لجأت إلى مكتبة تعصمني من هذا البرد المهلك وأنا أتقي كرات الثلج الصغيرة بقفازات اليدين كأنني حارس مرمي في فريق "تشيلسي" العظيم. كانت واحدة من مخازن الكتب الصغيرة التي يشتهر بها شارع العرب اللندني الشهير "ادجور رود"، حيث سحب دخان النارجيلة، والصيدليات التي تبيع الموت دون وصفة طبية. وما كدت أضع قدمي اليمنى لاجئاً إلى الدفء حتى استقبلني مشهد حوار غاضب بين طفل يبدو في العاشرة من العمر وبائع الكتب المصري الذي اعرفه منذ ثلاث سنوات عجاف.
كان الطفل يحمل بين يديه كتاباً، من تلك الكتب المجهولة الاسم والمصدر، ينتقد السعودية وعلى غلافه صورة لملكها عبد الله بن عبد العزيز. الطفل الذي تبينت من لهجته أنه واحد من أبناء بلادنا البعيدة، يصرخ بعنف: "هذا حرام، كيف تبيعون الكتاب، لماذا تكتبون عنه بهذا الطريقة.. إنه مسلم.. الخ". ويحاول البائع تهدئته دون جدوى شارحاً له إنه لم يؤلف الكتاب بل إنه يبيعه ضمن مئات الكتب الموجودة في الرفوف.
ومع ذلك لم يقتنع الطفل، بل أخذ يزعج الموجودين، حتى قرر البائع أن يخفي الكتاب علّه يستريح من هذا الصداع السعودي الصغير في هذه الليلة المطيرة.
إذاً هنا في لندن، وعلى بعد آلاف من الأميال التي يختلط فيها العشب بالقحط، وعلى بعد ساعات بالطائرات التي تسابق البصر والبصيرة، وبعيداً عن أجهزة التلفزيون، والكاميرات، والصحافيين، يقرر هذا الطفل أن يعبر عن حبه بصدق وإخلاص وإزعاج!. طفل صغير، ليس لديه مصالح مثلنا، ولا حسابات، ولم يكن معه من يوجهه، أو من يدفعه، يقرر طواعية أن يدافع عن ملكه في مكان لم يكن أحد ليعرف عنه لولا الصدفة التي قادت كاتب هذه السطور والمطر الغاضب.
هذا المشهد الصغير كان أكثر تعبيراً من مئات المقالات، وعشرات الآلاف من كتب المديح، وعرائض "سيناتورات" الصحافة المحلية (جمع سيناتور وهو عضو مجلس الشيوخ الأميركي). كانت تعبيرا على طبيعة العلاقة التي تربط بين رأس الهرم السياسي في البلاد، والشعب المتناثر على امتداد هذه الكرة الكونية شرقاً وغرباً، دراسةً وعملاً وسُكنى.
بالفعل إنه ملك غير معقول بشعبية غير معقولة. جاء الدليل من خلال اخر الاستفتاءات التي أجرتها إحدى مؤسسات البحث الأميركية مؤخراً وكانت نتيجته أن عبد الله بن عبد العزيز هو الحاكم الأكثر شعبية في العالمين العربي والإسلامي.
ربما لا يجد الكثيرون تفسيراً لحجم هذه الشعبية الجارفة في بلدان أعتادت على كره الزعماء باعتبارهم متخاذلين وفاسدين. في الأردن قرر سائق التاكسي أن يوصلني مجاناً لأنني من بلاد عبد الله من عبد العزيز، وفي بيروت قال لي أحد العاملين في فندق صغير كنت سكنت فيه أنه يفضل مملكة عبد الله على مملكة نصر الله، وفي الرياض قال لي صحافي أجنبي زائر إنه فوجئ في اليوم الوطني بالناس الذين يحملون صور الملك رغم أنه في سنين المراهقة يفترض بهم رفع صور لاعبي كرة القدم؛ وفي كل مكان هنالك قصة مع ملك ملء الدنيا وشغل الناس.
والسر بسيط، والسبب أبسط.
انه ملك لا يتحدث العربية الفصحى، لكن يتحدث السعودية الفصحى بطلاقة، وهي اللغة التي يعرفها شعبه، ويفهمها، وتصل إليه أسرع من الصوت والضوء والبرق. وأيضاً لأنه صادق مع نفسه ومع الآخرين إلى الحد الذي جعله يقول في قمة الكويت الشهيرة أن مشكلة الأمة العربية تكمن في الزعماء أنفسهم، الذين هو واحد منهم. ناهيك عن الإصلاحات والمعارك ومكافحة الفساد التي يخوضها بكل إيمان وإقتدار في بلاده منذ توليه الحكم قبل خمس سنوات سمان.
هنا في لندن رأيت شباناً أتوا من القرى البعيدة، والمدن الصغيرة، التي ربما نسيتها التنمية سنوات وسنوات، وإذا هم بلمح البصر يطرقون أبواب الجامعات الكبرى، ويحصلون على أرقى التعليم الدولي، فقط لأن عبد الله بن عبد العزيز منحهم الفرصة للبحث والتجريب ورؤية العالم.
إلا أن المحزن هو أنه لم يخرج من بين مئات الصحافيين والكتاب من يستطيع أن يؤلف كتاباً عن هذا الملك الأسطوري يقول القصة الكاملة بدون زيادة أو تزويق أو مدح مبتذل.
لا يوجد اروع من الصدق مع ملك لا شيء يغضبه أكثر من الكذب والكاذبين.
التعليقات (0)