مالذي يجعل بشار الأسد يختار الرقة ليصلى فيها صلاة العيد، السؤال هذا ناتجاً عن المفاجأة التي سجلها بصلاته في هذه المدينة البعيدة والمنسية عبر عقود والتي لم تحظ بأي اهتمام خدمي أو تنموي رغم أهميتها "الزراعية" و"المائية" لسوريا ككل.
هناك عدة أسباب جعلت الأسد يختار الرقة ليستعرض أمام الكاميرات التفاف الشعب حوله، مطمئناً خوفه من القادم الذي ينتظره.
الأول يتعلق بكون بشار الأسد -وقد ورث ذلك من أبيه- لا يتصرف كبشر عادي مثلنا، بل كشخص اخطأته النبوة أو قائد تاريخي ملهم على أدنى تقدير لكنه يعلم أنه فاقد للشرعية الانتخابية؛ فهو بحاجة دائمة إلى ما يؤكد أنه فوق صناديق الاقتراع وبالتالي تراه يبالغ في الاستعراض الاعلامي ورسم الصورة.
فقد قال لصنداي تليغراف في لقاء مصنّع قبل أيام مافحواه أن "هناك شرعية انتخابية، وشرعية شعبية.. إذا كنت لا تملك الشرعية الشعبية، سواء كنت منتخباً أو لا فستجري إزاحتك". إذن هو يعتقد - نتيجة مرض ديكتاتوري- أن الشرعية الانتخابية ليست شعبية وهو يحوز ماهو أعلى منها أي "الشعبية"؛ و يعتقد بنظرية صاغها بنفسه ولم ترد في كتب "علم الاجتماع السياسي"؛ بل من رواية مرسلة من نسج خياله يمكن أن يؤلف فيها كتاباً من نوع "كيف تكون زعيما محبوبا دون شرعية" فحسب نظريته الفذة فإن "المكوّن الأول للشرعية الشعبية هو حياتك الشخصية. مهم جداً كيف تعيش.. أعيش حياة طبيعية. أقود سيارتي بنفسي. لدينا جيران. آخذ أطفالي إلى المدرسة، ولهذا أنا محبوب.."
فالرجل يعتقد جازماً أنه محبوب، وإلا لما ارتفع شعار "منحبك" الذي أطلقته بنت عمته "سيرياتيل"، وهذه الاستعراضات بعمومها بما فيها "مسيرات التأييد" تعزز لديه هذا الاحساس المرضي وتصادق عليه.. فهو لايخاطب الناس من خلال رسالة تلفزيونية مسجلة مثلا، بل لابد من حشود تصفق له في مجلس الشعب في مهرجان على مدرج جامعة... الخ، واختار الرقة لتوفر له هذه الامكانية.
هذا يقودنا إلى السبب الثاني الذي هو الامكانية، فهو لم يعد لديه إمكانية لعمل هذا الاستعراض في دمشق أو حمص أو حماة أو درعا أو حتى حلب خوفا من مفاجآت، وقد رأينا كيف صلى العيد الماضي، وكانت الرسالة الاعلامية التي قدمتها صلاته تلك ضعيفة، لأنها كانت دون حشود تنتظر خروجه "المنتظر" من المسجد، و أراد أن يصححها هذه المرة مستكملا مسيرات التأييد. لهذا فالرقة الهادئة نسبيا والمسيطر عليها أمنيا و"تشبيحيا" توفر هذه الإمكانية لإرضاء نزعة الاستعراض لادعاء التفاف الشعب حوله و.. "منحبك"، وأن الشعب الثائر مجرد أقلية متآمرة وجراثيم كما وصفهم.
أما السبب الثالث هو المكافأة! فقد أراد بشار الأسد مكافأة هذه المدينة التي لم تدخل الحراك بكثافة بزيارة لها باعتبار انه "شيء" مقدس حط في هذه المدينة! ومجرد صلاته فيها هي "رد للجميل"..
إنها رشوة إذن بمفهومنا ليس للرقة وحدها بل لمنطقة الجزيرة السورية كلها التي يتشابك فيها الوجود العشائري.. ولو كان يستطيع أن يصلي في دير الزور لفعل ذلك لكن الدير لا توفر إمكانية الاستعراض كونها ثائرة بكليتها وغير آمنة.. ولو كان يستطيع أن يفعل ذلك في الحسكة أيضا لفعل؛ لكن كذب قرارته التي صدرت بخصوص شعبنا الكردي تشكل حاجزا بينه وبين هذا الاستعراض، فقد صدرت مراسيم تتعلق بالغاء مرسوم بيع الأراضي في المناطق الحدودية الذي استهدف الاكراد تحديدا ومرسوم اعادة الجنسية لمن سحبت منهم في وقت سابق ولم تنفذ فلايستطيع ان يعد بمزيد من الاكاذيب في الحسكة، والمناطق الكردية المؤثرة فيها منخرطة في الحراك، فاختار الرقة لتوجيه رسالته هذه إلى الجزيرة السورية...
رغم ذلك خرج بعض الأحرار الشجعان في الرقة ضد هذه الزيارة التي أسموها "زيارة الشبيح الأكبر" متحدين الطوق الأمني مطالبين باسقاط النظام، على بعد أمتار منه، وقد جرت اعتقالات في المدينة إثر ذلك وقبله.
أما لماذا الرقة هادئة نسبياً ووفرت له إمكانية الاستعراض هذه وإرضاء نرجسيته التأليهية؛ فالأمر ليس مفهوما كليا -بالنسبة لي على الأقل-؛ إذا علمنا أن الرقة والطبقة التي تتبعها من أوائل المدن التي خرجت للتظاهر، فقد انطلقت فيها التظاهرات في 25 آذار/مارس، احتجاجاً على ماحصل في درعا ونصرة لها!.
كما أن نقابة المحامين فيها سجلت موقفاً شجاعاً في أعلانها الإعتصام احتجاجاً على ما يحدث في عموم سوريا من قتل واعتقالات.. وجرت إثر ذلك اعتقالات واسعة في صفوف المحامين والمحاميات المشاركين في الاعتصام.
فإذا قلنا إنها ذات تركيبة عشائرية فمناطق أخرى ذات كثافة عشائرية منها دير الزور وحتى حمص.. انخرطت في الثورة، والمدينة كذلك مهمشة منذ عقود تهميشا مضاعفا، باعتبار سوريا كلها مهمشة، فلا ميزات لها ولسكانها كي يتمسكوا بهذا "النظام".. وإذا قلنا ضعف التسييس فهذا ينطبق على سوريا كلها خلال العقود الأربعة الفائتة.
اعتقد أن الأمر يتعلق بصغر المدينة وبانكشافها أمنياً، فالمدينة تعاني من كثافية أمنية نسبة لسكانها ونسبة للحراك فيها، وكذلك هناك كثافة "تشبيحية"، والشبيحة فيها هم من البعثيين من سكان المدينة، وبالتالي هذا يتيح ليس فقط معرفة الناشطين بل معرفة غالبية المتظاهرين، وبهذا نجد تفسيرا لاتساع الاعتقالات في الرقة رغم ضعف حراكها وقلة عدد المتظاهرين فيها، كما أن التركيبة العشائرية ومفهوم "الثأر" لم يزد جرأة "الشبيحة" لتصل حد قتل المتظاهرين، كما يحدث في مناطق أخرى.
إضافة لذلك أيضا هناك عامل آخر أجده مهما فبعد إغلاق "النظام" لكل الأماكن المحتملة للتجمع وخروج التظاهرات، لم يتبق الا المساجد التي منها انطلقت كل التظاهرات على امتداد سوريا.. والرقة مدينة ضعيفة التدين، أو أن "تدينها" أقل منه في مناطق سوريا الأخرى وعلاقة الناس بصلاة الجماعة ضعيفة فالمصلون يصلون في بيوتهم في الغالب وهو ما يقلل فرصة الحشد الذي يوفر نوعا من الامان للمتظاهرين، كما أن عدم وجود أأمة مساجد محرضين على التظاهر ضد "النظام" هو أمر له تأثير.
هذا أنتج محدودية القدرة على التواصل بين الناشطين أنفسهم لتنظيم مظاهرات مؤثرة وحاشدة، إضافة لعوامل ذاتية أبرزها مفهوم "الزعامة" عند الناشطين أنفسهم والتي يدل عليها كثرة صفحات "التنسيقيات" وتفتتها، يضاف إليه ضعف التواصل مع وسائل الإعلام من الناشطين وإيصال صوتهم وهو ما يشكل محفزات على التظاهر.
ووفقا للتركيبة السكانية فيما لو انخرطت العشائر بكثافة في الحراك في الرقة فإنها ستحيد دور الشبيحة وسيزج بالأمن والجيش بشكل مباشر مثل بقية المدن.. لكننا سنكسب تواصلا جغرافيا بين المدن الثائرة في الجزيرة فستصبح الرقعة ممتدة من حدود حلب الشرقية، وحتى العراق وتركيا - فكما نعلم هناك تظاهرات مستمرة في الباب شرقي حلب- ؛ وهو ما يوفر رقعة جغرافية واسعة، فلو كانت الرقة ثائرة مع دير الزور وبنفس الكثافة والزخم لعرقل ذلك "نسبيا" القدرة على قمع هذه الرقعة الواسعة وشكلت ملاذا لانشقاق كبير محتمل في الجيش أو حتى متفرق لكنه كثيف لا يمكن السيطرة عليه دون طيران وهو ما يجعل النظام يعد للألف قبل ذلك نتيجة الخشية من رد الفعل الدولي..
وإذا علمنا أن هناك الكثير من المجندين الذين يؤدون خدمة العلم في الجيش ويتم استخدامهم لقمع التظاهرات في مدن أخرى من الجزيرة.. فإن هذا يعطي دفعاً قوياً لانشقاقات في الجيش.
إذا فانخراط الرقة مؤثر ومهم في سياق توق السوريين للحرية، فهذا النظام ساقط لامحالة.. وليس من الطبيعي أن تبقى مدينة الرقة متخلفة عن الحراك الثوري في مناطق سوريا ولا تنخرط فيه بكثافة.
خلف علي الخلف
تابعوني على تويتر والفيسبوك:
https://www.facebook.com/khalaf.a
التعليقات (0)