لماذا يكذبون؟
سمعت أحد المعارف يروي قصة كنت قد سمعتها منه عدة مرات من قبل فوجدتها مختلفة الأحداث كالعادة. سابقاً لم أعر ذلك اهتماماً، فالقصة بحد ذاتها غير مهمة لكني عندما سمعتها منه هذه المرة ووجدت الأحداث تختلف أيضاً تنبه ذهني فسخرت منه بيني وبين نفسي، وتمنيت لو أستطيع أن اذكره بمقولة مشهورة "إذا كنت كذوبا فكن ذكوراً". إلا أنني كتمت ما بي وأخذت أتذكر كم مرة غيّر مضمون القصة وأدوار أبطالها ولماذا؟ كان في روايته الأولى مجرد راو لمشاهداته ضمن المجموعة التي تحرك الأحداث لتصنع الحدوتة التي شغلته، اختلف دوره في كل رواية بعد ذلك حتى أصبح الشخص البارز فيها عند روايته الأخيرة. دهشت ثم انقلبت دهشتي إلى غضب دفعني للتساؤل: لماذا يكذب الناس؟
الكذب رصاصة قاتلة للكاذب سواء أصابت دفها أم لا، سواء أحدثت دوياً أم لم يعرها أحد اهتماماً، تبقى وبالاً على صاحبها، مهما جلبت من منافع آنية فلن تقاس بالضرر الذي سيلحق به عاجلاً أم آجلاً، على أقل تقدير سيترك أثراً سيئاً عند معارفه وذويه كإنسان مهزوز غير قادر على تحمل تبعات تصرفاته وأقواله فيلجأ إلى تلك الطرق الملتوية، لا يثق كثيراً في صحة ما يقول ولا في ما يفعل فيستعين على التخلص من ذاك الشعور بانتهاج أسلوب رخيص مكشوف. علاوة على ما تسببه من روع في نفس عاشقي الصدق والباحثين عن الحقيقة فيفقد مصداقيته زمناً طويلاً.
بعض الناس يكذبون ليحققوا ما يريدون وعلى الرغم من إيماننا بأنه ليس للكذب بكل أشكاله وألوانه ما يبرره إلا أن ذلك يهون نوعا ما أمام من يتخذون الكذب هواية أو حرفة، يكذبون ويكذبون حتى يعتادوا الكذب فتصبح نفوسهم أول من يكذبون عليها ويكونون أول من يصدق الكذب. كذلك أولئك الذين يزوّرون مشاعرهم نفاقاً أو مجاملة دون أن يكون لهم حاجة لذلك فتحسبهم أقرب إليك من نفسك ثم تفاجأ بأنك الأبعد وأنك كنت هدفاً للاشيء سوى التسلية أو إبراز البراعة والتفنن في استلاب مشاعر الآخرين.
إن ظاهرة كهذه في بعض النفوس تؤكد على ذلك التنظيم الجميل في النفس السوية وعلى فضيلتها وجمال سجاياها الصالحة ودفعتها نحو رؤية تهوي بصاحبها نحو الفساد والتشويه واستفحال الداء. وعليه فمن يمارس تلك الآفة يعتبر إنسانا مريضاً تجب معالجته أو أخذه بالشدة والحزم حتى لا يمتد فساده في أي مجتمع. ليس الأمر مقتصراً على الأذى الذي يسببه لسامعيه بل يحمل الناس على التشكك في كثير من الأمور علاوة على التشكك بالأسس التي تقوم عليها العلاقات وأظن أن أحدا لا يمكنه الاستغناء عن الناس والعيش وحيداً وسطهم. ولا هو بقادر على أن يظل مستنفراً حتى يتبين له أن حسن ظنه في محله الصحيح أو العكس.
لقد أكدت الوصايا السماوية على أن الكذب من الكبائر. وأن من يصر على الكذب يكتب عند الله كذاباً. في حديث أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يدله على طريق الإسلام دون أن يشق عليه فسأله الرسول ألا يكذب. خرج السائل فرحاً معتقداً أن ذلك من أيسر الأمور، ثم يفاجأ أن المعاناة الحقيقية دخلت حياته. حين وجد نفسه لا يستطيع أن يمارس أي فعل أو قول يخشى أو يستحي أن يطلع عليه أحد في الوقت الذي يريد أن يحافظ على وعده للرسول بألا يكذب. لم يطق صبراً فعاد إلى الرسول يرجوه أن يخفف عنه فأخبره الرسول أن الصدق أهم سجايا المؤمن.
مرة أخرى لماذا يكذب من يكذب؟ أعرف أن سؤالاً مثل هذا قد يبدو مضحكاً في زمن أصبح الكذب فيه الحرفة الرائجة الرابحة والصنعة التي يتقنها كثيرون. من أجل ذلك فقد الناس الثقة بعضهم ببعض وكذلك بأنفسهم. من أجل ذلك فرضت العزلة نفسها بين الأفراد والجماعات كحل مريح. إنه طريق مرعب أقل تكاليفه تمزق النفس بتوزع الملكات التي خلقها الله منسجمة ومتوافقة بعضها مع بعض ليكون الإنسان الذي خلقه سوياً ومتكاملاً متحداً قولاً وفعلاً ويستحق الخلافة على الأرض.
التعليقات (0)