لماذا خطب هتلر في رابعة العدوية !
تركي سليم الأكلبي
للاتجاهات العقلية نوعان أحدهما متغير وهو ما ينطوي على اعتقاد ما سلبي أو إيجابي لشخص ما نحو شخص آخر ، يمكن أن يتكوّن أو يتغيّر في دقائق معدودة بمجرد رؤيته لأول مرة أو الحديث معه خلال فترة قصيرة وتبلور فكرة أو انطباع ما عنه ، ومقولة أبي حنيفة خير مثال في هذا الخصوص ، حيث كان أبو حنيفة ممددا رجليه في مجلسه ، حتى دخل عليه رجل ذو شكل مهيب ! فلما جلس الرجل وسأل أبا حنيفة عن مسألة ما قال أبو حنيفة مقولته الشهيرة : "آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه" ! فقد تغيّر بسرعة ذلك الاتجاه الذي تكون في ذهنه عن الرجل حينما رآه للوهلة الأولى وظن مخبره مطابقا لمظهره فلما تحدث الرجل تبين لأبي حنيفة خطأ اعتقاده !.
والاتجاه الآخر ثابت ويتسم بالقوة والامتداد في العمق الثقافي ، وهو ما ينطوي على الاعتقاد بصحة وضع ما .. سياسي ، أو فكري ، أو ثقافي ، أو اجتماعي ، والاعتقاد بصحة أفكار وآراء وسلوكيات شخصية ما حتى لو امتزجت بالتطرف ، أو الخرافات ، أو الأستخفاف بعقول الآخرين ، أو كانت فقط نقلا توافقيا .
هذه الاتجاهات الثابتة هي ما يهم الأشخاص القياديون والتنظيمات والجماعات الفكرية والدينية والاجتماعية لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الجماهير من خلال التركيز على عوامل صناعتها وتكوّنها وبناء المفاهيم اللازمة لرسوخها ، الأمر الذي يتطلب - بحسب الغرض من بناء الاتجاهات العقلية - توظيف الدين من جهة ، والأمن النفسي من جهة ثانية ، والحرية والعدالة الاجتماعية من جهة ثالثة . ليصبح من المثير للخوف والفزع تغيير أي خطاب أو وضع سائد أو منهج ما ، ويصبح كل تفكير خارج أطر المسلمات التي رسمها كل مستفيد لترسيخ الانقياد لها تفكيرا متربصا أو مغرضا أو متآمرا ويحمل في طياته نوايا عدائية .
وهذه الصياغة العقلية تتطلب عددا من المراحل والخطوات ، من أهمها غزارة الإنتاج عبر كل الوسائل المتاحة ، وفي كل مناسبة ، ثم توجيه ذهن المتلقي نحو خطر الاعداء التقليديين وصناعة أعداء جدد ، يلي ذلك تعبئة وشحن الجماهير المستهدفة ضد الأشخاص والجماعات والتيارات المخالفة ، وتقسيم المجتمع إلى مكوّنات متنافرة أو متحالفة .
وفي الغالب من يهمه صياغة اتجاهات معينة ليصبح الجمهور المكتسب لها مؤدلجا ومبرمجا عقليا هو المستفيد من وضع ما قائم ، أو من يسعى لتغيير وضع قائم بما يتفق وأهدافه ، حتى لو كانت وسائله في ذلك : توظيف الدين وتسييسه ، وتزييف الوعي ، وتدني مستوى المخرجات الاجتماعية .
ولقد ساهم الإعلام الجديد بقوة في نشر صياغة مفاهيم الجمهور وفق اتجاهاته المكتسبة .
من هذه المنطلقات تظهر أهمية صناعة اتجاهات الجمهور العقلية وشحنها عاطفيا. إذ أن من السهل على شخص يبدو ذو علم ، ومن يحتل مكانة اجتماعية ما ، أو مركزا قياديا .. من السهل على هؤلاء أن يسهموا بقوة في صياغة قناعات الفرد من هؤلاء الجمهور المستهدف وتكوين اتجاهاته النفسية .
