الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
هذا المقال كتبته من مدة طويلة وأخذت في نشره في بعض الصحف والمجلات.
وأحببت أن أضعه بين يديكم :
1ـ حق الاختيار عند الليبرالية :يشمل حق الاعتقاد والديانة فالمسلم من حقه أن يلحد ،ومن حقه أن يتنصر ،ومن حقه أن يتهود. كما يشاء. وقد عبر عنه أحد الليبراليين بقوله:(حق البحث عن معنى الحياة وفق قناعاته لا وفق ما يُملى أو يُفرض عليه. بإيجاز العبارة، الليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد ـ الإنسان أن يحيا حراً كامل الاختيار في عالم الشهادة، أما عالم الغيب فأمره متروك في النهاية إلى عالِم الغيب والشهادة)انتهى
ووفقاً لهذا الأمر فقد رأى الليبرالي أن دعوة المجتمع المسلم إلى هذه الثقافة أمر مستساغ.!
لكن منهج الإسلام يعارض ذلك في عالم الشهادة قبل عالم الغيب . وذلك لأن المجتمع المسلم يؤمن بأن الإرادة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى فقط،.وأن الإنسان كسائر المخلوقات هو تحت تصرف وتدبير المولى جل وعلا .ولكن الله تكرم ففضله على سائر المخلوقات بالعقل ،والتكليف .ثم يجازيه على ذلك في عالم الشهادة أي في الدنيا ،ويثيبه في عالم الغيب بجنة يخلد فيها ويعيش الحرية الحقيقة بلا مرض ولا حزن ولا ضنك ،بل سعادة مؤبدة .ولما كان الناس يتفاوتون في العقل وقد يقع في السفاهة أحياناً فقد فُرضت على المسلم الموانع التي تمنعه من التهور والوقوع في الردة ومنها أحكام المرتد المعروفة عند المسلمين .وفائدتها لاتقصر عليه فقط بل فيها منافع لعموم المجتمع منعاً لأعداء الحق من التخذيل عن الدخول في الإسلام الذي تكون به السعادة الأبدية .ولذا كان من سياسة اليهود أن يسملوا في أول النهار ويكفروا في أخره لكي يخّذلوا الناس عن دين الإسلام، قال الله تعالى(( وقالت طائفة من أهل الكتاب أمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون(( فقطع الله جل جلاله عليهم كيدهم ومكرهم ،وشرع أحكام الردة حفظاً للحق ،وإزهاقاً للباطل.
وأيضاً: فإن هذه الفكرة التي طرحها الكاتب تقوض تشريع راسخ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2ـ ويقول الليبرالي: أن تكون(الحرية) مقيدة بقيدين أساسيين من أجل ذات الحرية
القيد الأول:حرية وحقوق الآخرين، والثاني:القانون الذي يشكل خريطة الحقوق والحريات.انتهى
فأما الشق الأول:فإنه يريد حرية لااغتصاب فيها بكل ألوانه .
لكنه غفل عن كون الزنا بالمرأة طواعية ،واللواط بالفتى طواعية والربا طواعية ،هو ضرر من وجوه أخرى على نفس الفرد ،وعلى الأخرين :فأما الأخرين فالزنا مثلاً فيه ضرر على الطفل الذي قد تحمل به المرأة الزانية معنوياً ،وحسياً . واترك تفاصيل هذه الأضرار التي تلحق بابن الزنا لمنطق العقل عند كل عاقل فيكفر فيها بعقله.وفيه ضرر على والداها ،وعلى أخوتها الذي استهان بكرامتهم .بل قد يصل الأمر إلى انتصارهم لكرامتهم بسفك دم الزاني المعتدي على حرياتهم.وما يترتب عليه من مفاسد.
وأما الفرد نفسه ففيه الأضرار الصحية المعروفة كأمراض الأيدز والهربز والسيلان وغيرها.وإن كان متزوج ففيه خيانة زوج لزوجته أو زوجة لزوجها .
فمجرد التراضي على فعل الزنا واللواط ،والربا وغيرها من المعاصي لا يعني عدم الضرر على الفرد والمجتمع ،فليس الضرر مقصور على الاغتصاب. ومفهوم الحرية الليبرالية هنا قاصر جداً لأنه ينظرإلى حرية ساعة ولا ينظر إلى آثارها.
والشق الثاني:أن خريطة الحقوق والحريات في المجتمع المسلم مرسومة وفق قانون وشريعة الإسلام .ولذا فالليبرالية ثقافة مناقضة لثقافة المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه الليبرالي .فمن الغلط الشنيع تجاهل ثقافة المجتمع بأسره لأجل شواذ فيه.فهذه تسمى أنانية محضة .كما أنها تهور ومجازفات تدمر السعادة في الدنيا والأخرة .فمجرد القبول لثقافة الليبرالية هو تعدي على ثقافة الإسلام.لأنه لا يمكن الجمع بين النقيضين.وعلى هذا فصار من العبث طرح فكرة الليبرالية بأدنى تأمل في القيدين المذكورين في كلامه.
3ـ و يقول الليبرالي : فرض اعتقادك على الآخرين، لسبب أو آخر، فإنك قد تحولهم إلى معتقدك ظاهراً، ولكن هل يتحول الضمير باطناً؟
أقول: المطلوب أصلاً هو قبول الاعتقاد الصحيح باطناً وظاهراً مادام الاعتقاد صحيح في نفسه .
لكن الإنسان طاقاته محدودة في العلم والمعرفة والقدرة ،والإرادة مهما بلغت الذروة في نظره فإنها محدودة.
وعلى هذا فليس المطلوب من المجتمع الإطلاع على بواطن أفراده :إنما المطلوب منهم البيان الظاهر الذي يقود إلى سلامة الفرد في اعتقاده سواء أذعن في باطنه أو أبى واستكبر ،فمرد العلم بالبواطن إلى الله تعالى وحده وهو الذي يحاسبه على ذلك ،ومرد المسؤلية هنا إلى الفرد نفسه لا إلى غيره . كما أن إظهار الاعتقاد مما يحاسب عليه الله تعالى ولكن المسؤلية فيه تكون على الفرد نفسه وعلى المجتمع حوله كل بحسب قدرته واستطاعته .فهي مسؤولية مشتركة بين الفرد والجماعة بخلاف الباطن فهو مسؤولية الفرد فقط.
لأن هذا مما يدخل في إمكان المجتمع فكلفهم الله تعالى بما ظهر لهم لا بما لا يستطيعونه.
ولما كان الإسلام صحيح في نفسه عقيدة وسلوكاً ،كان الأمر به واجباً محتماً .لأن الصحة هنا ليست بنسبية بل هي كلية .بخلاف الأفكار الاحتمالية الوضعية فإنها تحتمل الصواب والخطأ .والصواب الذي فيها لا يخالف الإسلام قطعاً.لكن ميزان تصحيح الفكر وعدمه يرجع إلى الميزان الرباني العاصم عن الخطأ .
4ـ يقول الليبرالي:أن من أهداف الليبرالية زوال الأقنعة .فلا يبقى للنفاق مكان لأن الظاهر يوافق الباطن.
أقول: لاشك أن زوال الأقنعة هدف عظيم ،لكن هل زوال الأقنعة من الأهداف المقصودة لذاتها ،أم لهدف أسمى وأرفع ؟!.أظن أن العاقل سيقول :بل هو لهدف أرفع من مجرد زوال القناع .والهدف هو زوال النفاق .لكن ما معنى النفاق ؟النفاق :هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام .أو بمعنى أوسع هو ابطان الباطل وإظهار الحق .
فإذا علمنا معنى النفاق فإن إبطان مخالفة الشيوعية ،وإظهارموافقتها . لايعد من النفاق ،لأن إبطان بغض الباطل صحيح بلا ريب فكيف يسمى نفاقاً؟! .وإنما الخطأ في إظهار الموافقة وهذا لا يسمى نفاقاً وإنما يُسمى مجاهرة بالباطل .كذلك قل في الليبرالية فإن إبطان بغض الباطل صحيح بلا ريب فلا يسمى نفاقاً .
اما النفاق الحقيقي :فهو إبطان بغض المولى جل جلاله ودينه ورسله وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم،مع إظهار الموافقة لها .فهذا هو النفاق المذموم حقاً .
وختاماً : فلا مجال لقبول الليبرالية في مجتمع المسلمين ،لأنها تناقض ثقافة الإسلام ،والجمع بين النقيضين محال . والخير الذي فيها من تحقيق العدل ومنع الظلم موجود في الإسلام فلا حاجة لنا بها.وأنا أتكلم عن الإسلام الحقيقي كثقافة وديانة ،لا عن أخطاء بعض المنتسبين للإسلام.فإن أخطاء الأفراد أو الجماعات لا تغير حقائق الثقافات .لأن الخطأ ينسب إلى فاعله ،لا إلى الثقافة التي هي أصلاً تخالف ذلك الخطأ .
التعليقات (0)