مواضيع اليوم

لكي لا ننسى

mos sam

2012-02-11 07:37:26

0

                                                                                        
كان الاسبوع الأخير من أغسطس 1969 عاديا في ليبيا  رغم أن الجو كان مشحونا بأشاعات  على جميع المستويات حتى إثيرت في مجلس الوزراء . وكان فحوى هذه الأشاعات أن الملك الذي كان في العلاج  في اليونان سمع بصدور منشور ضده في ليبيا فأستسشاط غضبا وقرر الأستقالة  .ولم يكن  احد  يعرف تفاصيل ما يجري فمن عادة الملك عدم أخبار أحد عما يجول في خاطره . حتى السيد ونيس القذافي رئيس مجلس الوزراء لم يكن يعرف شيئا أو هكذا قال لمجلس الوزراء في اخر إجتماع له ، وعنما طلب منه اعضاء مجلس الوزراء  السفر إلى اليونان لمقابلة الملك ذكر أنه حاول ورفض طلبه .  وكانت التكهنات أن الملك قد يكلف العقيد عبد العزير الشلحي بتولي شئون البلاد وأن الملك لم يعد قادرا على  تحمل مسئوليات الملك  . وكان رئيس  الوزراء قد تسلم برقية من الملك في أول أغسطس  يأمر فيها الطلب من السيدين الشيخ عبد الحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ والسيد مفتاح عريقيب رئيس مجلس النواب  الذين كانا في إجازة في إيطاليا الرجوع إلى ليبيا لحضور إحتفال 7أغسطس في البيضاء ، وفعلا رجعا  وقد عاد السيد عريقيب  إلى إيطاليا لتكملة إجارته أما الشيخ العبار فبقى في ليبيا . وفي أخر أسبوع لأغسطس جاء السيد عمر الشلحي  مستشار الملك من اليونان واخبر السيد ونيس القذافي بأن الملك  في صحة جيدة وقرر زيارة بعض دول البلقان وتركيا ويوغسلافيا وقد كلف السيد طارق الباروني  وزير الصناعة أنذاك بأعداد هدايا من الصناعات الليبية اليدوية للرجال والنساء لاهدائها إلى رؤساء الدول وزوجاتهم أثناء زيارة الملك لهذه الدول  ولم يذكر شيئا عما يشاع في البلد  مما جعلنا نعتقد أن كل شئ عادي .
كانت رحلة الملك إلى اليونان ثم إلى تركيا في صيف 1969م قد طالت كثيرًا، وقد بعث هذا الغياب الطويل كثيرًا من الارتياب والتساؤلات في دوائر الدولة العليا. وأذكر أن السفير الليبي السيد الطاهر القرامانلي قد بعث ببرقية إلى رئيس الوزراء يقول فيها بأن انطبعاته بعد مقابلته للملك أنه ينوي البقاء لفترة طويلة في الخارج، كما أنه يفكر في اتخاذ إجراء دستوري لكنه لم يصارحه في الموضوع.
أمور كثيرة كانت تجري في الخفاء وبسرية تامة. فقيام الأخوين عبدالعزيز وعمر الشلحي بأدوار الاتصال بين الملك ورئيس الحكومة في هذه الفترة وعدم إطلاع مجلس الوزراء وكبار رجال الأمن والجيش على ما يجري وراء الكواليس يشير إلى توقع أحداث هامة. وزاد ذلك تأكيدًا طلب الملك رجوع رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب من الإجازة في أوروبا إلي البيضاء بسرعة لحضور الاحتفالات بمناسبة 9 أغسطس عيد الجيش السنوسي مما جعل رئيس الوزراء يشك في الأمر ولهذا منع خروج الوزراء في إجازة في هذه الفترة التي توافق العطلة الصيفية المدرسية، والتي يحرص فيها المسئولون على السفر في إجازاتهم مع عائلاتهم. والغريب أن كل هذا كان يجري دون علم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان، الذي كان في إجازة طويلة للعلاج، كما أخبرني هو في مطار طرابلس يوم عودته من أوروبا يوم 27 أغسطس.
وقد رفض رئيس الوزراء طلبي بأن آخذ إجازتي في شهر أغسطس أيضًا وهو الشهر الذي أفضله للإجازة، رغم أنه سمح لوزير البترول السيد خليفة موسى بالخروج في إجازة بصفة استثنائية. وكان عليّ ان أتولى وزارة البترول بالوكالة في غيابه، ولهذا كنت في بنغازي وطرابلس في الأسبوع الأخير من أغسطس للاهتمام بشئون وزارة البترول. كما أن السيد علي حسنين وزير الخارجية سافر إلى أديس أبابا لحضور مؤتمر القمة الإفريقي وأسندت مهام وزارة الخارجية بالوكالة إليّ ايضًا. وكان رئيس الوزراء يتولى تسيير العمل في وزارة الخارجية مع السيد محسن عمير وكيل وزارة الخارجية في البيضاء أثناء انشغالي بالعمل في بنغازي وطرابلس لشئون تتعلق بوزارة البترول واستقبال بعض كبار الزوار بصفتي وزيرًا للخارجية بالوكالة.
في هذه الفترة كان رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي قلقًا ويتوقع أخبارًا هامة من الملك لم يفصح عنها. وسرعان ما انتشرت الإشاعات بأن الملك سيستقيل أو أنه سيعلن تغييرًا دستوريًا هامًا، الشئ الذي كان موضع تكهنات منذ فترة طويلة. وفي الأسبوع الأخير من شهر أغسطس كنت في بنغازي لحضور اجتماع للمجلس الأعلى لشئون البترول والاجتماع بأعضاء المجلس الذين استقال بعضهم، بسبب عدم موافقتهم على قرار مجلس الوزراء الخاص بإعطاء عقود بترولية لا تتمشى مع توصيات المجلس الأعلى لشئون البترول.
سافرت من بنغازي حبت كنت أحضر إجتماعات مجلس إدارة مؤسسة النفط .إلى طرابلس يوم 30 أغسطس لاستقبال السيد عبدالهادي بوطالب وزير الخارجية المغربي، الذي يزور ليبيا حاملًا دعوة الملك الحسن الثاني إلى الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة العربي الذي كان سيعقد في المغرب، وكذلك الإعداد لزيارة الأمين العام للأمم المتحدة المستر يوثانت إلى ليبيا يوم 5 سبتمبر. وسمعت أثناء ذلك أن اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد في البيضاء في غيابي أثير فيه موضوع الإشاعات حول غياب الملك وأن رئيس الوزراء أكد للوزراء بأنه لا يعلم شيئًا.
وقد طلب مجلس الوزراء من السيد ونيس القذافي السفر إلى تركيا لرؤية الملك واستجلاء الحقائق منه وفيما إذا كان الملك يفكر في الاستقالة حقًا، وإذا كان مصرًا فيجب أن تتم بطريقة دستورية والتنازل عن العرش لولي العهد بالطرق الرسمية وعدم تعريض البلاد لفوضى لا يعرف مصيرها إلا الله. وقد أكد رئيس الوزراء للوزراء بأنه طلب الإذن للسفر لمقابلة الملك ولكن طلبه رفض ووعدهم بإبلاغهم بأية تطورات قد
وبعد وصولي إلى طرابلس استقبلت الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب الذي وصل إلى طرابلس يوم 30 أغسطس ليلا، ونظرًا لغياب الملك أعددت له مقابلة مع ولي العهد لتسليمه دعوة الملك الحسن الثاني إلى أخيه الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة العربي في الرباط. وقد اعترضتني مشكلة مع سكرتير ولي العهد السيد بلقاسم الغماري، عندما أعلمني بأن ولي العهد يرغب في استقبال الوزير المغربي منفردًا دون حضوري معه، وقد أفهمته بأن العرف جرى أن يحضر وزير الخارجية مقابلة الوزير الزائر للملك أو ولي العهد، ولكن سكرتير ولي العهد أبلغني بأن هذا قرار الأمير وهو مصر عليه. وقد يكون رفض الأمير حضوري المقابلة يرجع إلى علاقتي الوثيقة بالسيد محمود المنتصر الذى يشك في إخلاصه له.
أثار هذا التصرف غضبي، واتصلت برئيس الوزراء وأبلغته بالأمر محتجًا، وطلبت من رئيس الوزراء إعفائي من مهام وزارة الخارجية بالوكالة احتجاجًا على تصرف ولي العهد، ولكنه كعادته بدلًا من أن يراجع الأمير لتغيير رأيه ذكرني بالظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد وطلب مني عدم إثارة مشكلة أخرى وأن أترك الوزير المغربي يقابل ولي العهد بمفرده كما طلب. أبلغت الوزير المغربي بوطالب قرار ولي العهد، وقد استغرب بدوره هذا التصرف وشعر بغضبي. وهكذا تمت مقابلته لولي العهد صباح يوم 31 أغسطس، وبعدها جاء السيد بوطالب إلى مكتبي وأبلغني بما جرى في المقابلة وسلمني صورة من دعوة الملك الحسن إلى الملك إدريس. ودعته بعد ذلك ليستريح في الفندق على أن نتلاقى في المساء في حفلة العشاء التي سأقيمها على شرفه في فندق الودان.
بعد ظهر ذلك اليوم ذهبت إلى وزارة البترول، وأبلغني السيد إبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول آنذاك، بحضور السيد عيسى القبلاوي وكيل الوزارة المساعد، بأن مدير شركة البترول "شباكوا" التي وافق مجلس الوزراء على منحها عقد امتياز التنقيب يصر على توقيع العقد اليوم لأنه سيسافر غدًا إلى أمريكا. واستغربت هذا الطلب، وسألت لماذا لم يوقع الوزير الأصلي السيد خليفة موسى قبل سفره للإجازة العقد مع هذه الشركة كما وقع العقود الأخرى مع باقي الشركات التي منحت امتياز التنقيب، فالعقد كان كغيره من العقود موقعًا من طرف رئيس شركة البترول الوطنية السيد محمد الجروشي.
كان رد السيدين إبراهيم الهنقاري وعيسى القبلاوي بأن السبب ورود نص اختياري في العقد لم يرد في قرار مجلس الوزراء يستثني هذه الشركة من مشاركة الحكومة بعد اكتشاف البترول بكميات تجارية، وعليه قرر السيد خليفة موسى حفظه حتى رجوعه من الإجازة. كما أوضحا لي بأن الشركة يدعمها بعض أفراد من الحاشية الملكية، وقد اتصلت بهما إحدى سيدات القصر الملكي  صباح ذلك اليوم وطلبت منهما التوقيع على العقد مع هذه الشركة أسوة بالشركات الأخرى، وكانا يعتقدان بأنني على علم بالموضوع. وبعد اتصالي بالسيد ونيس القذافي رئيس الوزراء وافقني على الإصرار على التمسك بشروط قرار مجلس الوزراء أسوة بالشركات الأخرى وعدم التوقيع تحت أي تهديد. وفعلًا طلبت من السيد عيسى القبلاوي إعداد رسالة إلى مدير الشركة المذكورة برفضي توقيع العقد لعدم تمشيه مع قرار مجلس الوزراء، وإرجاعه إلى رئيس شركة البترول الوطنية لإعادة صياغته وفقًا لقرار مجلس الوزراء، وإبلاغ فحوى الرسالة بالهاتف إلى مدير الشركة إذا عاود الاتصال.
خرجت من وزارة البترول إلى فندق الودان حيث أقمت مأدبة عشاء فخمة على شرف الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب، حضرها كل الوزراء الموجودين في طرابلس، ونواب رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب وكبار المسئولين، ورئيس أركان الجيش اللواء السنوسي شمس الدين ومدير عام الأمن في طرابلس اللواء سالم بن طالب وكبار ضباط الأمن. والسفراء المعتمدين بليبيا  وبعد العشاء ودعت الوزير المغربي على أساس أن أراه صباح اليوم التالي لمرافقته إلى المطار للتوديع. ورجعت إلى البيت في تلك الليلة متعبًا بعد يوم ملئ بالعمل والمشاكل مع ولي العهد حول مقابلته للوزير المغربي وموضوع رفضي توقيع عقد الشركة البترولية التي يتبناها بعض أفراد الحاشية الملكية. وكان التلفزيون الليبي يركز في تلك الليلة على زيارة الوزير المغربي وحفلة العشاء الرسمية التي أقمتها على شرفه.
وقبل أن أنام اتصلت برئيس الوزراء في بنغازي وأعطيته تقريرًا مفصلًا عما جرى في ذلك اليوم في مجالي البترول والخارجية، خاصة زيارة الوزير المغربي وبعض التفاصيل عن برنامج زيارة السكرتير العام للأمم المتحدة المستر يوثانت المتوقعة إلى ليبيا يوم 5 سبمتبر بعد حضوره أجتماع القمة الافريقي ، والذي كان من المفروض أن يكون رئيس الوزراء في استقباله في مطار طرابلس. ولكن السيد ونيس القذافي كان مترددًا في المجئ إلى طرابلس ويريدني استقباله نيابة عن الحكومة ومرافقته إلى البيضاء للاجتماع به هناك، وهذا ما كان يرفضه مكتب الأمين العام، الذي كان يصر على أن يكون رئيس الوزراء في استقبال السكرتير العام عند وصوله إلى طرابلس. وكانت المشاورات لاتزال تجري عن طريق السفير الليبي لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك الدكتور وهبي البوري، وبعد ذلك أويت إلى فراشي. 
عند حوالي الساعة الرابعة صباحًا من يوم الاثنين 1 سبتمبر 1969م رن جرس الهاتف في بيتي فاستيقظت، إذ كنت أتوقع مكالمة في ساعة متأخرة من الليل من السفير الليبي لدى الأمم المتحدة بنيويورك الدكتور وهبي البوري لتأكيد تفاصيل زيارة المستر يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا يوم 5 نوفمبر،  وبمجرد إجابتي على الهاتف فوجئت بالمتكلم يستفسر مني عن اسمي ومتحججًا أنه يريد شرطة النجدة، الأمر الذي أثار غضبي فأجبته بأنه كان الأولى به التحقق من الرقم الذي يريد مكالمته بدلًا من أن يزعج العباد في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح وأنهيت المكالمة.
وفي الساعة السادسة صباحًا رن جرس الهاتف من جديد، وكان المتكلم الحاج صالح اهميلة رئيس مستودع سيارات رئاسة مجلس الوزراء، وكان غاضبًا، وقال لي بأن رئاسة مجلس الوزراء محاطة بالجيش وأنهم منعوا السيارات التي ستنقل الوزير المغربي الضيف السيد عبدالهادي بو طالب ومودعيه إلى المطار من الخروج، وكذلك منعوا خروج بقية سيارات الوزراء. ورغم استغرابي لمثل هذا الإجراء الأمر الذي جعلني أعتقد أن شيئًا جديدًا قد حدث أثناء الليل، وأن رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدفاع قد يكونوا اتخذوا إجراءًا مستعجلًا بإعلان حالة الطوارىء وتكليف الجيش بتولي الأمن في البلاد، خاصة وأننا جميعًا كنا نتوقع أخبارًا هامة مثل استقالة الملك، أو إجراء تغيير في نظام الحكم، ولهذا طلبت من الحاج اهميلة أن يتقيد بأوامر الجيش وعدم إخراج السيارات حتى اتصل به بعد أن أتحرى عما يجري.
وبعد دقائق رن جرس الهاتف من جديد وكان المتكلم والدي الذي يصحو مبكرًا لصلاة الصبح، وكان يقيم في وسط المدينة قرب سيدي الشعاب قريبًا من رئاسة مجلس الوزراء، وأخبرني بأنه سمع طلقات رصاص وأن سيارات الجيش تملأ شوارع المدينة واستفسر عما كنت أعرف بما يحدث، وطلب مني الاستماع لمحطة الإذاعة إذ هناك بيانات تذاع. وفعلًا فتحت على محطة الإذاعة وسمعت بيان حركة الجيش والموسيقى العسكرية فتأكدت أن حدثًا خطيرًا قد حدث. فحاولت الاتصال برئيس الوزراء ووزير الداخلية في البيضاء ومدير الأمن العام في طرابلس ولكن يظهر أن خطوط الهاتف مع برقة قد قطعت كما أن هواتف كبار المسئولين في طرابلس قد قطعت أيضًا، واستغربت بقاء هاتفي شغالًا، إلا أنني تذكرت بأنه لا أحد يعرفه وغير مسجل في دليل الهاتف.
وبعد دقائق اتصل بي السيد محمد الخويلدي، رئيس قسم المراسم بوزارة الخارجية، وكان يسكن في وسط المدينة وقال لي إن قوات الجيش منعت الناس من الخروج من بيوتها ولا يعرف ماذا يفعل، لأنه يريد الذهاب إلى فندق الودان لمرافقة الوزير المغربي إلى المطار حسبما سبق وأن اتفقت معه عليه، فطلبت منه الانتظار حتى تتضح الأمور. وكانت تدور في رأسي تفسيرات عديدة لما كان يحدث بعد سماعي للبيانات التي تبثها الإذاعة، وعن من هم يا ترى زعماء الانقلاب؟
كنت أعرف بعض ضباط الجيش الكبار من رتبة عقيد إلى رئيس الأركان. ومعظم العقداء كانوا من جيلي وقد كان بعضهم زملاء لي في الدراسة في المدرسة الثانوية في طرابلس، كما أن الكثير منهم كانوا في القاهرة في الكلية العسكرية في نفس الوقت الذي كنت أدرس فيه في جامعة القاهرة. وكنت أعتقد أنهم بعيدون عن السياسة رغم تذمر معظمهم من مجرى الأمور في الجيش، وفي البلاد بصفة عامة. كان التفسير الوحيد والذي استقر عليه رأيي هو احتمال استقالة الملك، الشئ الذي عودنا عليها. إذ قد يكون قرر خطة جديدة بعد فقدانه الأمل في السياسيين، بأن يولي الجيش حكم البلاد بقيادة العقيد عبدالعزيز الشلحي وضباط وأفراد الجيش الموالين له وللملك، بما فيهم دون شك ضباط قوة دفاع برقة، إلا أن نغمة البيانات والأناشيد والتعليقات التي كانت تبثها الإذاعة لا تتمشى مع مثل هذا التفسير، إذ كانت كلها ضد الملك، ولا أعتقد أن العقيد عبدالعزيز الشلحي يوافق عليها.
وزادت شكوكي عندما أذيع خبر تعيين العقيد سعد الدين أبوشويرب قائدًا للانقلاب، إذ هو زميل لي في الدراسة وأعرفه معرفة جيدة كما أعرف أنه خرج من الجيش. ورغم اطمئناني لشخصية العقيد سعد الدين أبوشويرب لكونه شخصًا معتدلًا ومتعلمًا وذا خبرة في الجيش وعارفًا بشئون البلاد وينتمي إلى عائلة معروفة ومحترمة، إلا أنني لم أصدق ذلك، وكنت أرى أن إذاعة خبر تعيينه ما هو إلا تغطية من طرف الضباط الموالين للعقيد عبدالعزيز الشلحي، حتى يضمنوا بذلك تأييد باقي عقداء الجيش الغير موالين لهم.