لكل ذلك ، يمكن القول : أن من الخطأ الأعتقاد بأن كل من يمجد وضع ما ، أو كل من يتعاطى
- بتعصب - مضمون خطاب ما ، أو كل من يتعاطف مع جماعة أو تيار ما هو بالضرورة شخص
دعائي (مطبل) أو تابع لجماعة أو تيار ما ، أو مساير ! . إذ يمكن التفريق - وفقا للمخرجات العقلية السائدة والمنهجية الفاعلة - بين الأشخاص الدعائيون والأتباع والمسايرون ، وبين الجمهور المكتسب لاتجاهات نفسية ثابتة .
فالشخص الدعائي في الغالب يتلقى دعما ماديا أو معنويا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، وربما تحول بيروقراطي ما إلى شخص دعائي حفاظا على امتيازاته الوظيفية . ومن هؤلاء الدعائيون :
كتاب ، وصحفيون ، وإعلاميون ، وأكاديميون ، وموظفون بيروقراطيون .
والأتباع في الغالب مطلعون على أهداف المتبوع وسياساته الظاهرة والمستترة التي غالبا ما تكون سياسية بحته! .
والمسايريرون وهم "المتمظهرون" فقط لكسب رضا الجماعة ، إذ يشعر الفرد من هؤلاء بحاجة ملحة لأن يكون فردا في جماعة تحمل عنه عناء التفكير ، فهو لا يعتد بذاته ولا يثق بآراءه الذاتية .
وكل هؤلاء الدعائيون والأتباع والمسائرون يضعون استفادتهم من الدعائية أو التبعية أو المسايرة فوق اتجاهاتهم واقتناعاتهم الشخصية ، وربما فوق كل ما يؤمنون به ! ولذلك يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون !.
أما الجمهور المكتسب لاتجاهات قوية نحو الجماعات والتيارات المختلفة ، ونحو التوجهات الفكرية المتصارعة ومنهجياتها ، ونحو التكوينات الاجتماعية والأوضاع السياسية القائمة . فهو جمهور مشتت وفقا لاتجهاته النفسية المكتسبة ، وهم في الواقع أناس متأثرون بالآراء والأفكار الموجهة و"المتسيدة" للمشهد الفكري والثقافي والسياسي ، ولا يتبعون تنظيما أو جماعة معينة ، ولكنهم يقدمون خدمة غير مباشرة للجماعات والتيارات المختلفة وتوجهاتها المتبائنة ، لذلك هم جمهور مستهدف وربما يشكل أهمية أكبر من أهمية الدعائيون بشكل خاص ، في التأثير الدعائي ، ذلك أن الشخص الدعائي يمكن أن يكون دعائيا دون أن يجتهد أحد في "برمجته أو أدلجته" فهو حيث تكون مصلحته الذاتية
الخاصة !
هذه "النزعة الاستقطابية" ما من شك أنها أدت إلى نتائج ومخرجات هي من أهم عوامل التخلف واطنابه ! فضلا عن أهم الأحداث والمتغيرات السلبية في الواقع العربي ، ولعل من أهم هذه النتائج والمخرجات : خلق اتجاهات ذات طابع عاطفي مشحون بالكراهية والبغضاء ضد كل مخالف ، وفي الوقت نفسه مشحون بما يكفي لرسم هالة من القداسة في أذهان الجمهور حول بعض الشخصيات والمراكز الاجتماعية ، فيجد الكثيرون من أفراد هذه الجماهير أنفسهم في سياق مفرط من الحب أو الكراهية ، وكثيرون منهم مشغولون بما جيشوا له ومسكونون بهاجس الخوف أن تغيّر شيئا مما تنطوي عليه اتجهاتهم المكتسبة .
