مواضيع اليوم

لملم قليلا أنداء المساء .. وارحل

فارس ماجدي

2010-02-06 06:25:09

0

هو ذا المساء يدنو وأشباه النجوم تكاد تبدو , وكل شيء يمتثل سكونه، وها هي ذي الأشعة الوردية تروح في أنداءها ، وتجيء في أفياءها وتمرح في أنواءها ، وتلملم قليلا أشياءها، لتسكب في النفوس الثكلى آمالها ، قدم المساء مدلفا على هذه الأفياء مشيعا في كل الأنحاء رقيق الأهواء وعبير الأشياء ، في الوادي الغارق في حمرة المفارق وندى المشارق وسنى النمارق ولوعة الطوارق ودهشة المفارق ، وهناك على الذرىالبعيدة ترسل الشمس الثكلى سنى أشعتها الحزينة، كأنها من فرط حياءها دامعة ومن نارحمرتها باكية ، كأنها لا تحزن ولا تفرح ، دموعها سجال على آمالها الطوال ، اذ هي لا تعود في مواكب الأصيل بثوبها النبيل وقوامها الجليل.فكل يوم ينتهي هو موت كوني لها ولنا .
ما ثمة إلا رائحة المساء وعبث الأمواه في الوادي ينثال هنا وينزق هناك ، ونقيق ضفدع وصوت هزار، وحفيف أوراق الدفلى والزيزفون ، وابن آوى الذي يمشي على حذر بين شجرات الزعتر والأقحوان، على السفح البعيد يطلق بين الحين والآخر عواءه الذي يتردد صداه في جنبات الوادي .
وتلك الزهرة الثملى كأنها من فرط حياءها ثكلى، ومن شفيف عطرها خجلى، تميل ذات اليمن بأردافها الجذلى، وذات الشمال بأعطافها النعسى، على صفحة الماء الوضيء ، ليمرح ظلها الضليل، ويشيع سنا وجدها الجليل، ويفيض معناها العليل على القلوب التعبى والنفوس الوجلى والجوانح الوسنى .
ليتني اسطيع تسريح الطرف هناك ، الى ذياك الغدير ذو السكون الأنيق والهدؤ الرقيق ، والصفاء العتيق والانسياب الشفيق، كيف السبيل إليه وقد غار في الوادي وبعد مهواه إلا على الناظر بعين بصيرته.
أي أشواق انهلت ، وأي نسائم انبعثت ، وأي سكينة انسلت ، وأي احلام تنزت، يافضائي الذاهب بين أنداء الخمائل واهتبال الجدوال وصدح البلابل ، ها أنت تساقط من القمم القصية على السفوح البهية ، هيا اقترب .. اقترب مني من لحظة التوحد القصوى، إني لا أحتمل هذه القشعريرة التي تبعثها في كل جسدي بل وروحي الثكلى منذ آباد طويلة.

وهنا أطل الشيخ بوقاره وثمة قطرات من الماء الزلال تندف من شعيرات تمردت من لحيته من أثر الوضوء، ممسكا بيده عصاه التي انحت قليلا كأنها تتمثله ، قلت له وهو ينظر الي بعينيه الجاحظتين من مكانهما إن المساء يدهشني .
أجال بنظره في الأفق البعيد البعيد وقال:
حذار من الألفة ، كأن تألف الأشياء فلا تندهش لشيء، كل ما في الأرض وما فوقها مدهش وعجيب ، عجيب منتهى العجب ، وقد تكون أنت بجسدك وروحك وارادتك من أعجب ما في هذا الكون ، فحري بك أن تعيش في دهشة دائمة، وحري بدهشتك أن تفتح لك الباب الى قلب الحياة الفسيح.
أما متى فارقتك الدهشة ، فقد فارقك الأمل في الحياة وهكذا ستبقى غريبا عن الحياة التي هي أنت .
اياك أن تصرفك آمالك وأعمالك عن دهشة الحياة التي هي أمك، وآمالك وأعمالك لو تدري هي زبد متطاير في بحر حياتك .
قلت إنما أتحدث عن هذا الأحساس الذي غمرني بنوع من المشاعر المتضادة،
قال وأنا اتحدث عن أناك الكوني، الذي بطبيعته هو أنت وهذا الكون وهذه اللحظات المغرقة في السمو هي وحدها القادرة على خلق هذا الشعور ، لكن الطبقة الخاصة أوالممتازة من البشر و هم ندرة نادرة يعيشون في حالة دائمة من التوحد الكامل مع وجودهم الكوني. إنهم يولدوا تلك الجدلية الحافزة على الإثارة ، أولئك الذين أشاعوا سورة التوتر الحي معرضين عن الظاهر الساذج الى الباطن الشائك الزاخر بالمتناقضات وهم لم يكونوا معبرين عن أنفسهم الخصبة وحدها بقدر ما كانوا يتجسدون نوازع عامة يسري تيارها العنيف في الطبقة المتوثبة،
ثم جلس على صخرته واتكأ على عصاه، وقال اسمع يابني، الوجود الأنساني ليس هو الجسم المادي الذي تستشعره الحواس ، وإنما كل ما يصدر عنك من فعل أو قول أو فكر ، فهو تلك العلاقة المباشرة مع الأشياء الخارجة عنك ، فإشعاعات الذات من فكر أو فعل أو قول هي وجودك الحقيقي في هذا الكون، لأنها توجد في احداثه بغير ما ضرورة الى ادراكه ادراكا مباشرا ، وبالنظر من هذه الزاوية الى الوجود الانساني نرى أنه يخفق في الكون على موجات من التأثر والتأثير غير المحسوس، وهو من ثم وبالنسبة الى الحياة ذاتها يعتبر الحادث الذي تمخض عنه مجهودها بقصد خلق معنى جديد وتعبير مبتكر ، ولهذا كان كل وجود ضرورة، وكان خلاصة كل ما سلف من معاني، وما سبق من تعبير ، تجدد بها الحياة نفسها عندما تركز كل صورتها الخلاقة ومحصلتها من النمو الروحي في حادث جديد يتناغم مع الأحداث قديمها وجديدها ، فيهبها معنى أرقى وتعبيرا أدق ، وبهذا يمكن القول أن الحياة تعيد خلق نفسها مع كل خلق لوجود جديد هو ما يمكن التعبير عنه بلغة أصحابك الفلاسفة أن الكل سبب الكل ، إن الانسان يفيض معناه على الحياة ويخلط تعبيره بتعبيرها ومتى استطعت أن تستشعر هذا اللحظة تغيرت علاقتك بالكون واتخذت مفهوما جديدا ، فليس ثمةالزام من أي منهما للآخر وإنما الأشكال في العلاقات تتشابه و تتنوع و تتداخل وتتفاصل وتتواصل ، لتمكن عملية فض المعنى وخلط التعبير.
ثم قال توحد وواديك ما شاء لك التوحد ولكن أعلم أنه في البدء كان الانسان ، قلت له مقاطعا استرساله الجنوني وهنا تكمن الأزمة .
قال نعم والأزمة رمز على الحياة ، لأن الأزمة قلق والقلق للوجود الحي ينبوع متدفق للمعاني ولهذا كان في أزمة الانسان حياته وخلاصه.


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !