تشرب من ماء النيل، وتسمع في شاطئه الجميل ما قالت الريح للنخيل، ثم تشير إلى النهر الخالد متهما إياه بأنه بهذا الهدوء الذي يستمر سنوات طويلة، ثم يفيض مرة، ويسكن إلى الهدوء مرات أنه السبب في العبث بالجهاز العصبي للمصريين.
ماذا حدث لأهل بلدي؟
أغوص، وأقرأ، وأتأمل، وأتابع، وأشارك مع آخرين في محاولة ايقاظ العملاق النائم وأنا على يقين أنه لم يمت، فلا يتحرك جسده الممتد من الصعيد إلى الثغر.
تتكدس أرصفة القاهرة العتيقة بصحف ومجلات وأنواع عجيبة من المطبوعات تحمل عناوين لو نطق الحجر وقرأها لهزّ صراخُه وادي النيل كله.
يختلي بك كل مصري تقابله وتحدثه فيصف لك المشهد الحيّ كأنه يعيشه منذ أن سقط من بطن أمه، فيحدثك عن الفساد والرشوة والمحسوبية والغلاء وتسمم المزروعات والأمراض المعدية والوبائية وسرطنة الخضراوات وتلوث الهواء واغتيال النيل .. واهب الخلد لحضارة المصريين.
يستطيع أي مصري أن يقص عليك حكايات حقيقية لو نفخ الله في الجبال روحا وسمعتها لانفجرت من قممها براكينُ تصل إلى نهاية السماء الدنيا قبل أن تهبط ثانية على أهل الأرض.
تبحث في العلوم والآداب والفلسفات وتاريخ الشعوب وحِكَمِ المصلحين لعلك تعثر على سرّ تعطل الجهاز العصبي للمصريين فلا يزيدك البحث إلا حيرة، ويوردك الردى حُبًّ الوطن لو زاد عن الحد المطلوب سلطوياً لتهوي عصا الراعي التي يهش بها، وعصا الزعيم التي يلسع بها.
تخترق شوارعَ عاصمة أم الدنيا فتمر على ثلاثة ملايين مواطن يعيشون في المقابر وكأنهم يحتمون بالأموات، فلا تعثر على اشارة واحدة أن غضباً قد يأتي منهم على أوضاعهم، أو أن واحدا منهم يصيح في الآخرين بأن لهم حقوقا أكثر من تلك، ولو فعل لرجموه حتى الموت، وربما طاردوه، وطردوه إلى مقابر مجاورة.
يسمع المصري أن عشرات من لصوص الوطن خرجوا بمئات الملايين من أمواله، وأن غيرهم يسرقون اللقمة من أفواه أولاده، وأن مصريا على مبعدة أمتار منه في قسم الشرطة المجاور تَجَمّع حوله ضباط الشرطة والمخبرون والمرشدون وبعض المسجلين خطرين، ثم انهالوا عليه ضربا وتعذيبا، وبعد ذلك نزعوا ملابسه، وتم اغتصابه وسط ضحكات الشياطين الذين تتراقص فوق أكتافهم عدة نجوم.
لكن المصري يُسرِع الخطى فموعد المسلسل اليومي سيبدأ بعد قليل، وربما يشاهد نشرة الأخبار قبلها فيغضب للعراق وفلسطين، وسيتابع الزلزال الذي لم يعرف مقياس ريختر له مثيلا، فوزير الثقافة يتحدث في المحرمات، ويقول شيئا عن الحجاب، وتلك هي حدود غضب المصري.
أما قانون طواريء للرقيق، ووجود ثلاثين ألف سجين من أبناء بلده خلف القضبان وحرمانهم حريتهم، وانهيار نظام التعليم والتربية، وتراجع الاعلام المصري لينافس أقل الدول تخلفا في البدائية والحماقة، فتلك أمور لا تغضب.
أنْ يشاهد المصري استعانةَ الدولة بمسجلين خطرين تأتي بهم سيارات الشرطة بأوامر مباشرة من وزير الداخلية وتوجيهات صارمة من رئيس الدولة، فيضربون المواطنين، ويصفعون كبار السن، ويتحرشون جنسيا بفتيات مصريات غضبن عندما صمت الرجال، فهنا يصبح سلوك الأرانب نموذجا للتطهر من أي أفكار تناهض السلطة، فعصا ضابط الأمن التي ستدخل دُبر المواطن وسط قهقهات كلاب السلطة لا تفرق بين المصريين، فأوامر السيد الرئيس في ولايته الخامسة وهو يقترب من
الثمانين يطيعها المصريون قبل أن تغادر مكتبه في القصر الجمهوري: عاملوا المصريين كما تعاملون الحشرات والجيفة وجثث الموتى ورقاب العبيد، فهم لن يغضبوا أبدا، ولو ضرب ضابط الأمن قاضيا ورئيس محكمة بالحذاء على وجهه فسيصمت عشرون ألف قاض هم حَمَلة رسالة العدالة في أرض الكنانة.
يصيبك الاعياء الشديد وأنت تبحث عن سبب واحد لعدم غضب المصريين فتعثر على مئة مبرر بل قد تقابل سبعين مليونا من الأبطال المؤجلة بطولاتهم إلى حين .. أما متى يأتي هذا ( الحين )؟ فالاجابة لا يعلمها إلا رب العرش العظيم.
تقول لنفسك قد يغضب المصريون لو حدثتُهم عن مستقبلهم في ظل وجود سبعة ملايين عاطل عن العمل سيتضاعفون بعد خمس سنوات! أو قد يغضب المصريون لو نشرت أمامهم تفصيلات ما يحدث في أقسام الشرطة والسجون بموافقة صريحة من السيد رئيس الدولة. أو قد يغضب المصريون عندما تجتاح الوطنَ أمراضٌ وبائية طاعونية تهلك الحرث والنسل وتقتل عدة ملايين طفل سممتهم نفايات دفنها أحد أصدقاء جمال مبارك تحت الأرض الزراعية أو ألقتها المصانع في مياه النيل.
وتظل تحدس، وتخمن، وتبحث عن بارقة أمل واحدة في سبب يفتح كوة صغيرة ثم يدخل عنوة إلى النفس المصرية ويزيل عنها ما تراكم من بلادة وخوف واحساس بصفرية الكرامة، ثم يضع مكانها معجزة المعجزات .. إنها روح الحياة التي بدونها تنقطع الصلة مع السماء، فيكتشف المصري فجأة أن مصر بلده، وأن هؤلاء لصوص يعبثون بها منذ ربع قرن، وأن عشرات الآلاف في السجون والمعتقلات هم أهله، وأن عدة ملايين مصاب بأمراض الكبد الوبائي تربطهم به صلة رحم، وأن قانون الطواريء ازدراء له، وأن استمرار الرئيس مبارك كاستمرار شخص يبصق على وجوه المصريين كلهم، في بيوتهم وسجونهم ومأكلهم ومشربهم وحتى وهم يقفون أمام خالقهم في المساجد والكنائس فإن الرئيس لن ينتظر حتى الانتهاء من الصلاة فهو يظن أنه وحده العزيز الجبار مالك الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء. قتلني البحث عن اكتشاف كلمة السر في اغضاب المصريين فتناهت إلى سمعي ضحكات ساخرة من أبناء وطني وتبينت منها أن الغضب تأتي به الملائكة فقط وهي لم تحلق منذ ربع قرن فوق المصريين، فالملائكة ومبارك لا يجتمعون في مكان واحد!
أوسلو في 2 يناير 2007
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)