أنا لست محررا، المحررون لا وجود لهم، فالشعوب وحدها هي من تحرر نفسها.
تشي غيفارا
كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن البزنسة القائمة في مختلف ولايات الوطن، حول مقاعد مجلس الأمة. عمليات بيع و شراء صريحة... القابض يبيع صوتا، و الدافع يشتري جاها. البائع رابح، و المشتري كذلك.
نحن الآن في عام 2009 و سنة 2010 لم يعد يفصلنا عنها أكثر من شهرين. لكن سوق بيع لقب السيناتور، ليست وليدة هذا العام، لأنه منذ أول انتخابات للتجديد النصفي لأعضاء مجلس الأمة، باشرت تلك السوق نشاطها. و لو كنا في بلد آخر.. في مجتمع آخر، لقرأنا و شاهدنا و سمعنا من الذين سبق لهم أن أصبحوا " سيناتورات"، شهادات يكشفون لنا فيها: كم دفعوا لمن، أين و متى، و كيف و بحضور من.
شخصيا، و استنادا إلى ما أتوفر عليه من معلومات سابقة عن هذه السوق، أستطيع أن أؤكد لكم أن السعر.. سعر بيع الأصوات، بقي مستقرّا تقريبا، ما يعني في نظري أن كل شيء ارتفع سعره خلال السنوات الأخيرة، إلا أصوات المنتخبين الناخبين.. إنهم قنوعون !... و الآن، دعوني أرجع إلى بيت القصيد..
بعض التعاليق الصحفية التي تحدثت عما يحدث في هذه سوق، وصل الحديث بأصحابها إلى التساؤل عن الفائدة من مجلس الأمة. التساؤل هذا، يفقد معناه إذا ما ربطناه فقط بالعيب المشين الذي سيظل لصيقا بأعضاء مجلس الأمة المنتخبين، لكونهم اشتروا أصواتهم بالمال، نظيفا كان هذا المال أو وسخا. لأننا حينما نرى أنه ما من خير يرجى من أشخاص يدّعون تمثيلهم للشعب، بينما المال هو الذي اختارهم و ليس الشعب، فان الرؤية تنطبق في هذه الحالة ليس على مجلس الأمة وحده، بل حتى على المجلس الشعبي الوطني، طالما أن العام و الخاص قال و لا يزال يقول أن المال هو الذي مكّن أغلب أعضائه من لقب " نائب برلماني". التساؤل نفسه يصبح جديرا بالطرح في هذه الحالة كذلك: " أي خير يرجى من أشخاص يدّعون تمثيلهم للشعب، بينما المال هو الذي اختارهم و ليس الشعب". و لو لا أن حيزي هذا ضيق، لا يسمح لي بالتوسّع في الفكرة، لذهبت بعيدا، و لوصلت معكم إلى خلاصة مفادها أنه ما من خير يرجى من أي مسؤول جزائري مهما كانت طبيعة المنصب الذي يشغله، منتخبا أو معيّنا. و هل أنا الذي سأزودكم بجديد، عندما أقول لكم أن حتى مناصب المسؤوليات تُباعُ و تُشترى ؟! و لماذا لا تُباعُ مناصب المسؤوليات، خصوصا العليا منها، إذا كانت أصغر مناصب " الخبزة" تُباعُ و تُشترى حسب ما أسمع و تسمعون في روايات تقطع الأنفاس ؟!.. آخر ما سمعت عن هذا النوع من الصفقات أن رجلين التقيا في وليمة عائلية للتفاوض حول سعر نجاح فتاة في إحدى مسابقات التوظيف. الرجل الأول كان أبا للبنت التي شاركت في المسابقة، بينما الثاني كان كما يمكن استنتاجه، صاحب قرار، و بأمر منه، يُدرجُ اسم البنت في قائمة الفائزين. الأجمل من هذا أن الرجلين، حسب ما سمعت، جمع بينهما "وسيط خير" لا يرجو من سعيه لا جزاء و لا شكورا. المفاوضات تمت في ظروف جيدة للغاية، و بفضل ذلك الوسيط استقر الرأي على سعر 12 مليون سنتيم، بعدما كان لا يقل عن 15 مليون سنتيم. و لكن، لا تصدقوا.. أرجوكم !
فلماذا نريد القوم أن يتنازلوا مجّانا عن مقاعد الخير و الخمير في مجلس الأمة، إذا كان كل شيء في هذه البلاد يُباعُ و يُشترى ؟!
يجب أن نفهم نهائيا بأن كل شيء في بلادنا إما أنه " ماتش مبيوع" و إما أنه مطروح للبيع ! .. كل شيء ... كل شيء قابل للبيع. صحيح أن العقارات وحدها (مساكن و محلات) تُشهرُ عليها ألواح " للبيع"، لكن هذا لا يجب أن يغلّط أحدا، لأن كل شيء صالح للبيع كما قلت.
