قرأتُ مؤخراً في موقع إسلامي متخصص في نشر أخبار العمليات التي يقوم بها المقاتلون والمقاومون ضد قوات الاحتلال وصفاً تفصيلياً لأحد رجال المقاومة وهو يلفظ أنفاسَه الأخيرةَ بعد إصابته وقد سمعه زملاؤه يتحدث مع الحور العين ويقول لهن: أقْبِلن .أقْبِلن !
لَم أفهم استعجالَ اثنتين وسبعين حورية من الجنة في عَرْض أنفسهن وأجسادهن على مُسلم لم تصعد روحُه بعدُ إلى بارئها.
لو استمع زملاءُ الرجل لصوته وهو يقول بأنه يرى نورا ربانيا أو يشاهد الأنبياء والصدّيقين والشهداءَ أو يَلْمَح من بعيد أحبابه وأقاربه ووالديه في جنة الخلد فربما يُلْجَم اللسانُ خجلا من انكار المشهد أو بعضه احتراما وتوقيرا لرجل دافع عن وطنه ودينه ضد الغزو والاحتلال.
أما أن يتحول المشهد القدسي إلى بورونجرافي وتصبح مكافأةُ المجاهد الأولى التي تصله قبل أن يقبض ملكُ الموت روحَه حوريات يداعبن خيالا محروما، وينتظرن الرجلَ ليمارس الجنسَ فورا، فتلك والذي نفسي بيده حالة مَرَضية نخشى الخوضَ فيها لئلا يتم تصنيفنا متعاطفين مع اليانكي ومرحبين بجنود العم سام ومهنئين سيد البيت الأبيض على جرائمه في حق شعبنا العراقي من الفلوجة إلى سجن أبو غريب.
الضلع الثاني من المشهد الديني الحديث هو القسوة والغلظة حتى أن دعوات الرحمة للآخرين التي يتوجه بها المسلمُ لله، عز وجل، أصبحت تشتمل في معظمها على صب اللعنات وايقاف الدماء في عروقهم وتصلب شرايينهم وترميل نسائهم وجعل أولادهم أيتاما!
في الجانب المقابل يختبيء المسلمُ من المسؤوليات الجسام التي تلقيها على عاتقه أمانةُ الايمان والواجب الأول لكونه ينتمي إلى خاتمة الرسالات السماوية وأعني الاكتراث والاهتمام بحقوق الإنسان وكرامة المواطن والمساواة بين البشر واعتبار الكتاب مرادفا للايمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر.
الحديث عن قطع الرقبة وفصل الرأس عن الجسد ومسرور السيّاف وإعمال حَدّ الرِدّة والجَلْد والرجم وتفريق الزوجين والاستتابة على أيدي علماء وفقهاء وتوقيع أقصى العقوبات على الكُتّاب والروائيين والمخرجين واعتبار الاجتهاد في أمور دينية طريقا مختصرا للالحاد والزندقة تقطع كلها بأن مسلم العصر الحديث يعتنق إسلاما غريبا عما جاء به القرآن العظيم ورسالة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
يمكنك أن تدلف إلى أي موقع إسلامي من عشرات المواقع التي تمتليء بها شبكة الانترنيت وتحاول نشر مشاركة في منتدى أو ترسل مقالا عن النقاب والحجاب أو قيادة المرأة للسيارة، أو رأيّ الإسلام في الموسيقى، أو تعدد الزوجات، أو الجماع مع جنيّة، أو مشاهدة العفاريت لجسد امرأة مسلمة، أو طب الأعشاب وأثره في فحولة الرجال، أو تُعَنْوّن مقالَك بكلمات مثل الشهوة أو الجسد أو النزوة أو الشبق أو الحور العين ووصفا تفصيليا لجمالهن، فحينئذ ترى تفاعلا عجيبا مع مشاركتك ومقالك ويدلي بدلوه كل من استطاع أن يفك الخط أو يميز ما بين الألف وكوز الذُرَةِ.
جرب مرة أخرى مشاركة أو مقالا في نفس الموقع عما يحدث في السجون والمعتقلات العربية، وامتهان كرامة المواطن، وحقوق الآخرين المتساوية مع حقوق المسلمين، وأهمية الثورة والتمرد ونزع حق الكرامة عنوة وأهمية وجود دستور دائم وعادل، وضرورة تنظيم أجهزة القضاء لتكون في خدمة العدل والمواطن ..
أو شارك بمقال عن محو الأمية والقضاء على الأمراض المتفشية ودعم لجان حقوق الانسان ورفض الاستبداد والديكتاتورية، ورؤية الاسلام الحنيف للانتخابات، أو أي موضوع آخر يتعلق بحقوق المواطن الطبيعية كانسان، فلن تجد إلا قلةً نادرة تشاركك همومك، فالمسلون يعتبرون هذه الموضوعات رفاهية أو من صغائر الأمور أو في ذيل قائمة أولويات الهم الاسلامي.
ثنائي غريب وكأنه توأمان سياميان من الجنس والعنف لا ينفصلان إلا بعملية جراحية بالغة الصعوبة.
حتى الرقابة على الكِتاب لا تخرج عن هذين التوأمين، فإما جملة إباحية في ثنايا مطبوعة أو مفهوم مناهض لفكر الرقيب فينبغي بترُ صاحبه من أي طرف حتى لو كان حقه في التعبير عن فكره واجتهاده.
ومسلم العصر الحديث قادر على استدعاء شهود زور من حوادث سياسية أو حروب أو مقاومة مشروعة أو إرهاب معاد لتعاليم الإسلام، فيختطف جملة من هنا، وحدثا من هناك ويقدم صورة شوهاء لدفاع أعوج عن قضية خاض فيها دون علم ..
ثم يربط حديثك بالمقاومة العراقية أو الفلسطينية ويضع على لسانك ما لم يدر في ذهنك من تحريم المقاومة الطاهرة المشروعة ضد الاحتلالين الصهيوني والأمريكي.
لابد من استعادة المسلم من عالم الهوس الجنسي والقسوة إلى المكان الطبيعي له أي التسامح والاجتهاد والعقل والبحث والعلوم والكِتاب والحوار مع الآخرين والسباق مع الزمن ورفع القداسة عن فقهاء القرون الأولى وجعل القرآن الكريم المرجعية الأهم والأولى في فكره وحياته وأحكامه وليس آراء العلماء والفقهاء وأصحاب الفتاوى ونجوم الفضائيات.
كل هذا لا يمس من قريب أو من بعيد حقوق المسلم في الدفاع عن أرضه ومقاومة الاحتلال ومناهضة العنصرية.
نحن في حاجة ماسة لثورة محبة وانفجار تسامح وتهذيب طرق تعاملنا الفكري والعملي مع الآخرين.
إن حقوق الآخرين في الفكر الإسلامي هي المحك الرئيس لجدية المسلم في التعامل مع العصر الذي يعيشه بدلا من استثارة الغضب، وتكفير الآخرين، وتحقير أديانهم ومعتقداتهم. المسلم في حاجة ملحة لاطلالة جديدة على العصر والتعامل من منظور أكثر قبولا للآخر، وفهم عميق وصادق لآيات الذكر الحكيم ففيها أقصى وأجمل صور التسامح. ألم يأن الوقت الذي يعتنق فيه المسلمون الإسلامَ من جديد؟
أوسلو في 2 فبراير 2005
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)