في لبنان، كما في غيره من البلدان العربية وبعض الدول الغربية، ثمة قسم لا يستهان به من افراد الطبقة الحاكمة واصحاب المناصب الرفيعة، متورط بملفات فساد او اجرام او اعمال مخالفة للقانون، الا ان هذه الملفات تبقى طي الكتمان غارقة في مجاهل التعتيم وغياهب النسيان، لا يتم فتحها واثارتها اعلاميا وقضائيا الا عندما يراد التخلّص من صاحبها او احراجه لاخراجه، اوابتزازه لارغامه على السير في مشروع ما برفقة سواه من الفاسدين.
وفي بلدنا لبنان، وتحت حجة "مكافحة الفساد"، تعرّضت احدى المحطات الاعلامية التلفزيونية المعروفة بانتمائها للمعارضة التي يقودها "حزب ولاية الفقيه"، لدار الفتوى التي تمثل المرجعية الدينية العليا الاولى والاخيرة للطائفة السنية في الجمهورية اللبنانية، وذلك عبر تأمين منبر اعلامي لشخصيات مشبوهة تنتمي للطائفة المذكورة، عملت على اثارة ملفات واظهار وثائق تدل على وجود هدر للاموال في دار الفتوى والاوقاف الاسلامية، وتدين مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني صراحة بالفساد المالي والاخلال بالامانة في ادارة شؤون طائفته، وتطالبه بالاستقالة، مغلفة اتهاماتها بمظاهرالغيرة والحرص على مصلحة طائفتها ومرجعيتها الدينية.
ولسنا هنا في وارد تبرئة مفتي الجمهورية من التهم المساقة اليه او ادانته، فذلك متروك للتحقيق والتدقيق المالي الذي اعلن عنه المجلس الشرعي الاعلى، الا ان المراد بهذا المقال محاولة تحليل واكتشاف سبب اثارة هذا الملف في هذا التوقيت بالذات، ولماذا وقع الاختيار على شخص المفتي قباني دون غيره من الشخصيات او المرجعيات الدينية؟!
بداية، يخطئ من يظن ان بإمكانه الوقوف على حيثيات هذا الموضوع والوصول الى التحليل الصائب لمختلف جوانبه دون ان يأخذ في عين الاعتبار المتغيرات السياسية التي عصفت بلبنان منذ اغتيال الزعيم السني والوطني والعالمي القوي الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وصولا الى تاريخ اثارة ملف دار الفتوى منذ شهرين تقريبا واعادة تحريكه اعلاميا بشكل مشبوه في الاسبوع الاول من شهر شباط الحالي... لأن تلك المتغيرات ودور مفتي الجمهورية في التعامل معها، هما بداية الخيط الذي سيدلنا ويوصلنا الى معرفة سبب اختيار الشخص وتوقيت اثارة ملفاته بغض النظر عن صحة ما اتهم به او بطلانه. ولنبدأ باستعراض اهم تلك المحطات المفصلية في تاريخ لبنان الحديث، وكيف واكبتها مرجعية المسلمين في لبنان:
1- ففي اليوم نفسه لعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انعقد اجتماع في دار الفتوى، وأعلن المفتي قباني: "أن المسلمين السنة في لبنان يشعرون أن قتل الرئيس الحريري يستهدفهم في وجودهم ودورهم وكرامتهم، وهم لن يكتفوا بالاستنكار، ولن يسكتوا عن حقهم ومطالبتهم بكشف الجناة المجرمين أياً كانوا ومعاقبتهم، وهم يعلنون أنهم قد نالهم من الضَيم ما يكفي، ومن الصبر ما لم يعد يُحتمل". وكان هذا البيان بمثابة اعلان تحرّر المرجعية السنية من املاءات وضغوطات سلطة الوصاية السورية، وبداية التلاقي الاسلامي المسيحي العلني "المحرّم سورياً" على اهداف مشتركة، تلخصّت بشعارات "لبنان اولا"، والحقيقة والحرية والوحدة الوطنية.
2- تشكلت لجنة التحقيق الدولية، واندحر الاحتلال السوري عن لبنان، وجرت الانتخابات النيابية ربيع 2005، فاكتسحتها قوى 14آذار وبدأ "حزب ولاية الفقيه" يشعر بالانكفاء والعجز عن ملء الفراغ السياسي الذي احدثة انسحاب الجيش السوري، فقد كان الحزب الايراني يأمل -كما كان مفترضا- ان تنتقل الوصاية اليه، فبدأ محاولته الانقلابية لاستعادة السلطة بافتعال "حرب تموز2006"، التي كانت اشبه بمسرحية اداها ابطالها بمهارة، ليقدّم بعد انجلاء غبارها واسدال ستارها الوزراء الشيعة استقالتهم من الحكومة، ويتهم امين عام "حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة صراحة في 7/12/2006 بلعب دور التواطؤ والعمالة والخيانة ضد حزبه في حرب تموز، وأنها هي التي أوعزت لأميركا وإسرائيل بشنها على لبنان، وأعلن أن "المعارضة لن تخرج من الشارع قبل تحقيق الهدف الذي ينقذ لبنان"، وأن "أبواب التفاوض لا تزال مفتوحة لتشكيل حكومة وحدة وطنية"، ونبَّه أنه إذا أصرَّ الفريق الحاكم على رفضه "فإننا لن نقبل بعد مدة حكومة وحدة وطنية يرأسها أحد منهم، وسيتحوَّل هدفنا إلى إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية تُمهّد لانتخابات نيابية مبكرة". وختم واعداً جمهوره بـ "النصر مجدداً".
في هذه الأثناء، بدأت وفود من علماء أهل السنة والجماعة تتقاطر إلى السراي الحكومي، معزَّزة بأبناء الطائفة، بغية تأكيد دعمها حكومة الاستقلال الثاني؛ وصدر عن مفتي الجمهورية تصريح ناري بعد خطبة الجمعة في 8/12/2006، جاء فيه: "نريد أن نقول إننا نقف بكل قوة إلى جانب رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، ونعتبر أن إسقاط رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة وحكومته في الشارع هو خط أحمر لن نسمح بتجاوزه أبداً، وليعُد الجميع إلى المؤسسات الدستورية، فهناك العمل الديموقراطي وليس في الشارع".
وبذلك، نجحت حكومة الاستقلال الثاني في تحصين نفسها من أي محاولة غادرة لإسقاطها في الشارع أو بالقوة، وما ذلك إلا لربط الحكومة بأهل السنة والجماعة، وإرساء معادلة الخط الأحمر التي اعلنها المفتي بموقف تاريخي، وليس للدعم الأميركي الكلامي الخادع والمفرّغ من اي مضمون عملاني، كما يحاول البعض اشاعته. وخير شاهد على هذا الكلام، إقرار قائد المعارضة حسن نصر الله بصحته، فقد قال في 24/1/2007: "الذي منع حتى الآن، وهذا يجب أن يكون مفهوماً ومعلوماً في قراءاتنا لما جرى وما قد يجري، الذي حال دون سقوط هذا الفريق المتسلط، ليس الدعم الدولي الذي لم يحل دون سقوط أي نظام في المنطقة عندما أراد شعبه أن يسقطه، الذي حال دون سقوط هذه الحكومة اللادستورية، هو مناقبية ووطنية والتزام المعارضة، وحرصها على السلم الأهلي والعيش المشترك، وعدم دفع البلاد إلى أتون حرب أهلية...".
3- تابعت المعارضة محاولاتها الانقلابية، فدعت في23/1/2007 إلى إضراب عمالي عام استشعرت مع بدايته انه لن يُجدي نفعاً نظراً لقلة القطاعات العمالية المتجاوبة معها، فكان أن فرضته بالقوة جاعلة منه محاولة انقلابية جديدة على السلطة الشرعية اللبنانية، بلغت أقصى مداها في التحرك العنفي، والاعتداءات الميليشيوية على حريات اللبنانيين، وكانت حصيلة هذا اليوم الأسود ثلاثة قتلى وأكثر من 150 جريحاً، سقطوا على أثر مواجهات حصلت بين جمهور القوى الاستقلالية السيادية، وميليشيات وعصابات المعارضة.
وعلى أثر اشتداد وَطْأَة هذه الأعمال التخريبية، ووقوف الجيش منها موقف المتفرِّج، وجَّه مفتي الجمهورية رسالة إلى اللبنانيين أكد فيها: "أن محاولة إسقاط الحكومة من خلال الشارع، ومن خلال حصار بيروت، عن طريق العنف والتهديد والقهر، لن تمر، ولن نتركها تمر مهما كان الثمن"، وأجرى اتصالاً بقائد الجيش يومها ميشال سليمان طالباً منه وضع حد لتفاقم الأوضاع في الشارع. وكذا فعل الرئيس السنيورة وقوى 14آذار، الذين دعوا المواطنين اللبنانيين الذين انتفضوا على سلطة الوصاية، إلى الوقوف مجدداً دفاعاً عن وطنهم واستقلالهم وحريَّتهم، ودفاعاً عن حكومتهم الشرعية في وجه الانقلابيين.
لَبَّت جماهير الأكثرية دعوة قياداتها، فقد ألجأها تقاعس الجيش إلى التدخل، مانعة قوى 8 آذار من الانتصار في ذلك اليوم الأسود، وفتحت بعض الطرقات؛ لتعلن المعارضة مساءً انتهاء إضرابها، او محاولتها الانقلابية.
4- بعدما اثبتت القوى الاستقلالية اصرارها وجدارتها في الحفاظ على لبنان وحكومته من الوقوع في ايدي اصحاب المشاريع الخارجية، وذلك عبر افشال كل المحاولات الانقلابية السلمية منها والعنفية على حد سواء، وصلت المعارضة الى قناعة انها لن تتمكن من اسقاط الحكومة والسيطرة على السلطة الا بانقلاب عسكري دموي ميليشيوي مسلح، فأعدت له على مدى اشهر وكانت ساعة الصفر في7ايار2008، يوم اتخذ حسن نصر الله قرار ايقاظ الفتنة السنية-الشيعية، فاجتاحت ميليشياته بيروت بجحافلها الهمجية الحاقدة وعاثت فيها فسادا وخرابا وتقتيلا...
وفي خضم تلك الأحداث الخطيرة المتسارعة، وجَّه مفتي الجمهورية اللبنانية رسالة إلى الشعب اللبناني والعالم العربي والإسلامي، تضمَّنت أول موقف حاد من نوعه من الحزب الشيعي مباشرة، ومن إيران دون أن يسميها، فقد اتهم المفتي قباني الحزب مباشرة بأنه "تحول من مقاومة للاحتلال الإسرائيلي إلى قوة مسلحة لاحتلال بيروت وانتهاك حرماتها". ودعا "العالم العربي والإسلامي إلى وقف هذه الانتهاكات المفجعة"، معتبراً "أن لبنان يتعرَّض اليوم لمحاولة هيمنة حزب سياسي بدعم خارجي وتحت غطاء المقاومة". وأضاف: "إن هذا الحزب اختطف قلب العاصمة بيروت منذ أكثر من عام، وحوَّله إلى معسكر لمسلحيه، وها هو اليوم يختطف مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ويحاول أن يبتر الدولة اللبنانية لتمرير مراقبة المطار، وشبكة الاتصالات التي يقيمها متجاوزاً الشبكة الرسمية". وتوجه المفتي إلى أهل بيروت خصوصاً، ولبنان عموماً "للعمل على درء الفتنة المذهبية، والتمسك بوحدتهم الوطنية والدينية". وناشد قادة الحزب "أن يبادروا إلى سحب المسلحين من شوارع بيروت، وفك الاعتصام الذي يخنق العاصمة، وأن يتقوا الله في أهلهم وإخوانهم ووطنهم". وختم قائلاً: "فالمسلمون السنة، قد ضاقوا ذرعاً بالتجاوزات والانتهاكات، واللبنانيون جميعاً لم يعودوا قادرين على تحمل مزيد من المغامرات السياسية والأمنية. فلبنان وطننا جميعاً مسلمين ومسيحيين، ونحن له جميعاً، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد".
