الدينُ كـَكـُل أيديولوجية سماوية أو وضعية، وأيضا كأيّ قيمةٍ كبرىَ في الدنيا يستخدمها الطيبُ والشرس، المسالمُ والإرهابي، المتسامحُ والطائفي، المظلومُ والظالمُ، الاستشهاديُّ والانتحاري.
الدين، الحرية، العدالة، الحب، التقدم التكنولوجي، البورصة، الأسعار، مجلس الأمن، الفيتو، البحوث العلمية، الاستفتاءات، السلطات الثلاث، الإعلام .. الخ
كلها أشياء تستطيع أن تستخدمها في الخير والشر، فتقتل باسم الحـُب، وتظلم تحت راية العدالة، وتغشّ وأنت تقوم بتعديل الأسعار، وتـُكـَبـِّـل المـِعـْصـَمـَيـّن زاعماً أنك تـُحرر إنساناً، وتـُعـَمـّم التزويرَ في الاستفتاء، وتنضوي السلطات الثلاث تحت راية الاستبداد، ويتنفس الإعلام كذباً في برنامج الحقيقة المطلقة.
صندوقُ الاقتراع أحد هذه الأشياء التي تأتيك بعبيد أو أسياد، بكفاءات أو جهالات، بمخلصين أو لصوص، بوردة أو سيف، لكن المهم أن سوءَ النيــّة يتداخل مع حــُسنها، فيظن صاحبــُها أنه يـُرضي اللهَ تعالىَ فإذا بالشيطان يرقص طرباً لخيارات الطيبين والبسطاء كفرحتــِه بالمجرمين والأشرار.
خيارات المصريين لم تكن عادلة لأن أحـَـدَ الطرفين في بلد يحتل التديــّن الفــِطري، والمتواضع، والتقليدي، والموروث يزعم أنه متحدث باسم الله على الأرض، وأنه سيــُـطبق شرع الله مع السؤال المكرر لانهائياً:( هل أنت أحرص من الله على حقوقك؟)، فيخرس، وينظر في الأرض خجلا من يتبادر إلى ذهنه سؤالٌ يــُغضب ربـَّه، أعني لا تـَرْضىَ عنه الجماعة!
المعركة لم تكن متكافئة رغم أنَّ أحدَ طرفيها كان داعية مخلصا لكرباج ولي الأمر، ومنافحاً عنيدا عن ظلم أمير المؤمنين ولو ضرب ظهرَك، واغتصب كلَّ حريمِ أهلك، وأخرج القليل مما في بطون أبنائك ليضيفه إلى مائدة طعام قصره المليء بخيرات شعبك.
والطرف الثاني وفقاً لتفسيرات الأول علماني ملحد وليبرالي خليع وكاره للإسلام ومغرم بالقيم الغربية المنحلة ويبحث عن اغراق المجتمع بالفساد حتى يتحقق هدف أعداء ديننا من الأمريكيين والصهاينة والغربيين!
صندوق الانتخاب لم يكن في حاجة لأكثر من وصف المعركة على أنها بين الخير الإسلامي والشرّ العلماني، فثلاثة من كل عشرة أصوات لا يعرف أصحابــُها القراءة والكتابة، وسبعة من كل عشرة يقرؤون بصعوبة بالغة، وثمانية من كل عشرة يجمعون ليوم القيامة حسناتٍ في الانتخابات لعلها تــُغـَطــّي على سيئات في كل مناحي الحياة!
الزاعمون أنهم صوتُ الحق الإلهي يضربون تحت الحزام، فالجماهير تنحاز لمن يبني لها جنة في الآخرة مقابل الرضا والقناعة بعشة صفيح في إحدى العشوائيات المتناثرة في القاهرة الكبرى، والجماهير تعشق الإكليشيهات الجاهزة والتي لا تحتاج لعقل أو منطق أو تحليل أو شكّ أو توقف تأملي لبرهة أو أقل، فــ( الاسلام هو الحل)، و( الله سيرزق أولادك من فوقهم ومن تحت أرجلهم) و( الحاكم الظالم له نهاية) و ( المرشح المؤمن خير من الكافر العادل) و ( الزكاة المباركة أفضل من المليارات المتحصلة من الضرائب ) ... الخ
المخدرات ليست فقط تلك التي يُهــَرّبها تجار السموم، ولكنها أيضا في ألسنة وأقلام دعاة السكون والصمت والقبول بالأمر الواقع وانتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة، فانتهى الأمر بسرقة وطن، ونهب دولة، واستئساد طاغية على رقاب شعبه!
الناخب لا يبحث عن الكفاءة والعلم والإدارة، لكنه سيـُصـَوّت لمن يــُحـَدّثه عن ضرورة ارتداء الحجاب والنقاب، وعن الرقابة على أفلام الانحلال الخــُلـُقي، وعن أهمية رضا الله وطاعته في طاعة ولي الأمر، وليس في الدفاع عن الحق، والاعتصام من أجل المعتقلين الأبرياء، ومحاربة الغش والاحتيال ورفع الأسعار واستغلال السلطة وأهمية الكتاب في حياة الناس.