منذ أسابيع قليلة، التقيت أحد معارفي، و قد كان مهموما بالبحث عن كمية من العسل غير المغشوش " عسل حر". فسألته إن كان مريضا، و نُصح بالعسل. فأجابني بأنه بخير و الحمد لله، لكن أحد أصدقائه، يقيم بالعاصمة،هو الذي طلب منه أن يشتري له كيلوغرامين من "العسل الحر". قلت له بأنني قلّما أسمع كلاما طيبا من هذا القبيل... كلام يعيد الأمل و يجعل الواحد منا يتوسم الخير في هذا المجتمع، و كيف لا نتفاءل عندما نكتشف أن الصديق لا يزال بإمكانه أن يستنجد بصديق قديم له. و عندما أقول صديق قديم، فهذا قد يعني أن عمر تلك الصداقة لا يقل عن 40 أو 30 سنة. المهم أنني بدافع الفضول، سألت صديقي ضاحكا، بعناية أي شخص، سيبعث بذلك العسل إلى صديقه، طالما أن الأمر سيتعلق بعسل حر... دواء نادر في أيامنا هذه، لا يؤتمن عليه إلا أهل الثقة من الدرجة الأولى ؟ فقال لي بأنه هو الذي سيوصل " الأمانة" بنفسه ! تعجبت و قلت له: ألهذا الحد، هو عزيز عليك صديقك... لا يكفي أنك تفتش له عن السلعة المفقودة بل تكلف نفسك عناء السفر إلى غاية العاصمة من أجل أن تسلّمها إليه شخصيا ؟! فوفر عليّ صديقي، تساؤلات و أسئلة أخرى كنت سأطرحها،لا محالة، و قال: إن كان عن الصداقة، فالشخص الذي حدثتك عنه صديق حقيقي منذ بدايات السبعينات، حيث درسنا سويا في نفس الثانوية. و إن كان عن العسل، فلا أخفي عنك، أن الرجل يشغل منصبا نافذا جدا في إحدى أهم الوزارات، و كنت قد طلبت منه أن يساعدني على معالجة أمر معين على صلة بما تبقى من مستقبلي المهني. و لأنني أكرر الاتصال به هاتفيا، لمعرفة أي جديد في الموضوع، فقد زف لي الخبر السعيد في آخر مكالمة أجريتها معه، و طلب مني أن أتنقل إليه بالعاصمة في أسرع وقت ممكن.. و بالمناسبة سألني إن كنت أعرف أين يمكن العثور على " العسل الحر" فأجبته بالإيجاب، مع أنني لا أعرف. لكني لم أكن أستطيع أن أرد له طلبا بسيطا كهذا، مقارنة بالخدمة التي قدمها لي... المهم أنني قلت له بأنني أعرف أين يُباعُ العسل الحر، و سألته إن كان يريد أن آتي له بكمية منه ( أي من العسل) فقال: "حبذا !" فقررت أن أشتري له كيلوغرامين من العسل، و كمية من " الملوخية التونسية" و بعض الأشياء غير المتوفرة بالعاصمة... واش تحب!... واش تحب.. مولى الخير دواه الخير !... ما عليهش !
" ما عليهش" قال لي صديقي، خاتما حديثه، بعدما قرأ في عيني ما كان قد فسّره دون شك على أساس أنه " لا صداقة و لا صديق و لا هم يحزنون... و لا مساعدة في سبيل الله، و لا شيء بالمجان. كل شيء للبيع.. كل شيء له ثمن.. و لو كيلوغرامين من العسل الحر، فهذا أضعف الإيمان !".
كل شيء للبيع، و معتوه هو من لم يفهم.
كل شيء له ثمن، و مسكين هو من لم يحسن قراءة السعر.
كل شيء تستطيع أن تشتريه، و منكوب هو من لا مال له.
كل شيء يمكنك أن تمتلكه، بما في ذلك العباد، و مهزوم هو من لا يدفع.
إذا كان الآخرون في باقي أصقاع العالم يعيشون وسط مجتمعات، فنحن أصبحنا نعيش وسط سوق.
من منا يصدق عندما يسمع أن بوتفليقة لا يعلم شيئا عن البزنسة التي تحدث في انتخابات أعضاء مجلس الأمة ؟ لا.. بوتفليقة، و من خلال مختلف أجهزة الأمن العلنية منها و الخفية، يعرف كل صغيرة و كبيرة عن هذا الموضوع، منذ ما قبل أن يصبح رئيسا لهذا البلد... منذ أن كان وزيرا في عهد الرئيس أحمد بن بلّة قبل عهد الرئيس الراحل بومدين. فبوتفليقة يعرف أفضل منا جميعا أن كل شيء بدأ يُباعُ في الجزائر و يُشترى منذ الساعات الأولى للاستقلال. من أراد أن يشتري شيئا، فله ذلك مقابل أن يدفع. و من أراد أن يبيع شيئا بما في ذلك ضميره و شرفه و كرامته فليقبض الثمن "و يغلق فمه". و لكن، ماذا يستطيع أن يفعل بوتفليقة ؟... " شيش" لو هو يقدر على شيء !
هي هكذا الأمور في الززاير. من استطاع أن يشتري، فليشتري، و من لم يستطع، فليغلق فمه، إلى أن يجد من يشتري له.. كفنا !
السلام عليكم.
منشور في أسبوعية أسرار الجزائرية/ العدد 262
التعليقات (0)