كان لهذا الموقف الشجاع اثره على مجريات الاحداث، وايضاح ما يحدث في لبنان بصراحة متناهية للعالم العربي والاسلامي، مادفع نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى عبد الأمير قبلان في اليوم الثاني على الانقلاب الارهابي لعقد مؤتمر صحافي عقب اجتماع لمجلسه، وجَّه فيه انتقاداً شديد اللهجة لمفتي الجمهورية من دون أن يسميه، معتبراً "أن من ينطق باسم المسلمين مرجعياتهم الدينية الحريصة على وحدتهم، لا من يَدْعون إلى الفرقة، والتنابذ، ويمثل وجهة نظر ضيِّقة"، وأوصاهم بأن "يتقوا الله"!!
وكان الرد في ذلك اليوم بمحاولة اقتحام مبنى دار الفتوى في عائشة بكار، لولا أن جرى تدارك الأمر بعد وساطات عديدة، لكن لم يحل ذلك دون محاصرة واقتحام منزل مفتي الجمهورية الذي لم ينته الا بعد "شفاعة" احد جيرانه المعروف بانتمائه للقوى المعارضة ومشاركة ميليشياته في الانقلاب المسلح.
5- انهى الحزب انقلابه المسلح بعدما نجح في سوق القادة الاستقلاليين الى الدوحة بوساطة قطرية مشبوهة، حيث فاوضهم واضعا السلاح على الطاولة وفي الرؤوس، ونال كافة ما عجز عن تحقيقه بالوسائل السلمية.
وبرز في تلك الفترة، موقف جريء وشجاع لمفتي الجمهورية محمد رشيد قباني، حيث قال في 17/6/2008 بعد تهنئته الرئيس الجديد ميشال سليمان في قصر بعبدا: "الأحداث التي وقعت في البقاع، وقبلها ما حدث في اجتياح بيروت والمناطق اللبنانية وفي الجبل، هي أعمال إرهابية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. لقد قرأنا عن الإرهاب كثيراً في الصحف في بلدان أخرى، ولكننا عشنا وشاهدنا هذا الإرهاب".
لم يتأخَّر رد "حزب ولاية الفقيه" على هذا الموقف الصريح والوطني للمفتي قباني، وذلك في خطاب ناري لنواف الموسوي في 21/6/2008، فقد دافع عن إرهاب حزبه في أحداث أيار عبر أسلوب قلب الحقائق قائلاً: "نحن لن ندافع عن أنفسنا حيال ما جرى في بيروت مطلع شهر أيار الماضي، فقد اعتُدِي علينا حينها ورددنا هذا الاعتداء بأعلى مناقبية يمكن أن تعرف في تاريخ لبنان، ويعرفها هذا الذي تحدَّث بالأمس، هو يعرف كيف تصرَّف من دخل داره مطمئناً إياه". وتابع متوجِّهاً إلى المفتي بالتخوين دون ان يسميه: "إن الذي سمَّى المقاومة إرهاباً هو العدو الإسرائيلي والإرهاب الأميركي، وإن من يطلق على المقاومة هذه التسمية يضع نفسه في الموقع الإسرائيلي-الأميركي...".
بعد استعراض هذه الحوادث المفصلية في السنوات الخمس الماضية، لعلنا بدأنا ندرك سبب استهداف شخص مفتي الجمهورية اللبنانية تحديدا دون سواه من المرجعيات، فقد لعب هذا الرجل دورا وطنيا فاعلا بامتياز في تلك الحقبة العصيبة والخطيرة من تاريخ لبنان، وكانت مواقفه معبّرة عن نبض الشارع السني بامتياز وموجهة له بحكمة شديدة ورشاد، حافظا على المسيرة الاستقلالية والوحدة الوطنية والشراكة الاسلامية المسيحية التي تشكل العمود الفقري لقوى 14آذار، ومكمن قوتها الرئيسي.
ومن هنا ندرك سبب الامتعاض الشديد والانتقاد اللاذع الذي انهال على المفتي قباني من قوى المعارضة واذناب التبعية والارتهان للمحور السوري-الايراني، عندما استقبل رئيس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، الذي زاره في تشرين الاول 2006 صبيحة عيد الفطر في منزل الافتاء للتهنئة بالعيد، حيث اكّد الطرفين قولا وفعلا طي صفحة الماضي الاليم، وتمتين الوحدة الوطنية والعيش المشترك بعد الصفحة الجديدة التي فتحت مع ثورة الارز ترجمة لاتفاق الطائف، والتي حال الاحتلال السوري دون ترجمتها كما يجب، فقد كان يوهم مختلف الطوائف اللبنانية ان وجوده يحول دون نشوب الحروب فيما بينها، متبعا قاعدة "فرّق تسد".
وهذه مواقف تسجل بماء الذهب للمرجعية السنية الممثلة بدار الفتوى والمرجعية المسيحية الممثلة ببكركي، ولذلك فهي لا تزال تؤرق الانقلابيين الى اليوم، وهؤلاء لن يهدأ لهم بال ولن يهنأ لهم حال، الا برؤيتهم الشقاق يدب بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية، لأنه حينئذ تكون قوى 14آذار قد انتهت وانفرط عقدها، وانتهى معها مشروع الدولة السيدة والحرة والمستقلة.
والا، فإذا كان الامر بخلاف ذلك، ما الذي يفسر استهداف المؤسسة الدينية والطائفة الاسلامية السنية برمتها اليوم، تماما كما جرى استهداف البطريرك الماروني قبل اشهر، ومن على ذلك المنبر الاعلامي المعارض عينه، حيث تم فتح بعض الملفات التي تتهمه بالفساد المالي في ادارة اوقاف البطريركية؟! مع العلم ان استهداف البطريرك صفير لا يأتي الا بعد اطلاقه المواقف الوطنية المشرّفة التي لم تحد عنها الكنيسة يوما، سواء فيما يتعلق بسيادة لبنان او حصرية السلاح بالدولة او تنبيه المسيحيين واللبنانيين عموما كلما تعرّض وجه لبنان ودستوره ونظامه وعيشه المشترك للخطر والعبث بأيدي المحاور الخارجية التي وجدت واوجدت من يعمل لها في لبنان. مع التذكير مجددا اننا لا نبحث صحة تلك الاتهامات من بطلانها، سواء ما اثير منها ضد البطريرك او المفتي، انما نحلل الانتقائية في اختيار الاشخاص التي تفتح ملفاتهم.
ثم هل يجرؤ احد، او تلك المحطة التلفزيونية تحديدا التي تظهر حرصها على مكافحة الفساد في الدولة اللبنانية اينما كان، هل تجرؤ على فتح ملفات الفساد المستشري داخل المجلس الشيعي الاعلى او المحاكم الجعفرية، او خفايا قضية صلاح عز الدين، فضلا عن ملفات قادة "حركة امل" كمجلس الجنوب مثلا، وملفات "حزب ولاية الفقيه"، مثل دوره في رعاية وتأمين الغطاء الامني والسياسي لتجار المخدرات، او حتى محاسبته قضائيا على حوادث ايار الارهابية؟! الم نر كيف اخلي سبيل المقاوم الشرس والبطل المقدام الذي اطلق النار مع رفاقه في 28/8/2008على طوافة الجيش اللبناني فوق تلة "سجد" فأسقطوها واغتالوا الضابط الطيار سامر حنا، وذلك بعد تسعة اشهر على اعتقال احد افراد تلك الميليشيا وتوجيه تهمة القتل العمد اليه؟! وهذا غيض من فيض، والا فتجاوزات ذلك الحزب الخطيرة اكثر من ان تحصر او تعد.
هل ما يمنعهم من فتح تلك الملفات هو انتماؤهم للمعارضة وتبعيتهم لها؟ ام انهم يستوطون حائط دار الفتوى وبكركي نظرا للطريقة الحضارية والسلمية التي تتعاملان بها مع محاولات اسهدافهما والتطاول عليهما، وفي المقابل يهابون فتح ملفات المقامات الاخرى ويحسبون الف حساب لتفادي ما حدث عندما تناول برنامج فكاهي يعرض على شاشة الـمؤسسة اللبنانية للارسال عام 2006، شخصية حسن نصر الله، يوم نزل آلاف من مناصري الحزب إلى الشوارع في بيروت والمتن والجنوب، وعاثوا فيها فسادا وتخريبا مستنكرين ما اعتبروه مساساً بشخص "سيِّد المقاومة"، في محاولة منظمة لافهام من يهمه الامر أن من يملك السلاح قادر على اجتياح البلاد، واستباحة المناطق، والاعتداء على الدولة، وإشعال حرب طائفية، إذا ما تُعُرِّض لرمز من رموزه، وكرسالة أبعد إلى سلاحه الذي يصفه بالقداسة، وما هي الا قداسة وهمية وشعارات براقة زائفة، لتغطية مشروع الاستيلاء على الدولة بكافة مفاصلها.
