العـلامـة الراحل السيِّــد محمَّــد حسيـن فضـل اللّـه “قدس” إنَّنا عندما نتحدث عن الوحدة الإسلامية في لبنان، فهل ندعو إلى ذلك لنقول للمسلمين انغلقوا على أنفسكم، توحَّدوا مسلمين ثمّ انغلقوا؟ وهل هي وحدة ضد الآخرين في هذا البلد المشحون طائفياً؟لا، ليست القضية كذلك، بل إنَّنا نعتبر أنَّ قضايا الوحدة تتسع لأكثر من محور، وتتحرك في عدة دوائر، من خلال القضايا التي تحكمها.إنَّنا نتحدث عن الوحدة الإسلامية باعتبار أنَّها تمثّل وحدة تلتقي بوحدة أخرى، وعندها يمكن أن نتحدّث عن وحدة في الوطن تتحرك من وحدتين منفتحتين قويتين لا مجال فيهما لأية اختراقات صغيرة. إنَّنا نتحدث عن الوحدة بين المسلمين، وهناك من يتحدث عنها بين المسيحيين، لأنَّنا إذا انطلقنا من خلال وحدة كبيرة تتحدث عن وحدة أكبر، فعندها يسهل معرفة القواعد الكبيرة التي يمكن فيها اللقاء... ولكن عندما تريد أن تتحدث عن وحدة الوطن من خلال أكثر من دائرة، فعند ذلك سنضيع بين الدوائر الصغيرة التي قد تتحوَّل إلى ما يشبه الكلمات المتقاطعة. إنَّ حديثنا عن الوحدة، هو حديث، أيضاً عن الانفتاح على كلّ الدوائر الأخرى، من خلال مبادئ الإسلام وقيمه، ليكون الحوار فيما بيننا جميعاً، منطلقاً من الوعي، ومن موقع الانفتاح والرؤية الواقعية السليمة. لماذا نعيش الهم الآن؟ سؤال لم نجب عنه، لأنَّنا نشعر أنَّ هنالك أكثر من اختراق يتحرك في واقعنا ساعياً إلى الاستمرار في إثارة الفتنة من الداخل، لذا نشعر بأنَّ علينا معالجة هذه القضايا، لا على مستوى القيادات فحسب، بل على مستوى الأمّة كلّها، لأنَّه لا فائدة في أن تتحاور القيادات دون أن تعي الأمة معنى الوحدة، ودون أن تعي قضاياها. واجبنا تجاه الأمّة: إنَّنا نشعر بأنَّ علينا أن نجعل الأمة تتنفس روح الوحدة في الهواء الطلق، بعيداً عن كلّ المحاور، وكلّ الأساليب السياسية التقليدية التي عشناها، كما علينا في الوقت ذاته، أن نفكر في الأسباب التي أدّت إلى اختلاف المسلمين وانقسامهم، وبالتالي، علينا أن لا نهرب من مشكلة الخلاف، بل علينا أن نمتلك شجاعة مواجهتها كمقدمة لمعالجتها. ولا بُدَّ من الإقرار بوجود خلافات بين المسلمين، كما أنَّ هناك خلافاً بين المسلمين وغيرهم، منها ما يتصل بتفاصيل العقيدة، ومنها ما له صلة بتفاصيل الشريعة، وبتقييم الشخصيات التاريخية التي يخلص لها هذا الفريق أو ذاك. إنَّ هناك اختلافاً، ولكن علينا أن لا نتشنج أمام الخلافات ونتعقد من وجودها، بل علينا استخدام عقولنا في تناولها ومعالجتها في مختلف المجالات، بعيداً عن العِقَد والعواطف الشخصية التي تؤجج المشكلة. ولأنَّ المشاكل غالباً ما تحدث من خلال بعض مظاهر الخلاف التي تنطلق من كلام واعظ أو حديث خطيب، لتتحرك بعدها الجوانب العاطفية التاريخية، لذلك كان لا بُدَّ من أن نتحرك في اتجاهين: 1 ـ روحية العلم ورسالية الشريعة: لا بُدَّ للمفكرين والعلماء والمثقفين من بحث كلّ تفاصيل الخلافات بحثاً علمياً موضوعياً، شأنهم في ذلك مع أي بحث يتناول التراث الفكري والعقائدي لأي جنسية أو قومية انتمى، بحيث يتمّ فحصها ودرسها وتقويمها بعيداً عن كلّ التراكمات، ووفقاً للمعايير العلمية الموضوعية لا العاطفية. ويمكن لنا، من خلال ذلك، الحصول على نتائج جيدة تسمح بوجود مساحة واسعة من الأفكار والأسس المشتركة والمتفاعلة، هذا إن لـم نصل إلى حلول ونتائج حاسمة. إذاً، لا بُدَّ للعلماء المسلمين، الجديرين بهذه الصفة، من أن يعيشوا رسالية الفكرة والشريعة، وأن يكون هاجسهم بلوغ الحقّ ونشره. إنّنا نعتقد أنَّ التطور في الأسلوب الذي يعالج به العلماء القضايا الفكرية في العصر الحديث، يستطيع أن يحل المشكلة الفكرية الإسلامية بين علماء المسلمين ومفكريهم، بشرط أن يعيشوا روحية العلم، وأن يبحثوا في فكر أمتهم انطلاقاً من الينابيع الأصيلة للرسالة التي يعتقدون بها. قد يكون هذا الحل مثالياً على مستوى الواقع العام، ولكن من الممكن أن تتحرك الخطوات الأولى، في هذا المجال، مستفيدةً من الأجواء العلمية التي يكفلها العصر الحديث في طريقة مواجهة الخلافات الفكرية بعيداً عن كلّ الترسبات والخلفيات الفكرية التي لـم تحاكمها الأسس الأصيلة.إنَّ مثل هذه الخطوات القليلة والأولى، يمكن أن تفتح المجال لخطوات واسعة في المستقبل، لأنَّنا عندما نريد التحدث عن الوحدة، لا يمكن أن نتحدث عنها بطريقة "السندويش"، كما يتحدث السياسيون عن الحلول السحرية لمشاكل الأمّة، بل لا بُدَّ من أن نتحدث عنها كتطلعات مستقبلية تنتظر شروطها الواقعية من خلال تحركنا لتوفير مثل هذه الشروط من أجل المستقبل الكبير.إنَّه ليس حلاً سحرياً، لأنَّ الحلول السحرية هي تلك التي لا تملك أدوات واقعية لتحقيقها، ولكن ما نطرحه هو حل واقعي، يحتاج إلى أن نُحضِّر له أدوات الواقع ليتحرّك فيه، وهذا غير بعيد عن تجاربنا. فكثير من الأوضاع التي نعيشها كانت مثالية في تصورات الآخرين، ولكنَّها أصبحت واقعاً اليوم عندما تهيأت لها الظروف والشروط الضرورية واللازمة. لا بُدَّ من أن يكون عندنا مجال لحرية الفكر، وأن لا نتعقد من أية نتيجة سلبية أو إيجابية لما نؤمن به أو لما يؤمن به الخصم، لأنَّ الذين يتعقدون سوف لا يعيشون الحقّ ولا الرسالة ولا الإسلام، لأنَّ الإسلام ليس هو الشيء الذي ورثته، بل هو الشيء الذي تفكر فيه من موقع الأصالة، فإذا اكتشفت بنفسك أنّك مخطئ وأصررت على خطأك، فأنت لست بمسلم، لأنَّ الإسلام هو تجرد عن الذات، وانطلاق نحو الحقّ وخضوع له.
التعليقات (0)