما ساهم في توفير الخدمات المتكاملة في مكان واحد قريب من الجميع ، إلى جانب الناحية الجمالية التي أضفاها على المكان . الا يعد هذا عملا فيه من الإحسان ما فيه .. الم ينل هذا المحسن الكريم الأجر والثواب .. الم يقدم خدمة لمجتمعه ومحيطه . الم يقل الرسول الكريم ( خير الناس انفعهم للناس ) ..وبالتالي هل اقتصرت المنفعة فقط بناء المزيد من المساجد .
إني أرى في هذا هدار للمال ، وإضاعة للقدرات ، وتبذير في غير محله ، وتغليب مصلحة على مصالح ، وارى في المحسن ان يفكر فيما يمكن ان يفعله لمجتمعه ومحيطه ، فثمة العشرات من المحتاجين بالقرب منه وجيرانه ، وثمة العديد من المشاريع التي ربما تكون وقفا إسلاميا لصالح مسجد او مجموعة مساجد تدر دخلا يدير المسجد او المساجد المعنية ، ورعاية الأسر الفقيرة في الحي والأحياء المجاورة اذا لم تكن المدينة او القرية ، بما يحفظ كرامة الإنسان المتلقي للخدمة وبما يعين على إنشاء برامج توعوية في المساجد ودور الرعاية المهتمة المختلفة بما يكفل ان يرتاد الناس المساجد .
التعليقات (0)