بعد تعذر اتصالي بأي من المسئولين وعدم استطاعتي القيام بشيء، إذ لم يكن للوزراء في النظام الملكي، أي دور في شئون الأمن أو سلطة أو اتصال مباشر بقوات الجيش أو الأمن، بل حتى بيوت الوزراء وتحركاتهم كانت بدون حراسة على الإطلاق. ولهذا قررت الانتظار وكلي اطمئنان ولم يساورني أي خوف، حيث كنت واثقًا من أنني لم أرتكب عملًا ضد بلادي، ولم أشترك في أي فساد سياسي أو مالي والحمد لله، فأنا لا زلت في بداية السلم الوزاري، وجئت للوزارة من الوظيفة العامة كخبير>
كنت أعيش بمفردي في بيت بحي قرقارش في طرابلس دون حرس، سوى غفير عينته إدارة الأملاك الحكومية لحراسة أثاثها المعار لبيتي، وذلك نظرًا لتغيبي الطويل في مدينة البيضاء. وكان معظم جيراني من الأجانب الامريكان  العاملين في شركات البترول، والذين لم يكن لي اتصال معهم، وكان والدي ووالدتي وإخوتي يعيشون بعيدًا عني وسط المدينة.
كنت أنتظر اعتقالي وكان هذا واردًا بل توقعته منذ الساعات الأولى من ذلك اليوم، ويظهر أن ضباط الجيش الذين قاموا بالحركة لا يعرفون حتى بيوت الوزراء، فقد سمعت أن رجال الجيش ذهبوا إلى بيت والدي في وسط المدينة عدة مرات طوال يوم الأنقلاب وقيل لهم أنني لا أسكن هناك. وكانت والدتي تصيح فيهم فلم يتجرأوا على تفتيش بيت الوالد وقضيت اليوم كله وأنا لا أعرف شيئا، فقد قطع خط الهاتف عني ولم يبق لدي أي مصدر لمعرفة ما يجري في البلاد سوى ما تبثه الإذاعة.
في صباح يوم 2 سبتمبر وبعد رفع منع التجول، جاءني والدي وأخي الأصغر عبدالعظيم، وقالا لي بأن والدتي تمر بحالة عصبية منذ سماعها خبر الانقلاب، وأنها كانت تصرخ في وجه رجال الجيش كلما جاءوا يبحثون عني، وطلبا مني مرافقتهما إلى بيت العائلة والبقاء معهم فيه حتى يكتب الله امرًا كان مفعولًا. ولكنني رفضت ذلك، وطلبت منهما تطمين الوالدة بأني بخير، ولست خائفأ على مصيري، وليس لدي ما أخشاة، وكل ما أرجوه منها هو الاهتمام بصحتها .
أصبحت أحداث الانقلاب تتضح بعد اعتراف ولي العهد وإلقاء القبض على كبار ضباط الجيش والأمن. وبعد منتصف النهار رن جرس الباب، وعندما فتحته وجدت سيارات "لاندروفر" عسكرية أمام البيت، ورأيت عددًا من الجنود بمدافعهم الرشاشة ينتشرون حول البيت، وتقدم مني ملازم وقال إن اسمه أحمد بن حليم، واستفسر مني عن اسمي، ولما أجبته طلب مني مرافقته، فطلبت منه منحي بضع دقائق لأغير ملابسي، فأنتظرني في الخارج ولم يدخل لتفتيش البيت كما فعل غيره مع باقي من اعتقلوا، كما علمت بعد ذلك منهم بأنهم تعرضوا لمعاملة سيئة أثناء اعتقالهم.
كما علمت بعد ذلك أن أحد رجال المباحث كان يساعد رجال الجيش ويدلهم على بيوت الوزراء وغيرهم من المسئولين، قد جاء إلى بيت العائلة وطلب من أخي الأصغر عبدالعظيم مرافقته الي بيتي لتفتيشه. وفعلًا رافقه أخي وعند انتهاء التفتيش أخذ رجل المباحث معه بعض أوراقي الخاصة، بما فيها شهادات دراستي والملفات الرسمية التي كانت على مكتبي، ويظهر، كما قال لي أخي عبدالعظيم لاحقًا، بأن رجل المباحث كان يبحث عن وجود السلاح ولم يهتم كثيرًا بالأوراق. ارتديت ملابسي، وبمجرد خروجي من البيت رافقني جنديان بمدافعهما الرشاشة إلى إحدى سيارات "اللاندروفر" الواقفة أمام البيت وجلست في المقعد الخلفي بين الجنديين، بينما جلس الضابط بن حليم في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، وركب باقي الجنود السيارات الأخرى.
وقد لاحظت أن جيراني الأمريكيين كانوا جميعًا في شرفات منازلهم يودعونني ويتابعون ما كان يجري أمامهم. وبمجرد تحرك السيارات سألني الضابط بن حليم عما إذا ما كنت أعرف بيت إسماعيل التويجيري، أحد ضباط جهاز أمن الدولة الذي كان يسكن في نفس المنطقة التي أسكنها  فأجبته بالنفي، ولكن أحد الجنود قال إنه يعرفه لأنه جاء الليلة الماضية مع أحد الضباط للبحث عنه ولكنهم لم يجدوه. عند وصولنا إلى بيته واستفسار الجنود عنه أخبرهم والده بأنه قبض عليه بالأمس، ورغم عدم اقتناع الضابط بأقوال الأب، إلا أنه لم يصر على تفتيش المنزل.
بعد مغادرة بيت السيد التويجيري سألني الضابط بن حليم عما إذا كان السيد حامد العبيدي وزير الدفاع في طرابلس أو بنغازي فقلت له بأني لا أعرف ذلك ولكنه لم يحضر مأدبة العشاء التي أقيمت ليلة 31 أغسطس على شرف الوزير المغربي الزائر، وأتيحت ليّ الفرصة لسؤاله عما تم في إجراءات سفر الضيف المغربي، فأعلمني بأنه سافر برًا عن طريق تونس.
