تابعت تقريرين متتاليين، بثتهما قناة الجزيرة من النرويج، ويتناولان بعض مشاكل الأسر المهاجرة، عبر قضيتين لعائلتين عربيتين، وكلا التقريرين كانا غير موفقين وفاشلين بامتياز، من حيث الموضوعية والتقنية، على عكس ما عودتنا الجزيرة.
القضية الأولى، تتعلق بعائلة دريد الكبيسي، من تروندهايم، حيث تدخلت مؤسسة "حماية الطفل"، وسحبت طفليها من حضانة الوالدين، ولا يسمح لهما بزيارتهما الا مرّة واحدة في الشهر. لا شك أن بكاء الأم، في التقرير، يفطر القلب. لا أدعي معرفة بتلك القضية، غير ما شاهدته في التقرير. تقول الأم، بأن البوليس طرق باب شقتها وأخذ الطفلين عنوة منها. لكنها لم تتطرق الى السبب أو أي تفاصيل أخرى أو على أي خلفية تم ذلك الأمر، ما يدفع المشاهد غير العالم بقوانين البلاد، الى تخيل تلك المؤسسة الاجتماعية الانسانية، وكأنها "مافيا لخطف او مصادرة" الأطفال.
لكن ما يشير الى وجود مشاكل مسبقة، مع تدخل المؤسسة، أن الأم أضافت، بأنها اضطرت الى ارسال طفلتها، الى العراق، خوفا من "مصادرتها" من قبل المؤسسة. لا يعنيني الخوض في موضوع كيفية ارسالها للطفلة، الى بلد هم فارون منه، لانعدام الأمن فيه، وهذا بحد ذاته يعرض الطفلة للخطر ويحاسب عليه القانون النرويجي. طريقة العرض دفعت المذيعة للتساؤل، عما اذا كانت جنسيات أخرى، تستهدف في مثل هذه الحالات، اذ ان العائلتين كانت من الجالية العراقية، فبدا الامر وكأن تلك الجالية هي المستهدفة..
الخلل الفني، لم يسمح لمسؤولة تلك المؤسسة، بعرض وجهة نظرها في هذه القضية، أو تقديم صورة عن هذا النظام الاجتماعي، كما أن التر جمة كانت مضطربة، بحيث لم تنقل، فكرة واضحة، او جملة ذات معنى حول هذا الموضوع.. وبقيت في ذهن المشاهد تلك الصورة المجحفة بحق تلك الأسرة..
التقرير الثاني، تناول قصة أسرة عربية أخرى وربما كانت ايضا عراقية، فقد تم حرمانها من من أطفالها الأربعة. لم ندر كم أعمارهم، لكن يبدو أن أحدهم، كان قد بلغ مبلغ الشباب، اذ ادعت الأم، بأن ابنها قد سار في طريق الانحراف وتعاطي المخدرات، بما يوحي بأن انحرافه قد حدث بعد مغادرته بيت والديه، بما يعني تحميل المؤسسة مسؤولية انحرافه.
ما دفعني لتصحيح هذه الصورة، هو أني عملت في تلك المؤسسات التي تحمي المرأة والطفل، من كل أشكال العنف وخاصة العنف الأسري. كما تجدر الاشارة الى أن تاريخ انشاء هذه المؤسسات، يعود الى ما قبل ، بداية مواسم الهجرة او اللجوء الى تلك البلاد، ما يعني أنها لم تؤسس خصيصا لأجل عيون المهاجرين لتخريب ثقافتهم، وتدمير علاقاتهم العائلية التي يحسدهم عليها النرويجيّون.
مؤسسة حماية المرأة، ومؤسسة حماية الطفل، تتعاونان وتنسقان معا لحل المشاكل العائلية، والتي غالبا ما تكون بين الرجل والمرأة، وتنسحب على الأطفال والمرأة عنفا جسديا ونفسيا. العنف الجسدي غالبا ما يكون باستعمال الضرب المبرح الذي يصل حد الأذية الجسدية التي تستدعي زيارة الطبيب او المستشفى. اضافة الى الأذية النفسية التي تعكسها سلوكيات الأطفال الغير طبيعية والتي تتطلب علاجا نفسيا.
تسعى المؤسستان بدورهما المتكامل، الى حل مشاكل الاسرة داخليا أو "سلميّا"، وباشراف أصحاب الاختصاص التربويين والاجتماعيين والنفسيين، حيث يقومون بزيارات للأسرة في منزلها، واذا ما تعذر الأمر، يتم نقل الأم مع أطفالها الى مركز للعائلات، تحصل بموجبه على شقة مريحة ورعاية خاصة، مع اعادة تأهيلها للحياة الاجتماعية والعملية، وفقا لظروفها وطاقاتها، مع استمرار العمل على مساعدة الأسرة لرأب الصدع بينها.