لعلنا بهذا القدر، نكون قد عرفنا سبب اختيار شخص المفتي بالتحديد، الذي ارادوا اغتياله سياسيا بعد عجزهم عن اغتياله جسديا والحاقه برفاقه، مثل العلامة صبحي الصالح، والشيخ احمد عساف، والشيخ الشهيد المفتي حسن خالد، لانهم رفضوا تقديم واجب الطاعة لقوى الامر الواقع...
لكن ما سبب اختيارهم هذا التوقيت بالذات، لفتح ملفات المفتي وتصويب سهام الحقد على مقام دار الفتوى؟!
ان سر هذا التوقيت، يكمن في المرحلة التي دخل فيها لبنان بعد استحقاق تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2009، تلك الحكومة التي نسفت نتائج الانتخابات وقلبت فوز قوى 14آذار هزيمة نكراء، مع رضوخها لمعادلة خطيرة ارساها "حزب ولاية الفقيه" منذ غزوة ايار الارهابية، تقوم على مقايضة الاستقرار الامني بالخضوع لشروط المعارضة،او بعبارة اوضح :الأمن مقابل الخضوع لشروط حملة السلاح والا... وبناء على ذلك انتزع الحزب الايراني الثلث المعطل وتشريع سلاحه في البيان الوزاري واعاد انتاج اتفاق الدوحة وتكريس اعرافه اللادستورية، مؤكدا ابتداء زمن الشيعية السياسية في لبنان.
يضاف الى هذه التسوية الظالمة في حق القوى الاستقلالية، التوافق السعودي- السوري الذي كان له اليد الطولى في ارسائها، وما استتبع ذلك من زيارة الرئيس سعد الحريري الى سوريا والانقلاب الجنبلاطي الذي سبقها والمصالحات الكثيرة الشكلية منها والحقيقة التي تمّت....فهذه الظروف مجتمعة، ادخلت البلاد في حالة هدنة بين فريقي 14 و8 آذار، وبالتالي خفت الصراع السني الشيعي على السلطة في لبنان والمنطقة بعدما نال الشيعة المحتكر تمثيلهم من قبل "حزب ولاية الفقيه"كافة مطاليبهم لهذه المرحلة، وبعدما عاد النفوذ السوري عبر حلفائه الى البلاد، وبالتالي بات التوقيت مواتيا والاجواء ملائمة لتصفية الحسابات مع من ساهم في اندلاع ثورة الارز بمده اليد بعد طول انتظار الى شريكه المسيحي، ودَعَم صمود الحكومة والفريق الاستقلالي واخّر حصول الفريق الشيعي على مطاليبه واهدافه، الا وهو الطائفة السنية ممثلة بمرجعيتها الدينية دار الفتوى، وذلك عبر فتح ملفات مفتي الجمهورية اللبنانية والتشهير به، بهدف الانتقام البارد من مواقف هذه الطائفة الوطنية في تلك المرحلة، واستكمالا لمخطط ضرب مواقعها الدينية والسياسية بهدف اضعافها واخضاعها للوصاية السورية من جديد، لكن هذه المرة بإدارة جديدة يتولاها "المقاومون الابطال" الذين لم يجلبوا للبنان سوى الامن والطمأنينة والسلام.
ذلك، لأنه لو فتح ملف المفتي في تلك المرحلة المتشنجة حيث كان الصراع في لبنان على اشده والشحن والاحتقان المذهبي في مرحلة الغليان، لوقف اهل السنة وسواهم وقفة واحدة مع المفتي واعطوا الحملة التي تستهدفه بعدا طائفيا مذهبيا نتيجة للصراع الدائر، ما سيفشلها بالتأكيد؛ اما وقد تغير هذا الواقع اليوم وخيّم الاستقرار الامني على البلاد، فقد باتت حظوظ نيل تلك الحملة الشعواء اهدافها المغرضة مضاعفة، واحتمال نجاحها شبه مؤكّد، خصوصا انهم وضعوا في الواجهة لاطلاق تلك الاتهمات وفتح الملفات شخصيات مأجورة نتمي اصلا للطائفة السنية، في محاولة لتحريك الرأي العام السني دون اثارة للحساسيات المذهبية.
وبناء على ما تقدّم، صدرت أوامر التطاول على مفتي الجمهورية من المخابرات السورية في ريف دمشق ليكون ضحية التسوية السعودية-السورية، وتبلغتها طغمة من المشايخ المرتزقة للمخابرات السورية والايرانية في لبنان، ومن رؤساء جمعيات لبنانية لا تخفي ارتباطها وتأييدها للنظام السوري و"حزب ولاية الفقيه"، ومعظم هؤلاء المعمَّمين من "تجمع العلماء المسلمين"، الذين يتقاضون رواتب مغرية يخصصها لهم الحزب. هذا فضلا عن بعض تجار السلاح السابقين، ورئيس حكومة سابق لم يبد يوما غيرته على طائفته ولا خدم مظلوما او صاحب حاجة طرق بابه، بل فاخر بعلمانيته وباع مذهبه من اجل حفنة من الدريهمات يريد ان يحرم منها ورثته الشرعيين لكي تستأثر بها ابنته بعد وفاته، فلم يجد لجهله بتعاليم دينه سوى التشيّع سبيلا للتهرب من القسمة الشرعية، مع العلم ان عملية بيع وشراء عند كاتب عدل في حياته تعفيه من ذلك كله!! ولو كان قصد اولئك شريفا، وارادوا مصلحة الطائفة فعلا كما يدّعون، لقدموا ملاحظاتهم في المجالس الخاصة ومنعوا اذاعتها عبر المنابر في حملة اعلامية مبرمجة.
ان وقائع الأحداث تشير الى محاولة إضعاف أهل السنّة والنيل من مرجعياتهم وإرضاخهم الواحدة تلو الأخرى، لمنعهم من التحرك عند الضرورة ولجم مواقفهم وتخويفهم، وتخوينهم حين تدعو الحاجة...فمن هنا وأمام هذا الفجور السياسي، ننبه للمخطط الذي يستهدف أهل السنّة ومن ورائهم لبنان، ويعمل لإثارة فتنة سنّية-سنيّة تشرذم الشارع السني، وضرب المرجعية السنية في هذا البلد، فليس المراد من هذه الحملة المفتي قباني فحسب، انما المراد والمستهدف هو منصب الافتاء، منصب مفتي الجمهورية اللبنانية، الذي ابدوا في الماضي رغبتهم بجعله مداورة بين السنة والشيعة، ويطالبون اليوم في الخفاء بمفت شيعي لبيروت بعد امعانهم في تشييعها حجرا وبشرا، هذا فضلا عن اقتران هذا المنصب ونسبته الى الجمهورية اللبنانية بشكل عام تماما كمنصب الرئاسة الاولى، وبالتأكيد من يريدون اخضاع لبنان لولاية الفقيه لا يناسبهم هذا اللقب ولا قوة هذا المنصب.
واليوم بعدما فُتح ملف المفتي، وشُكلت لجان التدقيق المالي في مؤسسات دار الفتوى والاوقاف الاسلامية، تقع المسؤولية على الرئيس سعد الحريري والمجلس الشرعي الاعلى وابناء الطائفة عموما، لايجاد المخرج المشرف والمناسب الذي ينجي الطائفة السنية من الاعصار الذي يجتاحها بأقل خسائر ممكنة، بناء على نتائج التحقيق سواء ادانت المفتي ام برّأته، وذلك بما يضمن الحفاظ على هيبة المرجعية الاسلامية وكرامة الطائفة، ويحمي دار الفتوى من الوقوع في ايدي من يريدون اخضاعها وتغيير مسارها السياسي والوطني الذي انتهجته منذ تحررها من الوصاية السورية.
عبدو شامي
التعليقات (0)