لو عاد إيلي كوهين إلى الحياة مرة أخرى، وتَلَقّى نفس العرض من الموساد بالتعاون، والتجسس لحساب إسرائيل داخل الأراضي السورية، فأغلب الظن أن الجاسوس الأشهر سيعتذر قائلا: بأن أجهزة الاستخبارات والقمع والتعذيب في سوريا تقوم بأكثر مما يمكن أن تقوم به كتيبة من الجواسيس التي تغلغلت في الكيان السوري كله.
لماذا دخلت القوات الأمريكية بغداد ولم تجد مقاومة تُذكر، بل حكايات الصحاف التي يقصها على البلهاء فيصدقها حفنة من أكثرهم بلاهة؟
لأن العراقيين كانوا يبحثون عن أي جحيم آخر يكون أهون قسوة، وأرحم عليهم من استخبارات صدام حسين وأجهزة قمعه.
واكتشف العراقيون بعد فترة أن الاحتلال الخارجي لا يختلف كثيرا عن الاحتلال الوطني الذي يمارسه أبناء البلد أنفسهم.
هل صحيح أن لكل إنسان وطنين، الأول وطنه الأم والثاني .. سوريا؟
إذا لم تكن سوريّاً وأحببت هذا البلد الطيب فلن تستطيع أن تُخلص فؤادك من هذا العشق حتى لو صبغت مشاعرك كلها باللون الأسود.
كيف تحول هذا الشعب العظيم إلى حالة من الخوف والهلع حتى لتشعر أن دقات قلب السوري تصيبك بالصمم لو طرق بابَ داره رجلُ أمن من أجهزة الاستخبارات المنتشرة من لواء الاسكندرونة المحتل إلى الجولان المحتل؟
هل يصنع الخوف حضارة؟
هل يمكن أن ينتصر ذكاء رجل استخبارات منشغل في تعذيب مواطنيه على خصوم الوطن وأعدائه؟
أتوقع أن ينفجر الحاضرون في اجتماعات الموساد ضحكا ومزاحا وتهكما عندما يأتي الحديث عن اختراقات موسادية لأجهزة القمع السورية، لأن انتهاك كرامة المواطن هو في حد ذاته صورة من صور التعاون مع العدو!
لو أطال الله في عمري وعشت لأرى قوات احتلال صهيونية أو أمريكية تجوس في شوارع قلب العروبة النابض فلن أتحمل يوما أو بعض يوم، خاصة عندما تنشر إسرائيل قائمة بأسماء الذين تعاونوا معها وسنكتشف كأننا لم نكن نعرف من قبل أنهم فقط المتورطون في تعذيب المواطنين، ورفع درجة الظلم إلى التنكيل بكل سوري يظن أن أمه ولدته ومعه كرامته.
لا يزال أبناء البلد مكرهين على ابتلاع كرامتهم، وعلى حمل جبال من الخوف فوق رؤوسهم فهي الطريق الآمن للانخراط في لعبة السيد والعبيد.
في سوريا شعب يستطيع أن يصنع معجزات في شتى المجالات، لكن الخوف يُفَرّغ قوى الابداع من طاقتها، فهو يصنع العبيد فقط.
عندما يلتقي سوريان في الغربة حتى لو تصادف أنْ جلسا في القطار من باريس إلى جنيف، أو في باخرة بين جونية وقبرص، أو في طائرة متوجهة من كاراكاس إلى ليما فإن الشك يفصح عن نفسه في نظرات مذعورة، ويمكن الحديث عن أي شيء إلا هموم الوطن.
ولا تزال أقبية السجون والمعتقلات تضم أعدادا هائلة من معتقلي الرأي والضمير ومن الاخوان المسلمين والشيوعيين والعائدين من الغربة وبعض اللبنانيين والفلسطينيين والكثير .. الكثير ممن أمضوا فترة العقوبة الظالمة فأضاف إليها جهاز الاستخبارات عدة أعوام أخرى.
كلما شاهدت تلك المسلسلات السورية الجميلة باللهجة المحببة أكاد أسمع خلفها أنينا ونحيبا ودقات قلوب يقترب أصحابها من قسم للشرطة أو ترتعش اليدان لدى سماع كلمة استخبارات والأمن العام .
طرحت سؤالي مرات كثيرة ولن أتوقف عن القائه في وجه كل من يصمت أمام اعتقال شعب: لماذا لا يفرج الرئيس الشاب بشار الأسد عن شعبه؟
لقد انتهت اللعبة، والمسرح مكشوف، وأنياب سيد البيت الأبيض كسكين بيضاء حامية حتى لو خرج مهزوما من العراق، فإن الجمهورية الاسلامية هي الهدف القادم قبل أن يسلط على سوريا الاسرائيليين أو يتولى معهم القضاء على آخر معاقل العروبة من دول المواجهة.
لا فائدة من الفنون والآداب والفلسفة والعلوم والتطور الاقتصادي والسياحة والاعلام وكل ما يظن الرئيس بشار الأسد أنه يحقق لشعبه الرفاهية والرخاء، فما دام الخوف مسيطرا على قلوب السوريين فلن ينتصر أبناء هذا البلد في أي معركة حتى لو كانت ضد أصغر ميليشيا لبنانية أو تركية أو اسرائيلية أو عراقية مدعومة من قوات الاحتلال.
الأحرار فقط هم القادرون على صناعة مقاومة مشروعة، وهم الأقدر على الدفاع عن الوطن، أما المرتعشة أجسادهم، والمصطكة أسنانهم، والمنفصلة ركبهم، فسيحلمون بالتخلص من مذليهم ومهينيهم ومعذبيهم ولو في أحضان عدو خارجي.
السوريون يخافون السوريين ، ويظن كل سوري أن رفيقه أو صديقه أو جاره سيوشي به لدى النظام، وأن خروجه من الوطن ولو في زيارة قصيرة يحتاج لصك براءة، ودخوله إلى وطنه بعد غربة يعني غربلة تاريخه للتأكد من أنه لا يحمل في صدره أحلاما لا تروق لأجهزة الاستخبارات.
لم تعد رسائلي ومقالاتي الموجهة للرئيس الدكتور بشار الأسد مجدية فقد تم اعتقال سيد القصر حتى لو أقسم بأغلظ الايمانات أنه صاحب الأمر والنهي والقرار الأول في سوريا.
كانت الفرصة أمام الرئيس الشاب أكثر سطوعا من شمس دمشق الدافئة، وكان يملك الكلمة الأكثر التصاقا بالارادة الشعبية، وانتظر شعبه العظيم بصبر يعجز عنه أيوب أن يقرر تحرير سوريا من أكلة لحوم البشر، وأن يُسَرّح جنرالات التعذيب والقمع، وأن ينضم لشعبه في عهد من الكرامة، لكنه آثر الانضمام للزعماء المعتقلين في قصورهم وهم يظنون أنهم أحرار. هل يتحمل القلب أحزان السوريين في الخوف من اكتشاف مقابر جماعية؟
قل لي كم عدد السجون والمعتقلات لأحصي لك الطابور الخامس من أجهزة القمع والأمن، إنهم سوريون وقلوبهم مع إسرائيل!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 11 مارس 2007
التعليقات (0)