عند وصولنا إلى ثكنات باب العزيزية أخذت إلى إحدى الحجرات، وسئلت عما إذا كنت قد أحضرت معي ملابس للنوم، وعندما أجبتهم بالنفي قدموا لي جهاز هاتف وطلبوا مني الاتصال بعائلتي لإحضار ما سوف أحتاجه من ملابس. ووجدت بالحجرة كلا من الوزراء المهندس علي الميلودي والدكتور علي أحمد اعتيقه والسيد حامد أبوسريويل والأستاذ مصطفى بعيو والسيد سالم لطفي القاضي، وكانت الحجرة صغيرة مخصصة لإقامة ضابطين فقط في الثكنات، ويظهر أنهما غادراها على حين فجأة، إذ تركا بها أوراقهما الخاصة مبعثرة والأدراج مفتوحة وملابسهما خارجها.
قضينا ليلتنا الأولى في ثكنات باب العزيزية، وكنا نتجاذب أطراف الحديث وكأننا في مدينة البيضاء، حيث كان الوزراء يعيشون فيها أغلب الوقت بدون عائلاتهم، ويسهرون معًا، وقدمت لنا تلك الليلة وجبة عشاء بسيطة مكونة من صحن من الشوربة على ما أذكر. وفي ساعة متأخرة من الليل أفقنا مذعورين على أصوات طلقات نار من مدفع رشاش استمر بشكل متواصل لعدة دقائق، مما أثار رعب كبار السن منا، ولما كنت أنا الشخص الوحيد بينهم الأعزب وبدون أطفال قلت لهم مازحًا، وشر البلية ما يضحك، يظهر أن رجال الجيش قرروا إعدام المعتقلين، وأن دورهم قادم. ردوا عليّ بغضب ولماذا يقتلون وما ذنبهم، إن لهم أبناء يريدون تربيتهم وتعليمهم أبنائهم وهم ليسوا مثلي رجل أعزب متشائم. وبعد توقف إطلاق النار انتظرنا أن يدخل علينا أحد ليخبرنا بما جرى.  ولكن يبدو أن إطلاق النار كان عملًا فرديًا لأحد ضباط أو جنود الحراسة لبث الرعب فينا نفسيًا. وهكذا نمنا حتى الصباح بدون أن نعرف شيئا عن مصيرنا.
وفي صباح يوم 3 سبتمبر دخل علينا بعض الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا والوقوف أمام أسرتنا، وبعد ذلك طلبوا منا مغادرة الحجرة إلى خارج المبنى، حيث وجدنا عددًا من السيارات الكبيرة لنقل الجنود، وكذلك بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى، وكان بينهم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، والسيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والسيد أحمد صويدق وزير الاقتصاد، والسيد حامد العبيدي وزير الدفاع، واللواء السنوسي شمس الدين رئيس أركان الجيش، واللواء نوري الصديق إسماعيل رئيس أركان الجيش السابق، والسيد خليل البناني محافظ مصرف ليبيا المركزي، والسيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ وغيرهم، وطلب منا الجنود صعود السيارات وكانت عالية مما تعذر على كبار السن الصعود إليها، فأسرعنا إلى مساعدتهم، بينما وقف الجنود الشباب يراقبوننا دون تقديم يد المساعدة.
تحركت بنا السيارات دون أن نعلم عن وجهتها، ومرت بنا عبر وسط المدينة التي كانت شوارعها تعج بالمظاهرات الشعبية الهاتفة بسقوط الملكية ومرحبة بحركة الجيش، وكما قال لنا حراسنا من الجيش، بأنه لو تم تسليمنا لتلك الجماهير لقطعتنا إربًا إربًا في شوارع طرابلس، وكان كل هذا يدل على مدى غضب الشعب في طرابلس على النظام الملكي. وصلنا ثكنات الجيش في الفرناج حيث وضعنا في نادي الضباط، وانضم إلينا بعض ضباط الأمن الذين كان من بينهم العقيد علي عقيل، وكان يبدوا عليه أنه عومل معاملة قاسية، فقد قيل بأنه رفض الأوامر التي أصدرها له رجال الجيش.
قدمت لنا وجبة الغذاء التي كانت من المكرونة المطبوخة على الطريقة الليبية بدون ملاعق، فأكل البعض وامتنع البعض الآخر. أخذنا بعد ذلك إلى صالة لعبة الأسكواش التي حوّلت إلى حجرة نوم لأكثر من 16 شخصًا، وكانت الأسرة والأغطية كلها جديدة ونظيفة وفصلونا عن ضباط الأمن، وعلمنا بوجود مجموعات أخرى في غرف أخرى منفصلة عنا. ووضعوا لنا جهاز راديو لسماع أخبار نجاح الانقلاب وتلاوة برقيات التأييد التي كانت تنهال بكثرة على قادة حركة الجيش من المسئولين والسفراء ومن المواطنين على اختلاف طبقاتهم .
كان يزورنا من حين لآخر ضباط من صغار الرتب لا نعرف منهم أحدًا، وكانوا يسألون عما كنا نحتاجة. فشكونا من عدم وجود تهوية كافية في الحجرة لعدم وجود نوافد فيها. فطلبوا من الجنود وضعنا في صالة النادي حتى مجيء وقت النوم، ووافقوا على نقل السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي إلى المستشفى العسكري لأنه كان كبيرًا في السن، ومريضًا يعاني من ضغط الدم وتصلب في شرايين القلب وتضخم في غدة البروستاتا، وكان في حاجة ماسة إلى الرعاية الطبية. وقد استلمنا بعض الملابس من عائلاتنا، وقضينا الوقت في الحديث وسط تساؤلات عن هوية ضباط الانقلاب ومن وراءه .
