ربما تكون تونس نموذج الانتقال الديمقراطي في العالم العربي، لكنها شهدت أيضاً تجنيد 3000 مواطن من مواطنيها في جماعات متطرّفة. وقد تكون أبعاد هذا اللغز المعضلة متجذّرة في معاناة البلد من البطالة والفقر، لكن أيضاً – والأهم ربما – أنها تنبع من ماضٍ من القمع، ومن توقعات لم تُلَبَّ للتونسيين بالتغيير بعد سقوط زين العابدين بن علي. وما لم تعالج التظلمات السياسية والاقتصادية، ستقوّض التصدّعات المجتمعية المتفاقمة عملية الانتقال السياسي الهشّة في تونس.
والحال أن الاستياء السائد من الظروف الاقتصادية والسياسية في تونس في ازدياد ملموس بشكل مطّرد، ولاسيّما في صفوف الشباب. فالعديد منهم، من الذين نزلوا إلى الشارع في العام 2011 للاحتجاج ضد نظام بن علي، ممتعضون اليوم مما يعتبرونه انتفاضتهم المسلوبة، وقلقون من ضيق الآفاق الاقتصادية. هذا في حين بات الأمل في أن تثمر ثورتهم إصلاحات اقتصادية تؤدّي إلى نمو منصف وعدالة اجتماعية، مجرد سراب.
بدلاً من ذلك، واصلت الحكومات المتعاقبة بعد الانتفاضة انتهاج السياسات الاجتماعية-الاقتصادية نفسها التي اعتمدها بن علي، فيما توسّعت في إجراءات التقشّف المُطبَّقة.
والواقع أن التضخّم في ارتفاع، وأكثر من 25 في المئة من التونسيين يرزحون تحت خط الفقر. كما أن أكثر من 32 في المئة من الشباب العاطلين عن العمل هم من حمَلة الشهادات الجامعية. وقد أضرب أكثر من 64 ألف معلّم مؤخّراً، في حين أن اعتصاماً استمر ستة أسابيع أدّى إلى توقّف منجم الفوسفات الرئيس في البلاد عن العمل. وأظهر استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو"، أن ما يزيد عن 88 في المئة من المستطلَعين يعتبرون الوضع الاقتصادي سيّئاً، و 48 في المئة منهم فقط يعتقدون أن الأوضاع ستتحسّن. وقال أحد الناشطين الشباب: "كل ما جنيناه من هذه الانتفاضة هو التضخّم".
يسود هذا الشعور بالإحباط حول الوضع الاقتصادي وسط صعودٍ واضح لنزعة مجتمعية مُحافِظة، وهبوطٍ في المعنويات، وتضاؤلٍ في الإيمان بالعملية الديمقراطية. وقد أطلقت الحرية المُكتسَبة حديثاً ما بعد العام 2011، النقاشات حول دور الدين في السياسة، ودفعت إلى الواجهة الاستقطاب المتأجِّج بين الساحل الغني والداخل الفقير. كما أن أجزاء من حدود البلاد لم تَعُد تحت سيطرة الدولة، مما يزيد من الأنشطة غير الشرعية، ويغذّي نمواً مطّرداً للقطاع غير الرسمي. وتُظهِر استطلاعات عدة للرأي أُجريَت في العام الماضي أن التونسيين يفضّلون الاستقرار على الديمقراطية، معتقدين أنه يوفّر فرصاً أفضل.
وتَعِدُ الخطة الاقتصادية الراهنة، كما قدّمها الرئيس الباجي قائد السبسي حتى الآن، بتحقيق الاستقرار من خلال اتخاذ إجراءات أمنية أقوى وبناء تعاون أكبر مع البلدان المجاورة والغرب. كما أنه يسعى إلى جذب الاستثمارات الخارجية، ووضع برنامج القروض الميسّرة، واتخاذ إجراءات أخرى لتنفيذ مشاريع البنى التحتية وتوسيع الصناعات والقطاعات الحيوية مثل السياحة، وذلك في محاولةٍ لزيادة فرص العمل.
مع ذلك، فإن جعل هدف الإصلاح الاقتصادي مقتصراً على زيادة عائدات الضرائب، وجعل البلاد صديقة للاستثمار – على أمل أن يؤدي ذلك إلى خلق المزيد من فرص العمل والحدّ من الفقر - غير كافيَيْن للحدّ من جاذبية المجموعات المتطرّفة للشباب التونسي.
يُراهِن تنظيم الدولة الإسلامية على الاستياء المتزايد في صفوف الشباب من العملية السياسية. فقد امتنع الشباب التونسيون إلى حدّ كبير عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة. كما يجد هؤلاء الشباب أنفسهم غير جاهزين للتعامل مع الحريات السياسية الجديدة، بعد القمع الذي تعرّض إليه النقاش السياسي والديني في عهد بن علي، ومنجذبون نحو قوى فاعلة تمنحهم صوتاً وتُقدِّم حلّاً.
كما يستغل المتطرّفون أيضاً الشعور المتنامي بالظلم. إذ تُقوِّض إجراءاتُ المساءلة المخطئة وعدمُ القدرة على محاكمة المتّهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وأعمال قتل، (كما وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش مؤخّراً)، دورَ الدولة باعتبارها حامية للحقوق الفردية والجماعية. كما يُقوَّض هذا الدور، التركيز على الحلّ الأمني باعتباره الردّ الأمثل على الأنشطة الإرهابية المحتملة. ويشمل ذلك حملة قمع ضد منظمات المجتمع المدني.
في هذا السياق، من غير المستغرب رؤية هذا العدد الكبير من التونسيين الذين يتجاوبون مع دعوة تنظيم الدولة الإسلامية المتطرّف إلى الانضمام إليه.
من أجل صون الانتقال السياسي في تونس، ينبغي على الحكومة – بدعم من المجتمع الدولي – بلورة رؤية جديدة للتنمية، والشروع باستراتيجية ترمي إلى تحقيق الإدماج السياسي والعدالة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه، معالجة التظلّمات الاجتماعية-الاقتصادية والتهديدات الكامنة للديمقراطية.
وهذه الرؤية أوسع بكثير من الإصلاحات الجزئية المطروحة حالياً، مثل رفع الأجور في القطاع العام. إذ تتطلّب العدالة الاجتماعية التزاماً بإصلاح السياسات الاقتصادية بشكلٍ يعزّز النمو ويحقّق قدراً أكبر من العدالة في آن. ويقتضي ذلك أيضاً تحفيز الحوار والمشاركة المجتمعية في صياغة سياسات جديدة، وتحسين نوعية التعليم، وضمان استقلال القضاء.
باختصار، لا يمكن الحفاظ على الديمقراطية في تونس ووضع حدٍّ لانجراف الشباب الساخطين إلى المجموعات المتطرّفة، إذا لم يعزّز قادة تونس التزامهم ببناء نظام سياسي تعدّدي وشامل للجميع، وإذا لم يسارعوا في تنفيذ التغييرات التي طالب بها المحتجّون في العام 2011.
التعليقات (0)