الناخب يريد أن يكسب رضا من يبيع له حسنات سواء بالمساعدة على وصوله إلى الحرم الديمقراطي أو بعدم التصويت للعلماني الذي تمكن الزاعمون بأنهم حزب الله على الأرض من تشويه صورته.
وأخطأت القوى الليبرالية عندما لعبت في أرض الخصم، وأجبرها أن تستخدم أسلحة يجيد هو التصويب بها حتى لو أخطأ، فالناخب سيرى كل ضربة من الإسلامي موجعة لليبرالي، والمعركة بهذه الطريقة لا تحتاج لصوت العقل، ولا لنهج المنطق، ولا يكترث أحد للموضوعية والحقائق والتوثيقات، ويكفي أن يضع أسماء كبيرة مثل البخاري ومسلم وابن عباس والترمذي وأبا هريرة حتى لو كان الموضوع عن التصحر والنظام المالي وحقوق الإنسان والصعود إلى الفضاء وبناء جيش حديث، ثم يــُغـَلـّفه بتعبيرات جميلة كالسلف الصالح والآباء الأولين ومن عاشوا في القرون الثلاثة الأولى فتصبح المعركة محسومة مسبقاً لصالح صاحب الملعب والكرة و.. الجماهير المشجعة.
على باب لجنة الاقتراع تستطيع أن تهمس في أذن الناخب المصري البسيط مستنكراً أن يعطي صوته لمن لا يحتكم إلى شرع الله، فأحدهم أقنع الناخبين الطيبين أن منافسيه يؤيدون الكافر نجيب محفوظ الذي وضع رواية( أولاد حارتنا) لكنه لا يذكر أنها عام 1957، يسخر فيها من الله ورسله، فالمرشح الإسلامي، لا يتحدث إلى الناخب عن فن الإدارة، وملايين القضايا المهمـَـلة في ملفات المحاكم، وميزانية البحوث العلمية، وكيفية القضاء على أمراض الكبد الوبائي والسرطان، وتثبيت سعر الدواء، وكيفية توفير ميزانية لعلاج الأطفال مجاناً.
في العالم العربي ستحسم صناديقُ الاقتراع أيَّ معركة انتخابية لصالح من يبحث عن حلول مُعضلات الحاضر في حكايات عن أناس مرّوا على الدنيا منذ مئات السنين، وآلاف من الأحاديث التي يختلط فيها الحق بالباطل، والمعلوم بالمجهول، والمؤكد بالموضوع في زمن كهنة السلطان ستدخل المعركة بلافتات تدعم أحد المرشحين ولو مرت عليها قرون عدة.
صندوق الانتخاب يصلح في بلد لم يعد يتعرف على أميٍّ واحد، ولا يصل إلى فتحة الصندوق صوت لمرشح استخدم المقدس في حملته الانتخابية، واستدعى شهوداً من المقابر، واستعان بتفسيراتٍ لا علاقة لها ألبتــّة بعصرنا وزمننا وظروفنا.
لهذا كان طبيعياً أن يرفض عدد من النواب القــَسـَم كما هو معروف في الدستور فأضافوا إليه شرط عدم تعارضه مع شرع الله، وبالتالي يمكن رفض أي مشروع حتى لو كان إنشاء دار للأوبرا في صعيد مصر بحجة أن ابن عباس فسـَّر( اللهو) في الآية الكريمة على أنها الموسيقى والغناء.
يصغر العقل، ويتقزم، ثم يختفي عندما يضرب النائبُ طوقا من الغموض والابهام على طروحات البرلمان، فلغتنا الجميلة مليئة بمـُســَكـِّنات لا حصر لها، وإذا كنتَ إسلامياً وعارضتَ رأياً مخالفاً لقناعاتــِك عن مشروع ثقافي أو فني أو تعليمي أو جامعي أو طبي فالحجة بين يديك، ولا تحتاج لقراءة صفحة واحدة عن المشروع، فتقف بشموخ وتزعم أنك تشم رائحة تشويه صورة الإسلام، وأن ابن عم صاحب المشروع كان يعمل في قناة خليعة أو أن ابنته تقضي العطلة على الشاطيء في الغردقة!
نتائج المعركة محسومة، ومحجوزة، ومضمونة لمن تمكن من التعبئة النفسية والوجدانية والعاطفية والروحية لصالح برنامجه الوهمي، ويكفي تأكيده بأنه سيعمل الخير، ويحافظ على مصالح أبناء الدائرة(وليس الوطن)، ويستجيب لمطالبهم، ويبني لهم مسجداً جديداً، ويزرع التقوى والإيمان في أرجاء القرية، وتلك هي أقصى امكانياته العقلية والعلمية والإدارية والثقافية!