وفي تلك الليلة حدث أمر أثار استغرابنا، حيث طلبوا منا عدة مرات ارتداء ملابسنا وجمع حاجاتنا والوقوف أمام أسرتنا استعدادًا للخروج، ثم طلبوا منا ارتداء ملابس النوم مرة أخرى والرجوع لحالتنا العادية. وكان الجنود الحراس متعبين وينامون على الأرض ويرافقوننا إلى دورة المياه كلما طلبنا ذلك
وفي إحدى الليالي طلبوا منا إرتداء ملابسنا والخروج إلى قاعة النادي فوجدنا عددًا كبيرًا من باقي المعتقلين من رؤساء الحكومات والوزراء السابقين وكبار المسئولين في النظام الملكي الموجودين في طرابلس يوم قيام الانقلاب، وكبار التجار وكل من له مركز حكومي مهم أو تاجر يتعامل مع الحكومة . كما لاحظنا وجود رجال الإذاعة والتلفزيون بآلاتهم للتصوير والتسجيل. وتكلم أحد الضباط وقال لقد طلب جماعة الملك الموجودين في الخارج وعلى رأسهم السيد عمر الشلحي من بريطانيا وأمريكا التدخل لقمع الثورة بالقوة، ونريد أن نعرف رأيكم؟ وطلب منا تسجيل رأينا لإذاعته في الراديو والتلفيزيون ضمن برقيات إحتجاج المواطنين. وفعلًا ألقى جميعنا كلمات استنكرنا فيها أي تدخل أجنبي في ليبيا مهما كانت الدوافع، وبينا أن ضباط الانقلاب هم من أبناء الوطن وأنهم سيحرصون على مصلحة الشعب وأمن البلاد. الشخص الوحيد الذي لم يتكلم كان السيد محمود المنتصر الذي عندما جاء دوره في الكلام، حسب ترتيب مكانه بين الجالسين، قام متجهًا إلى دورة المياه ولم يطلب منه أحد الكلام بعد عودته.
وفي إحدى الليالي دخل علينا عدد من الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا وجمع حاجياتنا والتوجه إلى الخارج، وعند خروجنا إستغربنا وجود حافلات عسكرية معدة لنا وقوة عسكرية كبيرة وسيارات مدرعة، وجىء بباقي المعتقلين وكان من بينهم الأستاذ محمود البشتي وزير الداخلية السابق الذي أضيف إلى مجموعتنا. ومجموعات أخرى فيها رؤساء الوزراء  والوزراء  السابقين وكبار التجار وضباط الجيش وضباط الامن  وصعدنا الحافلات، وأذكر أني جلست إلى جانب السيد حامد العبيدي وزير الدفاع السابق، وكان يسألني عن اتجاهنا لكوني من طرابلس وملمًا بمسالك طرقاتها أكثر منه، فقلت له إن الحافلات تتجه نحو مدينة طرابلس.
وعندما وصلنا إلى مفترق الطرق عند باب بن غشير اتجهت السيارات إلى اليسار، فقلت له الظاهر أنهم متجهون بنا إلى المطار ولعلهم يرغبون في نقلنا إلى فزان. ولكن قبل وصولنا إلى مفترق الطرق المؤدي إلى المطار اتجهت الحافلات يمينًا نحو الشارع الضيق المؤدي إلى السجن المركزي المبني منذ العهد الإيطالي، والذي كان يطلق عليه اسم سجن "بورتا بينيتو" وعرف أيضًا باسم سجن "الحصان الأبيض" لوجود تمثال حصان أبيض عند مدخله، وقد أسف السيد حامد العبيدي لهذا المصير المهين وقال هذه عقابها .
بعد وصولنا دخلنا إلى السجن بين صفين من الجنود المسلحين بمدافع رشاشة، وخصص لكل سبعة أشخاص منا حجرة مساحتها أربعة أمتار في ثلاتة أمتار وتحتوي على مرحاض على الطراز التركي الأرضي القديم يصعب على كبار السن منا استعماله، وبها نافذة قرب السقف محصنة بأعمدة حديدية وكان باب الحجرة من الحديد، أقفل بمجرد دخولنا. والسجن ينقسم إلى أقسام مفصولة عن بعضها البعض، وكان قسمنا كله مخصصا للسياسيين، بينما خصص قسم آخر للعسكريين وقوات الأمن وقسم ثالث لرجال الأعمال وغيرهم، بينما أودع ولي العهد والعقيد عبدالعزيز الشلحي في قسم مستقل كما قيل. كانت الأسرة والأغطية كلها جديدة. وكانت المجموعة التي شاركتني الحجرة تتألف من السادة سالم لطفي القاضي وزير المواصلات، وأحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والهادي القعود وزير المالية، وأحمد صويدق وزير الاقتصاد، وخليل البناني محافظ بنك ليبيا المركزي، ومحمد فخر الدين رئيس تحرير جريدة طرابلس الغرب الرسمية.
استقر بنا الحال  في السجن وكان الطعام الذي يقدم لنا بسيطا في اطباق من حديد ويأتون بالشاي في سطل كبير ونشرب من حنفية الحمام ، وكان لكل واحد منا كوبه يحتفظ به . ولم يسمح لنا بالخروج لاستنشاق الهواء والاختلاط بزملائنا الآخرين، أو الاتصال بعائلاتنا هاتفيًا للحصول على ملابس لتغيير ما كنا نرتديه. وبعد أيام سمح لنا بالخروج إلى ساحة السجن مع بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى. وكانت أسوار وسطوح السجن المحاطه بالساحة مليئة بالجنود المسلحين. وطلب منا غسل ملابسنا بأنفسنا في الساحة، وكان بعض الجنود يضحكون ويتندرون علينا. 
وأذكر أن السيد محمد سيف النصر الموجود معنا في المعتقل، نظر إلى الجنود ناهرًا إياهم بحدة على سوء تصرفاتهم. ولم نكلف بتنظيف حجراتنا بل أتي الحراس بالمساجين العاديين للقيام بذلك، وحذرونا منهم بعدم ترك حاجات ثمينة في متناولهم أثناء تنظيفهم للحجرات لأنهم كانوا من اللصوص المحترفين أصحاب السوابق. وفعلًا وفي كل مرة بعد تنظيفهم للحجرات يعود إلينا الجنود بالساعات والحاجات الثمينة التي سرقها السجناء من حاجيتنا واسترجعها منهم الجنود.
بعد أيام سمح لنا بترك باب الحجرة مفتوحًا، كما سمح لنا بعد ذلك بزيارة  زملائنا في الحجرات الأخرى، وفي الليل كان بعض الضباط وبالأخص الخويلدي الحميدي وعبدالمنعم الهوني يزوروننا من يوم لاخر، ويسألوننا عما كان يجري في البلاد، وكان السيدان الخويلدي والهوني يتصرفان معنا  تصرفا حسنا وتفهم كاملين. كما زارنا بعض الضباط الآخرين، وقد عرف الشيخ سالم لطفي القاضي أحدهم وقال إن اسمه عمر المحيشي، وكان يعرفه لأنه كان منافسًا لأبيه السيد عبدالله المحيشي في الانتخابات النيابية في مدينة مصراته.
