لماذا فاز عمر البشير والمؤتمرالوطني ؟
عمر البشير ... رئيس حزب المؤتمر الوطني
الانتخابات السياسية في دول العالم الثالث بكافة وجوهها وجوانبها وبعيدا عن إتهامات لا يمكن إثباتها عادة بالأدلة الدامغة لعدة أسباب تقنية وإداريـة ؛ إلا أنها برغم ذلك تظل مجالا للحدس والتوقعات على الأقل من الجانب المنطقي بغض النظر عن النتائج التي إنتهت إليها من حيث أسماء الفائزين والخاسرين.
وبعيدا عن أطروحات وإتهامات بعدم النزاهة والشفافية واللجوء إلى التزوير والترغيب والترهيب والبلطجة التي تتهم بها الأنظمة شبه الشمولية في الدول العربية . أو إتهامات بشراء الأصوات والعزف على أوتار الطائفية كما تتهم بها جزيرة الديمقراطية المحدودة في لبنان وربما العراق الآن ..... بعيدا عن كل هذا وللإجابة على تساؤل بريء مفاده (لماذا صوت الناخب السوداني لعمر البشير رئيسا وحزبه المؤتمر الوطني ؟ ) .. فإنه يمكن طرح الأسباب التالية:
1) إفلاس المعارضة التقليدية وتحول الطائفي منها على وجه خاص إلى ما يمكن تسميته بـ "أحزاب بيتية" أسرية لا ترقى إلى الوصف بالعائلية ناهيك أن تكون سياسية .... ومنها على سبيل المثال حزب الأمة القومي الذي ووفقا لما هو عليه حاله وتسلسل تنظيمه القيادي والمناصب التنفيذية العليا المقتصرة على زعيمه الصادق المهدي وأفراد أسرته من الذكور والإناث ؛ كان الأجدر أن يسمى "حزب الأمة البيت" وليس حزب الأمة القومي.
محمد عثمان الميرغني رئيس حزب الاتحادي الديمقراطي الأصل التابع لمصر
وعانت الركيزة الطائفية الثانية الأخرى الممثلة في البيت الختمي الميرغني .. عانت من ضعف مرشح حزبها المسمى الاتحادي الديمقراطي الأصل ..... وحيث كان من أكبر الأخطاء تقديم "تابع هزيل" من داخل جيب "سيده" ويعمل بصفة الناطق الرسمي لزعيم الحزب للترشح لأكبر وأعلى منصب دستوري في البلاد .... أو هو رمز الدولة وأعلى رسميا وعمليا من كل السادة والأئمة الطائفية سواء أكانت في المعسكر الختمي أو الأمي أو غيرها.
لقد بدت المسألة هنا وكأنها إستهتار صبياني ومحض عبث ومواكبة هزلية غير جادة على كافة المستويات... وهو خطأ إستراتيجي ينبغي تلافيه في إنتخابات قادمة لأن منصب رئيس الجمهورية ليس لعبة أو مجال للفكاهة ومسرحيات كوميدية على طريقة " جوز الست" و " شاهد ما شفش حاجة ".
2) ظاهرة الشمالي التائه "ياسر عرمان" مرشح السلطة القائمة في جنوب السودان .... وحيث تتمحور هذه الظاهرة في أنها المرة الأولى التي ينقلب فيها هرم الحضارة والقيم والمثل والقناعات والمباديء عن وضعه الطبيعي في نفوس قلة نادرة من البعض الشمالي . فيدخل فيه شمالي معارض إلى عالم من "التيه" وينبري خادما منقاداً للجنوبي المتخلف تقنيا وحضاريا وثقافيا وفكريا عن الشمالي .....
وحيث تؤكد هذه الحقائق أن واقع وحاضر وتاريخ الجنوبي الوطني النضالي والثقافي والحضاري المعدوم لا يسمحون له بتولي دور قيادي يتخطى الدور الشمالي الطبيعي.
وعلى الرغم من أن ظاهرة عرمان قد إنتهت عمليا الآن وحان أوان قطاف رأسها ؛ إلا أنها ستكون مجالا للعديد من الدراسات الأكاديمية المتعمقة من وجه ؛ والتحليل الصحفي العام من وجه آخر ، بوصفها شكلت إنتكاسة فكرية وثقافية (وليست سياسية) لقواعد وأسس بناء بذل فيه الأجداد العرق والدم والدموع وإستغرق جهداً حثيثا دام أكثر من 1350 عام في أرض الشمال السوداني ...... بل وجاءت هذه الظاهرة العرمانية الطارئة شبيهة بورم صديدي حميد في خاصرة الكيان المتحضر من الأمة. وعلى نحو ينبغي المسارعة بتلافيه ومحاصرته فكريا قبل أن يتحول إلى ورم خبيث ، وحتى يستقيم الحال وتعود الأمور إلى نصابها ..... وشتان ما بين مستور وعريان .... وسادن أوثان وعابد أبقار و حامل أعواد نيران مقارنة بفرسان ملاحم وأصحاب ثقافة وعقيدة وحملة قــرآن.
3) رغبة الغالبية العظمى من الشباب وأهل الشمال الآن في إنفصال الجنوب بعد أن فاض الكيل وإستبان أنه لا مجال للتقارب والتقريب بين كتلتين لا يجمع بينهما سوى دماء سفكت طوال 55 سنة . وبالتالي عدائيات موروثة وأحقاد دفينة تثير في الجلد القشعريرة ، وعقد نفسية جراء طبقية عرقية وإجتماعية ترسبت منذ عقود حتى أضحت بسماكة وصلابة وبرودة جليد القطب الجنوبي ........
وعلى ضوء هذا الواقع الذي لابد من الإعتراف به. نلاحظ أن حزب المؤتمر الوطني كان من بين الأحزاب الشمالية القائمة الوحيدة التي وضعت النقاط على الحروف ؛ فلم يلجأ للتمييع والمناورة حين أكد في كافة أطروحاته أنه "لا يسعى مبدئيا للإنفصال" ... ولكنه سيحترم إرادة الجنوبي إذا قرر ذلك في إستفتاء تقرير المصير الذي بتنا في الشمال نتحرق شوقا وعلى أحر من الجمر إلى حلول موعده وإعلان نتائجه الإيجابية لجهة الإنفصال الشافي المعافي بإذن الله ... ولتكن العلاقة بعد ذلك على قواعد "لكم دينكم ولي دين".
وفي هذا المضمار الشمالي الجنوبي ؛ فقد كان للدعاية الانتخابية التي إنتهجها الإتحادي الديمقراطي الخديوي الأصل غاية في السذاجة ، بوصفها كانت سلاحا ذو حدين حين جرى التركيز من جانب قيادته بأن محمد عثمان الميرغني كان على وشك التوصل مع جون قرنق إلى إتفاق ينهي التمرد دون الإنفصال لولا إنقلاب الإنقاذ ..... ويتناسى محمد عثمان الميرغني أن الشعب السوداني يعلم أن الصادق المهدي هو الذي أفشل هذا الإتفاق حين كان وقتها على رئاسة الوزارة ، ولم يشأ أن يتم إنجاز دون أن يحظى هو بشرف المبادرة إليه وتسجيل براءة إختراعه بإسمه ، وعلى قاعدة "يا فيها يا أطفيها" المعهودة في سياساته ومواقفه تجاه مبادرات الغير منذ أن ظهر على الساحة السياسية عقب ثورة أكتوبر 64 المجيدة.
إننا وإذا كنا نرمي اللوم على أحدٍ كل بحسب وجهة النظر التي ينطلق منها والولاء الذي ينتمي إليه ؛ فلا أقل هنا من توضيح أن عدم قدرة محمد عثمان الميرغني وجون قرنق معا على فرض قناعة وإتفاق على الغير إنما يقدح في كفاءة الطرفين معا قبل أن يكون قدحا في رغبات الآخرين .... وطرفان لا يستطيعان فرض إتفاق على الغير لن يكونا جديران لتكريس شراكة تكتيكية مؤقتة أو إستراتيجية دائمة.
وهو بما معناه من جانب آخر وبالعربي الفصيح ؛ إن الشعب في الشمال يبحث عن حزب قوي قادر على فرض الحلول ونصاب الأمور وليس حزب أجاويد هش مهزوز على هيئة فزاعة طيور.
4) وبالعودة إلى "حزب الأمة البيت" .... جاءت تصريحات الصادق المهدي في بداية حملته الإنتخابية التي أفصح خلالها (من خلال قناة الجزيرة الفضائية) عن تصميمه إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية في حالة إنتخابه ..... جاء تصريحه هذا صدمة للأغلبية العظمى من الشعب السوداني. وإستبان منه أن الصادق المهدي لا يعمل وفق إستراتيجية بقدر ما يؤرجح سياسة حزبه العامة وفقا للهوى والمزاج الشخصي بعيدا عن خط ثابت تتفق عليه أمانة عامة ومكتب سياسي ......
الصادق المهدي .. رئيس حزب الأمة (البيت) القومي
وربما كان من الأجدر بالصادق المهدي الذي كان دائما ما يفتخر على نظام الترابي في بداية عهد الإنقاذ ، بأن حزب الأمة بأطروحاته الإسلامية هو الوحيد القادر على سحب البساط من تحت أقدام الأصولية السودانية .... كان الأجدر به أن يؤمن على إستمرار العمل بالشريعة الإسلامية ، ولكن وفق منهج يحرص بتطبيقها السليم وعلى الجميع .... فهذا هو مربط الفرس وكعب أخيل الأصولية العالمية والسودانية وحزب المؤتمر الوطني ونظام الإنقاذ أجمعين ؛ وحيث يتهمهم الشارع بأنهم يطبقون قوانين الشريعة الإسلامية على غيرهم فقط ، ولا يطبقونها على أنفسهم ؛ خاصة في مجال الإستحواذ على الثروة و "قسمة" المال العام ... وغمس الأرجل والإغتراف بملء اليدين من متع الحياة الدنيا والرفاهة والحيازات والمناصب. بل وحتى في مناسباتهم الاجتماعية الخاصة وما يجري فيها من رقص وإختلاط وجلب للمطربين والمطربات في حفلات الزواج المغلقة عليهم بإحكام دون غيرهم ...... وما تلك الليلة السياسية الراقصة التي أقاموها في إحدى العواصم الأوروبية خلال الحملة الانتخابية الأخيرة عن الأذهان ببعيد.
5) على أية حال ؛ وعلى ضوء تضافر جميع ما سبق بالإضافة إلى أسباب أخرى متفاوتة الأهمية يمكن القول بأن الشعب السوداني قد وجد نفسه أمام حال من حالين لا ثالث لهما. وهو أن يختار ما بين السيء والأسوأ ، والقوي والأضعف ، والثابت والمهزوز لقيادة البلاد في الفترة الراهنة والمستقبلية المنظورة. فلم يجد أكثر تماسكا وكفاءة وتنظيما وقدرة من الرئيس عمر البشير وحزبة المؤتمر الوطني الحاكم ، وإلى حين أن تتغير إحداثيات ومعطيات . أو أن تغير الأحزاب السودانية المعارضة من نفسها قبل غيرها ؛ فسيظل المؤتمر الوطني هو المرغوب والحل الأفضل لقيادة المسيرة طوال عقود قادمة.
وبدلا من أن تضيع الأحزاب التقليدية المتمترسة في حوش المعارضة وقتها ووقت الغير بطرح معاذير وأدبيات على نهج ممجوج مفلس من قبيل إتهامات للمؤتمر الوطني بالتزوير والتجاوزات وشراء الأصوات وغير ذلك من حجج غير موضوعية سمع بها عامة الناس سمعاً دون أن يرونها ؛ أو تمارس عمليا معهم أو في حقهم . فإن الأجدر بهذه الأحزاب أن تراجع إستراتيجياتها وتجدد دماءها بشكل دائم مثلما يفعل حزب المؤتمر الوطني ، وأن تغوص في داخلها لنقد الذات وتحاول إكتشاف عيوبها وأسباب عزلتها الحالية على ضوء ضرورات باتت ملحة بإحترام قدرات الغير من منسوبيها ومواهبهم وطموحاتهم في تولي مناصب قيادية تنفيذية فاعلة وليست صورية ؛ ووفق حقيقة أن هناك أجيال جديدة صعدت للإدلاء بأصواتها في الإنتخابات الحالية بمطالب وأحلام وآمال جديدة أفرزها مطلع القرن الحادي والعشرين دون أن يحدثها أحد أو تشغل نفسها بالكرامات والآل الطائفي المقدس وتابوهات السادة و الإمامة والبركات المفقودة..... أجيال جديدة ليست مكتفية بالإطلاع وتلقي العلم من مناهج بخت الرضا التعليمية الحكومية وصحيفة الرأي العام وإذاعة هُـنا أمدرمان ومقاهي المحطات الوسطى كما كان الحال في منتصف القرن الماضي .. وإنما باتت تتلقى التنوير وموجهات الرأي من مناحي ونوافذ ألكترونية شتى رسخت فيهم معاني الحرية والشفافية وشيوع المعلومة وسهولة الحصول عليها بنقر أصبع وفي ظرف زمان أقل من لمح البصر.
التعليقات (0)