بالنسبة للأطفال، فانه يتم أخذهم من العائلة، في حال ممارسة العنف الجسدي والنفسي، حيث يتم شرح قوانين البلد المتعلقة بالأطفال للوالدين، بأن الضرب ممنوع وارهاب الأطفال كذلك، وأن القانون يعاقب الذي يخالف هذه الشروط. وقد تستغرق عملية "تربية" الوالدين مدة سنة أو أكثر، قبل ان يتم أخذهم من قبل المؤسسة، ووضعهم في رعاية أسر نرويجية، هي أيضا تكون من أصحاب الاختصاص في شؤون التربية، وباشراف المؤسسة أيضا..
أما كيف تعلم المؤسسة بوجود مشكلة لدى طفل ما، فلذلك عدّة وسائل. قد تشتكي الأم او احد الوالدين لمؤسسة حماية الطفل او المرأة، من وجود المشكلة. أو عن طريق الطبيب المعاين او المستشفى التي ينقل اليها الطفل المصاب، بكسور في الأضلاع او الأطراف، وهذا هو الشائع، أو وجود كدمات مؤلمة وعلامات زرقاء في جسد الطفل. وتلعب دور الحضانة والمدرسة، دورا بملاحظة وجود أثار تعذيب جسدي، أو نفسي من خلال سلوكيات غير طبيعية، لدى الطفل.
قد تعيد المؤسسة الطفل الى حضانة أهله، اذا ما أثبتوا صلاحهم، من خلال متابعة قضيتهم مع المؤسسات المختصة.
في حالة التقرير الثاني، وتعاطي الابن للمخدرات، فان غالبا، ما يكون اليافع قد بدأ ذلك وهو في حضانة أهله، نتيجة لأوضاع غير طبيعية بين الوالدين، مترافقا مع صحبة السوء. لكنها تؤخذ ذريعة لمقاضاة تلك المؤسسة. ليس هناك قاعدة في هذا الشأن... فبعض الأطفال الذين نشأوا تحت رعاية المؤسسة قد بلغوا نجاحا وعلما، وبعضهم انحرف.. كما أن أطفالا نشأت وسط العائلة وفي محيطها، لكنهم انحرفوا أخلاقيا ونفسيا، مع معاناة نفسية تكلف الدولة عبئا ماديا ومعنويا كبيرين.
تفوق كلفة الطفل الذي يؤخذ من ابويه، كلفة عائلة كبيرة، بكامل مصاريفها، ما يعني أن دعم الدولة لتلك المؤسسات يشكل عبئا ماديا عليها. وبهذا المعنى، فان مصلحة الدولة، هي في وجود أسر متماسكة، تساهم في بناء مجتمع صحي.
ان اتهام المهاجرين، للمؤسسة بالعنصرية، غير حقيقي. فهناك حالات، تحرم الأم النرويجية من طفلها، لصالح أبيه المهاجر، اذا ما ثبت أن الأم هي من يمارس العنف او انها غير مؤهلة لرعاية طفلها.
القانون في النرويج واضح، يمنع ممارسة كل أشكال العنف الأسري ضد المرأة والطفل والرجل أيضا. الضرب ممنوع مهما يكن، فما بالك عندما يصل الضرب الى مرحلة تكسير أعضاء في جسم الطفل. كنا نشاهد حالات أطفال حتى في عمر السنتين قد ضربوا بشكل همجي، نستغرب معه، أن يقوم به أقرب الناس للطفل، ومن يفترض بهم ان يكونوا واحة أمان واطمئنان له. وكيف يمكنهم ايذاء أطفالهم بتلك الطريقة "الوحشية" عفوا، نعتذر من الوحوش التي تدافع بضراوة و"وحشية" لمن يقترب من صغارها.
لا يمكن ادراج هذه المشاكل تحت بند الفروقات الثقافية. فعاطفة الأمومة والأبوة ليست بحاجة لطقوس ثقافية، فهي غريزة قبل كل شيء. وقد بدأت مجتمعاتنا بالتنبه لمخاطر العنف الموجه ضد المرأة والطفل، ولكن للأسف حماة النظام البطريركي وسدنته، يعيقون سنّ القوانين لحمايتهما، ربما كانوا مستندين الى اسطوانتهم المشروخة: اننا نتمتع بأسرة متماسكة، بسبب العصا والعقاب، ولا يلتفتون الى ما حققته تلك المجتمعات" المفككة" التي نقتات على مكتشفاتها واختراعاتها.
هذا هو قانون البلد، ولن يكون أحد فوقه، ومن لايعجبه، فليعد الى "فردوسه" الذي فرّ منه.
ان تشويه سمعة مؤسسات اجتماعية وانسانية، هو عمل غير أخلاقي ولا يصب الا في مصلحة، بعض قيم تخلفنا.. ومن لا تعجبه هذه القوانين فليعد الى حيث يمكنه ممارسة طقوسه المقدسة...
التعليقات (0)