أما عبدالسلام جلود فزارنا مرة واحدة وكان شديدًا في كلامه معنا، وخاطبنا بلهجة غير لائقة ووجه للمعتقلين التهم بسوء السلوك، وخص بكلامه السيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ من فزان. وكذلك كان المقدم موسى أحمد وزير الداخلية في زيارته الوحيدة لنا، فقد وجه التهم للمعتقلين متوعدًا بالعقاب. وقد اعتذر الضابطان الخويلدي والهوني لنا على تصرفات الضابطين عبدالسلام جلود وموسى أحمد.
كان السيد محمود المنتصر، الرئيس السابق للديوان الملكي، مريضًا وأخذ إلى المستشفى عدة مرات وأعيد في اليوم التالي في كل مرة، وكنا نسمع وقع عكازه على الأرض عندما يعاد في الساعات المتأخرة من الليل. وفي أحد الأيام وقع في دورة المياه، ولم يستطع الوقوف لكبر سنه لفتح الباب، فاضطر السيد شمس الدين محسن رفيقه في الحجرة إلى الدخول من الفتحة الموجودة في أعلى الباب لإخراجه. وكانت حالته الصحية سيئة. واجتمع المعتقلون وطالبوا ضباط الجيش بنقله إلى المستشفى وتركه هناك، لأن حالته الصحيه تزداد سوءًا
بعد فترة لا تزيد عن شهر بدأ الإفراج عن بعض المعتقلين، والغريب أنه أطلق سراح بعض السياسيين القدامى مثل السادة سالم لطفي القاضي وحامد أبوسريويل وأبوبكر نعامة في أول دفعة في شهر رمضان، ولكن أعيد اعتقالهم بعد ثلاثة أيام، وقيل أن ضباط حركة الجيش لاحظوا كثرة زوارهم للتهنئة، فلم يعجب هذا التصرف ضباط الجيش فأعادوهم إلى المعتقل وبقوا بعدها فترات طويلة

وفي شهر رمضان سمح للعائلات باحضار الطعام للمعتقلين وكانت سهريات رمضان صاخبة في المعتقل نتيجة الدردشة ولعب الورق. وفي أحد الأيام أرسلت بعض الجرائد المصرية إلى أحد زملائنا المعتقلين، فرأينا فيها صورة الملك على الصفحة الأولى لجريدة الأهرام وهو يهبط من الباخرة في الإسكندرية، ويستقبل معززًا مكرمًا من طرف محافظ الإسكندرية نيابة عن الرئيس جمال عبدالناصر، وخصص له قصر السلطان بحي الدقي في القاهرة لإقامته. وقد سر البعض له بسلامة المصير وحسن المعاملة.
في يوم 3 ديسمبر بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر في المعتقل، شعرت بمعاملة خاصة من طرف الجنود والضباط المشرفين علينا، وخاصة من الملازم المبروك القويري، التي كام مشرقا علينا مما جعل زملائي في الحجرة يتوقعون خروجي في تلك الليلة. وفعلًا طلب مني الملازم مبروك بعد تناول العشاء إعداد حاجياتي وارتداء ملابسي والخروج. وبعد توديع الزملاء مررت على إدارة المعتقل حيث قدمت لي ورقة وقعت عليها متعهدًا فيها بعدم مقاومة الثورة وأن لا أقوم بأي عمل ضدها. وكنت كباقي المعتقلين جميعًا قد سبق وأن وقعت على إقرار بذمتي المالية عن أية ممتلكات لي في داخل البلاد وخارجها.
وكلف أحد الجنود بنقلي إلى بيتي في سيارة "لاندروفر"، فطلبت من السائق نقلي إلى بيت والدي في الهضبة الخضراء، لأني لم أكن أعرف ما تم في بيتي الحكومي المؤجر في قرقارش وهل سلمّ لمالكه أم لا. عند دخولي لبيت الوالد وجدته بمفرده يؤدي صلاة التراويح، وبمجرد ما رآني بعد أن أنهى صلاته قام وعانقني وفرح كثيرًا لرؤيتي طليقًا، وأخبرني بأن والدتي وأخي عبدالعظيم ذهبا إلى بيتي في قرقارش لإحضار ملابس لي لإرسالها لي في المعتقل. وشاع خبر الإفراج عني بين عائلات المعتقلين، إذ يبدو أن بعض أفراد هذه العائلات الذين كانوا أمام المعتقل ينتظرون الدخول لزيارة ذويهم المعتقلين قد رأوني خارجًا من المعتقل في السيارة العسكرية فأخبروا أهاليهم بذلك. انهالت المكالمات الهاتفية علىّ، وسمعت الوالدة بالخبر قبل رجوعها للبيت ففرحت تلك الليلة فرحًا عظيمًا. وقد علمت بأنها كانت خلال فترة وجودي في المعتقل في حزن وعذاب شديدين أثرا في صحتها بقية حياتها.
كنت الشخص الوحيد الذي أفرج عنه في تلك الليلة الأمر الذي لم يحدث من قبل، فقد كان المعتقلون يفرج عنهم في مجموعات صغيرة من حين لآخر، ولا أعرف من الذي أمر بالإفراج عني تلك الليلة، ولا كيف يتم اختيار من يفرج عنهم. ورغم أن مسئولياتي في النظام الملكي لم تكن بأهمية مسئوليات بعض زملائي الوزراء، إلا أنني أنتمي إلى عائلة لعب بعض أفرادها دورًا بارزًا في النظام الملكي، وأعتقد أن ذلك كان سبب الإبقاء عليّ لفترة ثلاثة أشهر بدلًا من إخراجي مع أول دفعة. كنت آخر معتقل يفرج عنه طوال شهر ديسمبر، لأنه بعد الإفراج عني بأيام اعتقل المقدمان موسى أحمد وآدم الحواز بعد أول محاولة انقلاب فاشلة على النظام الجديد وأغلقت أبواب المعتقل لفترة نتيجة لذلك.
أول شيء عملته بعد الإفراج عني هو الانتقال إلى بيتي  جوار الوالد، وسلمت البيت المؤجر إلى صاحبه والأثات إلى إدارة الأملاك.   
بقيت في بيتي ولم أخرج منه  تحت الإقامة الجبرية كبعض المعتقلين الذين أفرج عنهم. وفي هذه الفترة حصلت أحداث أولها قيام المقدمين موسى أحمد وآدم الحواز بحركة تمرد على حركة الجيش التي كانا من المشتركين فيها، وفرضت قيود جديدة على التحركات وتوقف الإفراج عن المعتقلين السياسيين من العهد الملكي السابق.