وبما أن المحرك الفاعل خلف الحراك العربي وواقع الشعوب العربية ثلاثة .. السياسي ، الديني ،"الليبراعلماني" فقد نجح الخطاب الديني في بناء المفاهيم وتكوين الاتجاهات العقلية لجمهور التيار الإسلامي بكل تصنيفاته المختلفة من خلال التركيز على الحالة الانفعالية وتحريك مثيرات الخوف النفسي ، إذ كان لذلك دورا مؤثرا في فوز "الديني" بحصة الأسد من الجمهور العربي والإسلامي الذي بدأ العمل على استهدافه بنشأة فكر "الأخوان المسلمين" ومشروعهم "الإسلام السياسي" ، ثم "الصحوة الإسلامية" في الخليج العربي وما تلاها من تحول بعض المنتمين لطائفية مذهبية إلى أخرى أو من جماعة دينية إلى أخرى .
حيث كان وما يزال يقوم منهج "الإسلاميين" للاستقاطب وصناعة الاتجاهات على قوة الانفعال والشحن النفسي لتحول الجمهور المستهدف من حالة الإطمئنان إلى حالة الخوف والقلق النفسي !
ويمكن بوضوح ملاحظة تطبيق مبدأ "الانفعالية" في خطاب جماعة الأخوان المسلمين في مصر خلال الأحداث والمتغيرات المصرية الأخيرة إذ صورت الجماعة لأتباعها والمتعاطفين معها بعد قيام الجيش بسحب السلطة من الرئيس محمد مرسي وعزله .. صورت ما قام به الخصم وهم العسكر والمؤيدين لهم من الشعب المصري ومن خارج مصر بأنه حرب على الإسلام وهدم للدين من كفار وملحدين وأعداء للإسلام والمسلمين ! فغفل كثيرون من مؤيدي الجماعة ومناصريها والمتعاطفين معها داخل وخارج مصر "وأعني الجماهير التي استطاعت الجماعات الإسلامية بما فيه جماعة الأخوان التأثير في اتجاهاتهم وليس (الأتباع)" .. إذا ، غفل هؤلاء عن حقيقة ما يحدث كسياق طبيعي في ظل الصراع السياسي على السلطة والحكم بعد نجاح ثورة 25 يناير2011 واسقاط النظام السابق .
بل ونجح الأخوان في صناعة ما يسمى "وهم الصمود" في أذهان الحشود المعتصمة في ميداني رابعة العدوية والنهضة رغم علم هؤلاء الصامدون بجدية العسكر في عزمهم على فض الأعتصامين حتى لو بالقوة وذلك اقتناعا بما تلقاه المعتصمون من خطب حماسية مشحونة بالانفعالات العاطفية وبأنهم مرابطون ومجاهدون في سبيل الله ! وربما من خرج منهم برغبة ذاتية كان قد أدرك أنه رباط وجهاد في سبيل جماعة سياسية تسعى للسلطة والحكم وليس "سبيل" الله ! .. أنه صراع على السلطة والزعامة هيئت له عقول الجماهير العامة لتدفع بأجسادها وقودا لنار العنف التالية دائما لكل تفكير محدود بسيطرة فرد أو جماعة أو تنظيم على شعب مقهور ...
وهنا ربما يقول قائل : أن نجاح "الديني" في الاستقطاب والتعبئة أنما يعود لطبيعة المجتمع المتدين والمحافظ ، لذلك استطيع القول : أن أدولف هتلر (والمثال هنا لتأثير الحالة الانفعالية في الخطاب الموجه في السيطرة على العقول) ..إذاً ، كان هتلر يلقي خطبه بانفعالية وحماس شديدين ، وقد عرف بضربات يده على المنصة التي كان يقف خلفها وهو يلقي خطبه ، وبصوته الهادر ، وكان ماهرًا في التحدث إلى الناس بما يريدون أن يسمعوه مثل "الخيانة" التي طعنت الجيش الألماني في الظهر أثناء الحرب العالمية الأولى، والخطة اليهودية الماركسية لغزو العالم، والخيانة التي تعرضت لها ألمانيا في معاهدة فرساي ...
التعليقات (0)