للمدونات وللمدونين حق التدوين .. ولي قراءة الدواوين
ثلاثون سنة مع الكلمة والحب والحياة في قطر
حسن توفيق
بعد أن تكتمل هذه السطور لا بد من فطع الكهرباء عن البيت ولهذا لن أستطيع - مؤقتا - أن أتفاعل وأن أتواصل مع المدونات والمدونين الذين أسعدوني بتفاعلهم وتواصلهم مع - مجنون العرب- لكني أعاهد الجميع بعودة قريبة ولكن من القاهرة وليس من الدوحة .. السطور التالية تحاول أن تسجل مسيرة إنسان على امتداد ثلاثين سنة ، ولكم جميعا كا الحب والتقدير
صباح الخميس الثاني من يوليو - تموز 2009 سأمتطي صهوة طائرة ، متوجها من الدوحة إلى القاهرة .. روحي مسكونة بذكريات أحملها معي وليس منها فكاك ،فقد جئت إلى قطر للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة ، وما زلت أتذكر كل تفاصيل اليوم الأول لقدومي إلى هذه الأرض العربية .. إنه السادس من أبريل سنة 1979حيث هبطت بي الطائرة في مطار الدوحة الدولي بعد غروب الشمس بقليل ،ولم يكن مبنى المطار فخما ولا ضخما كما هو حاله الآن ، لكني فوجئت حقا بعشرات من الأحباء والأصدقاء يترقبون وصولي ، وكان على رأسهم أستاذي الرائع رجاء النقاش ، وربما لأن مشاعري لم تصدأ بعد ،فإني لم أستطع أن أنسى دفء دقائق الحفاوة الساحرة بي عند باب المطار ، كما أني أعرف مقدما أني لن أستطيع نسيان روعة ذلك اليوم – يوم السادس من أبريل سنة 1979 ولعل من المفارقات التي أفكر فيها بيني وبين نفسي وها أنذا أسجلها على الورق وعبر الشرق أني قد جئت إلى قطر في الوقت الذي كانت خلاله الثورة الإسلامية في إيران قد نجحت في تقويض عرش الشاه وكانت دول المنطقة وقتها تتحدث – سرا وعلانية – عن مخاوفها من حكاية تصدير الثورة المذهبية إليها ، واليوم وأنا في طريق العودة إلى مصر أعايش ما جرى في إيران من مظاهرات صاخبة تطالب بالابتعاد عن الاستبداد حتى لو كان ما يرتديه هذا الإستبداد لباسا دينيا .
على امتداد ثلاثين سنة ترسخت وتعمقت صداقات صادقة ، كما كانت هناك – بطبيعة الحال – صداقات سرعان ما اكتشفت أنها زائفة، ففضلت أن أبتعد عن أصحابها بكل هدوء ودون افتعال لأية ضجة باستثناء ترديدي لبيت جميل من شعر العبقري العربي المتنبي :
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرب
أتذكر الآن رجاء النقاش ، فقد كان يقول لكثيرين إن حسن توفيق لن يتحمل هدوء الدوحة لأنه من عشاق السهر في ليالي القاهرة ، ولهذا فإنه قد لا يستمر في العمل هنا سوى ثلاثة أشهر... أتذكر الآن أستاذي الرائع وأنا أعود إلى مصر بعد أن عشت ثلاثين سنة لا ثلاثة أشهر فحسب في قطر .
أصدقائي الصادقون في كل من قطر ومصر وفي دول عربية أخرى هم ثروتي الغالية والوحبدة التي أعتز بها كل الاعتزاز ، وهم كنزي الذي لا يعرف قيمته أولئك الذين صدئت أرواحهم ، وليس غريبا أني كنت أشعر بالحنين الجارف إلى أصدقائي الذين لا أتواصل معهم عن قرب إلا خلال شهر إجازتي السنوية وهم من أبناء مصر وأبناء العروبة المقيمين على أرضها ، وهاهو الحنين يتحول إلى حنين معاكس لأصدقائي في قطر حتى من قبل أن أصل للقاهرة !
ولكن سؤالا محددا قد يراود أذهان كثيرين : إذا كنت قد عشت في قطر ثلاثين سنة بل أكثر قليلا فلماذا الخروج ؟ ولابد أن أجيب بما أعهده في نفسي من صراحة قائلا إني لم أتقدم باستقالتي من عملي إلا بعد أن تعرضت لمضايقات لا حدود لها وقد حاولت أن أتحمل هذه المضايقات ، لكنها ظلت تتجدد وتتأكد ولم يكن أمامي سوى أن أكتب للمدير العام للمؤسسة التي كنت أعمل بها طلبا بقبول استقالتي ، حتى يهدأ بال الذين يبدأون اليوم بالمكائد ولا يحلو لهم النوم إلا إذا فكروا في مكائد جديدة لكي يشرعوا في تنفيذها ، وهنا لابد من القول إن خبر استقالتي قد أوضح لي مدى حب كثيرين لي ،فقد أعلن الحب عن نفسه ولم يعد صامتا ، وإذا كان لابد من ذكر بعض أسماء هؤلاء المحبين فإني سأذكر في البداية صديقي المبدع والإنسان الجميل محمد بن خليفة العطية ومعه – مع حفظ الألقاب – ناصر محمد العثمان ومبارك بن سيف آل ثاني ويوسف جاسم الدرويش وعبد الله محمد صادق ومصطفى عقيل الخطيب ويوسف العبد الله وأحمد علي وخليل إبراهيم الفزيع وجابر الحرمي وصالح غريب وفخري حمود الدليمي وكلثم جبر وبابكر عيسى , وكل الذين لم أشأ أن أذكرهم حتى لا يتعرضوا لمضايقات ممن لم يعرفوا طيلة حياتهم معنى الحب ، ومن الطريف أن أذكر هنا أن ما كتبه صالح غريب عني في الشرق كان بمثابة امتحان لقلوب المحبين الصادقين بالفعل وليس بمجرد الإسم ، فقد تصور هؤلاء أني قد انضممت إلى أسرة تحرير الشرق وبالتالي فإني سأظل مقيما في قطر وهذا ما أبهجهم ودفعهم بسرعة البرق لأن يرسلوا لي رسائل التهاني الرقيقة دون أن يدركوا أن صالح غريب قد خدعهم !
استقلت - دون رغبة مني - من عملي منذ الأول من فبراير 2009 ولكني لم أترك للحزن مجالا لكي يغزو قلبي وروحي ، فقد ثابرت على تعلم ما لم أكن أعرف أو أستوعب وانطلقت لأجالس الكمبيوتر الذي لم يكن من قبل صديقا أنسجم معه بل مجرد ضيف عابر أضطر أن أقترب منه، وها أنا أكتب على الكمبيوتر مباشرة- وكلي فرح- ما أكتبه شعرا ونثرا بعد أن أصبح هذا الجهاز المذهل صديقا نافعا وممتعا لا أستغني عنه ولا أفارقه ولا يفارقني !
هذا درس لي ولسواي ، عنوانه أننا نستطيع أن نتغلب على ما يعترض حياتنا من أزمات ومصاعب ، إذا كنا بالفعل نطبق عمليا قول المتنبي العظيم : على قدر أهل العزم تأتي العزائم ، وعلينا هنا أن نتناسى أولئك الحاقدين على الناجحين وأولئك الذين يبدون ناعمين لكننا نكتشف إن عاجلا أو آجلا أن نعومتهم ليست نعومة ملمس الحرير بل نعومة جلود الأفاعي ، وقد عانى من أولئك في زمانه شاعر عربي حكيم هو الطغرائي صاحب لامية العجم الرائعة حيث قال متوجعا وحزينا :
أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخلِ
وإنما رجل الدنيا و واحدها
من لا يعوّل في الدنيا على رجلِ
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعملِ
أحمد الله لأن الأصدقاء الصادقين أكثر مما كنت أتصور ، وأحمد الله لأني ظللت متشبثا برسالة الكلمة الملتزمة والشريفة ولم أجرب أن أخونها ولو لحظة واحدة ، وأحمد الله لأني كنت أبتعد بشكل مهذب عن أصدقائي الذين يتم تعيينهم في مناصب قيادية مرموقة حتى لا يتصور أحد أني أسعى لمغنم من المغانم .
هنا – في قطر - هواء .. وهناك – في مصر - هواء .. هنا أرض وهنالك كذلك أرض ، وبطريقتي الخاصة فإني أنسق في أعماقي بين ما هو هنا وما هو هناك ، محاولا أن أصهر كل ما هو جميل في بوتقة روحي وأن أتناسى كل ما ليس جميلا ،وإذا كنت أعتز بأني قد عشقت مدنا وقرى عديدة في مصر فإني أعتز بسهرات جميلة في إمسعيد ودخان وأم صلال علي وأم صلال محمد والخور وعشيرج ومدينة الشمال وسواها من مدن وقرى قطر .. وإذا كنت ما زلت أتذكر يوم قدومي إلى قطر وهو السادس من أبريل سنة 1979 منتعشا بالحفاوة عند باب مطار الدوحة لحظة وصولي ، فإني سأظل أتذكر صدق وبهاء المشاعر التي غمرني بها جابر الحرمي رئيس تحرير الشرق ومعه أسرة تحريرها خلال الحفل الذي أقاموه مساء أمس.
هل يستطيع الإنسان أن يلخص مسيرة ثلاثين سنة في عدة أسطر قلائل ؟ لن أجيب على السؤال لكني أقول : على الرغم مما يقال من أن العروبة قد أصبحت سفينة مثقوبة فإني سأظل إنسانا عربيا ملتزما بعروبته، سواء كنت في قطر أوفي مصر أوفي أي أرض عربية ، ولن أقول اليوم لأحد هنا : وداعا ، بل أقول : إلى اللقاء سواء هنا أو هناك.
التعليقات (0)