أما الحدث الثاني فكان وفاة السيد محمود المنتصر في المعتقل يوم 30 ديسمبر 1970. وقد تأثرت لذلك كثيرًا إذ كان يحبني كأحد أولاده ويحترمني ويعاملني في العمل معاملة حسنة، ولا أعتقد أنه وثق في إنسان أكثر من ثقته بي. ولم أتمكن من رؤيته منذ نقله من المعتقل إلى المستشفى بعد حادثة وقوعه في دورة المياة. ورغم أني كنت أقيم في حجرة غير الحجرة التي كان يقيم فيها في المعتقل، إلا أنني كنت أقضي معه بعض ساعات النهار والليل عندما كان في المعتقل، وكان حراس السجن ينقلونه إلى المستشفى للكشف والعلاج ثم يعيدونه إلى المعتقل باستمرار، ورغم مرضه ووضعه الصعب كانت حالته النفسية حسنة ومتفائلًا.
ولقد خرجت لأول مرة من بيتي بعد مغادرتي للمعتقل لحضور جنازة السيد محمود المنتصر وللمشاركة في مراسم العزاء في بيته. وقد قيل أن ضباط الجيش لم يبلغوا أو يسلموا جثمانه إلى عائلته إلا في اليوم الثاني لوفاته، حتى لا يصادف دفنه يوم تشييع جثمان الرئيس عبدالناصر، لأن ذلك قد يدفع ببعض الآف من المواطنين الذين تجمعوا يوم تشييع الرئيس عبدالناصر في طرابلس للمشاركة في جنازة السيد محمود المنتصر طبقًا لعادات الليبيين في احترامهم لجلال
وفاة الرئيس عبدالناصر كانت أيضًا مبعث أسى وحزن كبيرين لي. فقد أحببته منذ قيام ثورة 23 يوليو والتي عشت السنوات الأربع الأولى منها في مصر، وقد تشبعت بمبادئها وطموحات الرئيس عبدالناصر القومية، الذي كان وبدون منازع باعث القومية العربية والداعي إلى الوحدة والحرية في الوطن العربي. ولأول مرة في تاريخ العرب الحديث تتوحد الشعوب العربية  من المحيط إلى الخليج تحت زعامة عربية واحدة تعبر عن آمالها وأمانيها رغم الحدود المصطنعة  والأنظمة الحاكمة التي فرضها الاستعمار على العالم العربي. عندما أذيع خبر وفاته على التلفيزيون انهمرت دموعي مدرارًا وبكيت بمرارة، وكانت والدتي تراقبني باستغراب، وقالت لي إن هذا الرجل هو سبب المشاكل التي تعرضت لها بعد الثورة لها فكيف أبكيه؟ لم يكن ذلك كرهًا من والدتي للرئيس عبدالناصر، والذي أصبح في جوار ربه، إنما كان ذلك راجعًا إلى حنان الأم على ابنها الذي اعتقلته حركة الضباط التى شجعها الرئيس عبدالناصر ودعم نجاحها.
 
بعد أن أحالت الثورة والدي على التقاعد، وكان وكيلًا لكلية العلوم في جامعة طرابلس، قرر الذهاب لآداء فريضة الحج برفقة والدتي وأخي الأوسط الحاج الهادي الخبير في شئون الحج، لأنه رافق عماته وخالته للحج عدة مرات، فتوكلت على الله وقررت مرافقتهم للحج. وكانت الصعوبة الوحيدة التي واجهتني تكمن في حصولي على الإذن بالسفر، إذ كان معظم المسئولين في النظام الملكي ممنوعين من السفر إلى خارج البلاد. وبعد عدة اتصالات ومراجعات وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على سفري وحصولي على وثيقة سفر وتأشيرة الحج، وذلك بعد تأكده من عدم وجود أي تهمة ضدي في ملفات القضايا التي ستنظر أمام محكمة الشعب. وهكذا غادرنا طرابلس للحج وكانت هذه أول رحلة لي للخارج بعد تغير نظام الحكم في البلاد. وبعد وصولنا إلى الأراضي المقدسة ساعدنا السفير الليبي السيد حسين بلعون، وهو من سفراء النظام الملكي السابق الذي لم يتم تغييره بعد، على الحصول على وسائل النقل والحجز لنا في فنادق "تيسير" المريحة في جدة والمدينة ومنى.
كان الحج راحة لي ولأعصابي بعد الأحداث التي مرت بي من اعتقال واعتكاف في البيت إلى هجران قسري واختياري للأصدقاء والأحباب. كان جلال الكعبة المكرمة وزيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أثر في نفسي بقية حياتي، وزاد قوة إيماني بالله والاعتماد عليه،  وثقتي بنفسي لخوض مرحلة حياتي الجديدة القادمة التي أقبلت عليها بعد الفاتح من سبتمبر 1969م.
بعد الحج غادرنا الرحاب الطاهرة إلى بيروت، وبعدها سافر الوالد والوالدة إلى طرابلس وأخي الهادي إلى دمشق لمواصلة دراسته الجامعية بها، وبقيت أنا في بيروت لعدة أيام، اتجهت بعدها إلى القاهرة المدينة التي ارتبطت بها عاطفيًا حيث كنت قد قضيت فيها أحسن سنوات حياتي، سنوات الدراسة الجامعية وسنوات الشباب، وبعد فترة راحة قصيرة فيها عدت إلى طرابلس. لم تكن زيارتي هذه للأراضي المقدسة هي الأولى، فقد سبق وأن زرتها للعمرة سنة 1964م عندما رافقت الوفد الليبي برئاسة رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر لتهنئة الملك فيصل عند توليه عرش المملكة العربية السعودية. وكذلك قمت في الثمانينات بعمرة أخرى إلى مكة المكرمة عندما كنت في الأمم المتحدة أحضر مؤتمرًا للأمم المتحدة في الرياض.
لمزيد من  التفاصيل يرجى الرجوع الى كتابي ( مذكرات شاهد على العهد الملكي الليبي) الذي نشرته مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة سنة 2008 ومنع من دخول ليبيا .وأمل ان أطبع الطبعة الثانية في ليبيا قريبا إذا كان في العمربقية  وسمحت الظروف الصحية .
بشير السني المنتصر
bmuntasser@yahoo.co.uk

 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !