دراسة جديرة بالأهتمام أعدها لاري دياموند " مدير مركز الديمقراطية والتنمية وحكم القانون في جامعة استانفورد بعنوان ( لماذا لا توجد ديمقراطيات عربية ) ، وسبب القول بأن الدراسة جديرة بالأهتمام هو ، كشف الدراسة للضعف العلمي للتفسيرات المختلفة اللتي تملأ الساحة الأكاديمية والأعلامية بجميع أنواعها لعدم وجود دول ديمقراطية عربية .
يشرح السيد لاري دايموند في دراسته كيف أن معظم التفسيرات الموجودة الآن لهذه الظاهرة هي أسباب غير قابلة للتعميم . أضافة الى افتقادها للدقة . وهو يقدم تفسيرًا جديدًا لغياب الديمقراطية في العالم العربي لم يقدمه احدا بالصورة المتكاملة اللتي قدمها هو .
بمعنى أن كثيرين قد حاولوا أرجاع التأخر( او التخلف) الديموقراطي في البلدان العربية الى أسباب أجتماعية ، مثل العشائرية ، أو أسباب دينية تربط الأسلام بالأستبداد الرافض لأي توجه ديموقراطي ، أو أسباب سياسية ، أو أسباب أقتصادية تربط فشل العرب في تحقيق الديموقراطية بالفقر والجهل الناتج عنه . أو بما يسمى بلعنة البترول "كما وصفها الكاتب" . بل ويعزوا بعض المتطرفين تأخر الديموقراطية في الدول العربية الى قصور خلقي في عقل الانسان العربي ليجعله في مرتبة فسيولوجية أقل من البشر كما كان يفعل هتلر مع اليهود .
ألا أن دايموند فند كل هذه الأسباب أعتمادا على مقارنات للأوضاع العربية بأوضاع دول أخرى غير عربية ، وعلى أحصائات أكاديمية محترمة . ليخرج بأستنتاج جدير بالأحترام والتأمل .
ويعود الكاتب في مقدمة بحثه ليعطي نبذة عن اسباب تأخر الديموقراطية العربية قبل أن يفصل هذه الأسباب لاحقا . وهذا التلخيص يتمثل بالأقتصاد الريعي للدول العربية . أو سيطرة الدولة الكاملة على مقدرات البلد ، وأضطلاعها بمهمة توزيع الثروات دون اي تدخل للقطاع الخاص بهذه العملية . اضافة الى اسباب جيوسياسية كما يزعم .
يبدأ الكاتب بأستعراض رايه بالحجج القديمة اولا حيث يقول .
اولا - الدين والثقافة
لا يمكن الجزم بأن الثقافة السياسية المحددة الأساسي لتعثر عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي فالقيم النابعة من المعتقدات الإسلامية لم تمنع عددًا من الدول التي يعتنق غالبية سكانها الدين الإسلامي من تحقيق ديمقراطية سياسية مستقرة خاصة ألبانيا وماليزيا وتركيا والسنغال. حيث يصنف مركز فريدم هاوس حوالي 8 دول إسلامية غير عربية باعتبارها دولاً ديمقراطية، بما يعني أن المعتقدات الدينية لا تعد محددًا لمسار التحول الديمقراطي.
أما فيما يتعلق بالثقافة فيستعرض الكاتب مقولات المؤرخ البريطاني إيلي كيدوري حول غياب الممارسات الديمقراطية عن التقاليد والممارسات ذات الطابع المجتمعي في الدول العربية وهو ما يعزوه كيدوري إلى رفض الشعوب العربية للديمقراطية وعدم تقديرهم للانتخابات كآلية لتداول السلطة، وهو افتراض غير صحيح بالنظر إلى ما كشفت عنه استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها في الجزائر والأردن والكويت والمغرب والأراضي الفلسطينية والعراق من أن نسبة لا تقل في المتوسط عن حوالي 80% ممن تم استطلاع آراؤهم يعتقدون أن الديمقراطية – علي الرغم من مساوئها – هي أفضل نمط للحكم علي الإطلاق، ولا يستثنى من هذا التوجه أي من التيارات السياسية في الدول العربية بما فيها الحركات الإسلامية الراديكالية.
بيد أن المعضلة تكمن من وجهة نظر داياموند في الانقسامات والشكوك المتبادلة بين التيارات السياسية العلمانية من جانب والتيارات الإسلامية المعتدلة والراديكالية من جانب آخر، وتأكيد حوالي 56% ممن تم استطلاع آراؤهم في عدد من الدول العربية علي ضرورة التوافق بين الممارسة الديمقراطية والشريعة الإسلامية وهو ما يجعل موضوعات مثل حقوق الأقليات السياسية والدور السياسي والمجتمعي للمرأة موضع جدل ونقاش عام في مختلف المجتمعات العربية في ظل الاستقطاب الذي سلفت الإشارة إليه ومخاوف التيارات السياسية المدنية العلمانية من احتمالات وصول الإسلاميين للسلطة عبر انتخابات نزيهة يتلوها قيامهم بقمع المعارضة السياسية والعودة للسلطوية ومركزية السلطة، في مقابل مخاوف أخرى من قيام الجيش بتنظيم انقلاب عسكري لمنع الإسلاميين من السيطرة على السلطة على غرار ما حدث في الجزائر بعد تحقيق جبهة الإنقاذ الإسلامية للأغلبية في الانتخابات البرلمانية بما أسفر عن حرب أهلية استمرت قرابة عقد من الزمن وحصدت أرواح حوالي 150 ألف مواطن.
نظم اقتصادية غير إنتاجية
وعلى مستوى آخر لا يمكن اعتبار غياب التنمية الاقتصادية العامل المحوري في افتقاد الديمقراطية في الدول العربية، فوفقًا لهذا المعيار فإن عددًا من الدول العربية ضمن قائمة الدول الأعلى في متوسط دخل الفرد، وبمعايير وإحصاءات عام 2007 فإن الكويت تتساوى في الثراء الاقتصادي مع النرويج والبحرين تتساوي مع فرنسا والمملكة العربية السعودية مع كوريا، في حين تأتي مصر والأردن والمغرب وسوريا في قائمة الدول المتوسطة من حيث متوسط دخل الفرد وتصنف من ثم مع دول ديمقراطية من قبيل الهند وإندونيسيا.
وإذا اعتبرنا متوسط دخل الفرد مؤشرًا غير دقيق على التنمية الاقتصادية واعتمدنا على التنمية البشرية التي تدمج بين مؤشرات اقتصادية مثل متوسط دخل الفرد وأخرى اجتماعية مثل مستوى التعليم والرعاية الصحية فإن الدول العربية لا تزال ضمن قائمة من الدول الديمقراطية حيث تتساوى غالبية دول مجلس التعاون الخليجي في مستوى التنمية البشرية مع المجر والبرتغال وبلغاريا وتتساوى مستويات التنمية البشرية في مصر والمغرب مع إندونيسيا وجنوب إفريقيا، بما ينفي مقولة إن التنمية الاقتصادية والتحديث هي المحدد الرئيس لمسار عملية التحول الديمقراطي في المنطقة العربية.
يرى المؤلف أن السبب الأول لعدم وجود ديمقراطية عربية يكمن في هيكل النظم الاقتصادية العربية وليس مستوى التنمية الاقتصادية في تلك الدول، حيث إن حوالي 11 دولة عربية يمكن تصنيفها كدول ريعية تعتمد على صادرات البترول والغاز كمصدر أساسي للدخل القومي وفي بعض الحالات تمثل تلك الصادرات حوالي 90 % من قيمة الناتج المحلي الإجمالي ومن ثم تتضاءل حاجة الدولة لفرض ضرائب على دخول المواطنين في مقابل تصاعد اعتماد المواطن على الدولة للحصول على الدخل والخدمات العامة، ويسبب ذلك خللاً في العلاقة بين السلطة السياسية والمواطنين وعلى حد قول هنتجتون في كتابه الموجة الثالثة للديمقراطية " إذا كانت مقولة لا ضرائب دون تمثيل مطلب سياسي فإن مقولة لا تمثيل دون ضرائب تصبح حقيقة سياسية في الدول الريعية".
ويؤدي اعتماد الاقتصاد الوطني على الصادرات النفطية لعدة تداعيات على المستوي السياسي أهمها مركزية السلطة السياسية وإيلاء الأمن والاستقرار قدر كبير من اهتمام النظام الحاكم فضلاً عن انتشار الممارسات القمعية في مواجهة الاضرابات والمظاهرات بما يؤدي لإضعاف وتهميش مؤسسات المجتمع المدني في مقابل تضخم الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة.
وعلى المستوى الاقتصادي تغيب المبادرة الفردية ويتضاءل دور القطاع الخاص باستثناء رجال الأعمال المرتبطين بالنخبة الحاكمة، وتحذر الدراسة من أن الدول المصدرة للنفط قد تعاني مما يسمى "الداء الهولندي"، نتيجة وفرة الموارد الاقتصادية وغياب دور القطاع الخاص، واعتماد المواطن بصورة شبه كاملة على الدولة لتوفير مختلف احتياجاته، بما يؤدي لحالة من التراخي وانتشار أنماط الحياة الاستهلاكية وتراجع ثقافة الإنتاج وتوجيه الاستثمار والعائدات النفطية إلى قطاعات خدمية وليست إنتاجية.
سياسات التكيف السياسي السلطوية
ولا يمكن فصل البنية الاقتصادية عن نظيرتها السياسية، حيث يعد احتكار السلطة السياسية أحد أهم السمات المشتركة بين دول المنطقة العربية في ظل تأييد القوى الخارجية لاستمرار التسلطية السياسية حفاظًا على الاستقرار السياسي، ومما يعزز سلطوية النظم الحاكمة في العالم العربي استغلالها لاحتكار الدولة لأدوات القهر السياسي المتمثلة في قوات الشرطة والمخابرات وتوظيفها لقمع المعارضة السياسية للحفاظ على بقائهم في السلطة، بحيث تصنف غالبية الدول العربية ضمن أعلى دول العالم من حيث مستوى الإنفاق على الأمن، بيد أن النظم العربية الحاكمة لا تمارس القمع السياسي بصورة دائمة وإنما تعتمد على عدة آليات بصورة متزامنة مثل استقطاب بعض قيادات المعارضة والسماح بقدر محدود من التمثيل السياسي وإجراء انتخابات بصفة دورية حتى وإن كانت غير نزيهة وهو ما يطلق عليه دانيل برومبرغ إجراءات التكيف السلطوية، والتي يتم اتخاذها للتوائم مع المتغيرات الداخلية والخارجية، فعقب السماح بقدر محدود من الحريات السياسية بما يسمح للمعارضة السياسية بممارسة نشاط فعال لفترة مؤقتة يعود بعدها النظام الحاكم لقمع الحريات وتضييق الخناق على الأنشطة السياسية للمعارضة.
ويستدل الكاتب على تلك السياسة الدائرية بالإصلاحات السياسية التي أعلنها النظام الحاكم في القاهرة بين عامي 2004 و2005 وإجراء انتخابات رئاسية لأول مرة والسماح بقدر من التنافسية في الانتخابات البرلمانية عام 2005، حيث أعقب تلك الإصلاحات، تمرير تعديلات دستورية استهدفت تعزيز احتكار النظام الحاكم للسلطة السياسية وهو ما توازى مع حملة واسعة النطاق من الاعتقالات السياسية شملت عددًا كبيرًا من قيادات جماعة الإخوان المسلمين بالإضافة للقبض على أيمن نور الذي جاء في المركز الثاني بعد الرئيس مبارك بفارق كبير جدًّا من الأصوات لصالح الأخير، وتعتمد غالبية الدول العربية على ذات المناورة في التعامل مع الضغوط الخارجية والمطالب الداخلية، فالنظام الحاكم يدير عملية الإصلاح السياسي ويحدد وتيرتها بحيث يراوح النظام السياسي مكانه للحيلولة دون تداول السلطة.
أما المعارضة السياسية في الدول العربية فتواجه معضلة معقدة، فهي إن شاركت بفاعلية في الانتخابات والبرلمان يتم اتهامها من جانب القوى الراديكالية بإضفاء الشرعية على ممارسات النظام الحاكم والمشاركة في النظام السياسي السلطوي وإن امتنعت عن المشاركة على سبيل الاحتجاج يتم اتهامها بالسلبية السياسية وعدم الفاعلية، ناهيك عن أن عوامل الضعف الهيكلية في بنية المعارضة السياسية تكون كفيلة بجعل دورها هامشيًا لاسيما انقسامها إلى جبهات متضادة والإطار القانوني غير التنافسي وافتقاد غالبيتها للدعم الشعبي باستثناء القوى السياسية الإسلامية.
مستقبل الديمقراطية في الدول العربية
تتكامل العوامل الاقتصادية والسياسية سالفة الذكر مع العوامل الجيواستراتيجية بما أدى لاستمرار حالة الجمود السياسي في الدول العربية، حيث يدفع تركز الاحتياطات النفطية في المنطقة مختلف الأطراف الدولية للتدخل لحماية مصالحها وخاصة الولايات المتحدة ويكون النمط الغالب للتدخل الدولي محاولة الحفاظ على الاستقرار السياسي ودعم النظم السلطوية الحاكمة، وتستخدم في هذا الصدد آليات من قبيل المساعدات العسكرية والاقتصادية والدعم العسكري ومبيعات السلاح.
كما تسهم عدة عوامل أخرى في تعزيز احتكار السلطة السياسية من أهمها القضية الفلسطينية التي يتم توظيفها لصرف انتباه الشعوب عن قضايا الإصلاح الداخلي وتردي الأوضاع الاقتصادية الداخلية، ومن ثم تركز وسائل الإعلام العربية علي الممارسات الإسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين وتغيب عن خطابها قضايا الإصلاح السياسي والديمقراطية، أما الإطار المؤسسي الذي يجمع الدول العربية وهو جامعة الدول العربية فيضع الديمقراطية وحقوق الإنسان خارج نطاق اختصاصها أو نشاطها الذي يركز على الاستقرار ويتسم بقدر كبير من المحافظة.
في ضوء العوامل سالفة الذكر فإن داياموند يستنتج أن مستقبل الديمقراطية في العالم العربي ليس قاتمًا كما يبدو للوهلة الأولى لأن التغير في السياسة الخارجية الأمريكية بين عامي 2003 و2005 باتجاه تصعيد الضغوط على الدول العربية لدفع عملية التحول الديمقراطي قدمًا قد أسفر عن نتائج إيجابية جزئيًا، كما أن الدعم الشعبي للديمقراطية يعد مؤشرًا آخر على أن التغير السياسي باتجاه الديمقراطية لم يعد ممكنًا تفاديه خاصة مع توظيف تكنولوجيا الاتصالات وإفادة المعارضة السياسية من المنتديات الاجتماعية مثل الفيسبوك وتويتر والمدونات كمساحات افتراضية لحشد الرأي العام ضد الركود السياسي الراهن في الدول العربية، أما إذا انخفضت أسعار البترول أو تم إيجاد بدائل للطاقة تتسم بانخفاض التكلفة، فإن النظم الحاكمة للدول المنتجة للنفط ستجد ذاتها مضطرة لإبرام عقد اجتماعي جديد مع شعوبها تقوم على التشارك في السلطة والتمثيل السياسي بما ينهي فترة احتكار تلك النخب للسلطة السياسية.
ملاحظة :-
الترجمة ابتداءا من فصل الدين والثقافة منقولة عن مجلة الفينيق .
http://arabreform.stanford.edu/publications/why_are_there_no_arab_democracies/
التعليقات (0)