انتخب المصريون الإسلاميين لأن الاسم يشي ويوحي بوقوف الله، تعالى، مع حزبه المنتصر حتماً، رغم أن أول فصول التزوير يحملها الاسم ذاته، فكلنا إسلاميون، والقبطي الذي يتساوى مع المسلم في كل الحقوق، دون أي استثناء مهما صغر، وأن أمنه وأمانه وحريته وعدم التمييز ضده في أدنى الصور غير المرئية ضمانة حقيقية،هو أيضا إسلامي، فلماذا يزعم فريق، زوراً وبهتاناً، أنهم إسلاميون أكثر من الآخرين، وأن العلي القدير منحهم بركات من السماء وحـَجـَبـَها عن غيرهم!
أما الحُكم بشرع الله فتفسيره الواقعي تـَرْكُ شؤون الدنيا والدين لبعض البشر لعلهم يستنبطون من الدين أحكاماً تناسب أهواءهم، وتفسيرات لا ترهق عقولــَهم، وسُلطة مُغـَلــَّفـة بالتقديس، وزعامة تزعم أنها خلافة، واستبداداً لا يحتاج لأكثر من دقيقتين من التشاور حتى يصدر الحُكم بقطع الرقبة.
إنني مؤمن إيمانا عميقا بشرع الله كما هو في ذهني أنا فقط، أي حُرْمة الأميــّة، ونسبة مئوية كبيرة من ميزانية الدولة إلى البحوث العلمية، ومخالفة اخفاء براءات الاختراع، والعلاج المجاني غير المؤجل لكل طفل تحت سن الثانية عشرة، والمساواة الكاملة بين المواطنين، وأن التكفير كـُفــْر، وأن بناء المساكن فوق الأراضي الزراعية مُحــَرّم تحريماً قاطعاً، وأن التفريط في فائض مياه النيل مخالف أيضا لشرع الله.
شرع الله هو تذويب الفوارق الكبيرة بين الطبقات إلا الطبيعي منها، وإيجاد حل لمليون طفل في الشوارع، ومستشفيات ذبح ميزانية المواطن المسكين مخالفة لأحكام الإسلام، ومنع ترميم الكنائس إلا بأمر السلطة عمل مناهض لعدالة السماء.
شرع الله أن لا ينام المصريون وأحد أبنائهم يتوجع في زنزانة تحت الأرض ليوم أو بعض اليوم، وأن تجند الدولة إمكانياتها لتعميم الثقافة الإنسانية والعلمية بكافة أنواعها.
وشرع الله أن نطيعه، سبحانه وتعالى، إذا طلب منا أن لا نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، ولكن ما آمنت به قلوبنا وعقولنا ووعينا.
وشرع الله، عز وجل، أن نقرأ الآية الكريمة التي تحثنا على التعارف شعوبا وقبائل، وبالتالي فاخفاء وجه المرأة حرام حــُرمة كاملة لأنه يفتح للمجتمع الآمن باب الرذيلة والفساد والارهاب والمعاصي والخيانة الزوجية.
وشرع الله يعني الكفاءة قبل زبيبة الصلاة، والعبقرية العلمية والإدارية والفكرية قبل اللحية، والشرعة العالمية لحقوق الإنسان لا تتعارض مع الحقوق في الإسلام، ولا مانع من الخلافات الصغيرة في تفاصيل تختلف من بلد إلى آخر.
وشرع الله في شوارع نظيفة، والقضاء على الدروس الخصوصية، ورفع الأجور، وزيادة الانتاج، وحرية النشر والابداع، ومنع الاستغلال والغش، وافتتاح مكاتب لحماية المستهلك، و ..
هذا هو شرع الله الذي أفديه بحياتي ودمي دون أن أزعم أنه يمنحني أفضلية وأولوية ومكانة أعلى من الآخرين، فالعزيز الجبار ربُّ كل البشر.
المصريون انتخبوا الإسلاميين، ولو زعم الإسلاميون أنهم ليبراليون بحُكم ارتباط الدين الحنيف بالحرية، ثم يؤكد الليبراليون أنهم فرقة الله التي تطيعه في الخير ورفع مرتبات الموظفين والاهتمام بتقوى المواطن في عمله، وحماية المستهلك لأن مَنْ غشــَّنـا فليس مِنـّا، فأغلب الظن أن نتيجة الانتخابات كانت ستدير وجهها إلى الناحية الأخرى.
صناديق الانتخاب في العالم الثالث أكبر عملية غش باسم العدالة، فهي تصنع طغاة اختارهم ناخب مشوّش الفكر، محدود القدرات، مخدَّر إعلامياً، مُسيّطــَّر عليه من سارقي التفسيرات باسم الدين.
إنني مؤمن بشرع الله، لكن التابعين لفهمي وتفسيري وقناعاتي قلة نادرة يهتز لها ضحكاً صندوق الانتخاب، ولا أستبعد أن يتهم الجماعة إيماني بأنه كفر، ومحبتي لله أنها ابتعاد عنه، عز وجل، وقناعاتي أنها طعنة في ديني الحنيف.
هذا هو تفسيري لتصويت المصريين لصالح الإسلاميين،وكذلك تفسيري لشرع الله، وأعتذر للذين سيهرب النوم من عيونهم، فالصدمة شديدة عليهم!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 13 فبراير 2012
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)