كل الثورات والانقلابات لو نظرتَ إليها بأثر رجعي لعثرت بسهولة على اشاراتٍ قُرب الانفجار!
لو عرضتَ عدةَ مَشاهد لمن وثب على الحكم فوق دبابة أو عن طريق شرائط كاست أو بالتسلل إلى ثقة رأس النظام لما وجدتَ صعوبة في الاستنتاج بعد الحدث انطلاقا من المشهد قبل الحدث.
شريط يظهر فيه زين العابدين بن علي بعدما وضع الحبيب بورقيبة ثقته فيه، وأعطاه رقبته. أو الإمام آية الله الخوميني في العراق ثم فرنسا، أو لحظات قبيل اجتماع مجلس الشعب السوري بعيد رحيل الرئيس حافظ الأسد وهو يصنع مادة جديدة في الدستور تناسب الرئيس الابن.
الجيش يُلغي الانتخابات في الجزائر، والطائفية تضرب لبنان كله في ابريل عام 1975 بعد مذبحة الحافلة، وهزيمة العراق عندما أوهم الجميع طاغيته بأنه قادر على أن يحتل العالم والكواكب الأخرى فهو القائد المهيب.
إلا في مصر فلو اقتطعتَ مشهدا من أي زمن لا يمكن أن تتنبأ بما سيحدث في اللحظة التالية له ولو تلقيت دعماً من السَحَرة والعرّافين والمحللين الاستراتيجيين على الفضائيات وأجهزة الأمن المدعومة أمريكيا أو وطنياً.
كأن مياه النيل احتفظت بالفيضانات المائية والشعبية لنفسها، فلا تعرف إنْ كان المصري سيُلقي على مسامعك نكتة أو يصيح في وجهك!
لو أمسكت بوقا يصيب طبلة الأذن في مقتل فور قربه من حنجرتك، ووقفت في أعلى مكان ليسمعك ثمانون مليوناً من المصريين، وحذرتهم من أفعى تخرج من قصر العروبة وتبتلع أولادهم وأهلهم فأغلب الظن أن حنجرتك ستتهتك وتنفجر قبل أن تتحرك شعرة واحدة في الجهاز العصبي لأبناء بلدك!
في ظني أن السبب الرئيس يعود إلى أن المصري في طريقه إلى الاختفاء لتحل محله نسخة جديدة ومختلفة وبعيدة تماما عن الأصل!
نسخة صنعتها الأيدي القذرة للاستبداد، وصاغتها أصابع لصوص اعتادت على السرقة والنشل فأوهمها البعض أنها ترسم بريشة فنان، وتنحت مومياءات كأنها تعيد تحنيطها في زمن .. حسني مبارك.
هل سمعت عن مصري واحد فقط غادر مصر، ثم قص عليك حكايات فيها بارقة أمل، أو ذرة واحدة تستند عليها لتؤكد أن الزمن الجميل يمكن اعادته ولو قبل يوم القيامة بيوم أو بعضه؟
كل المصريين يعرفون حكايات واقعية عن زمن الطاعون السلوكي الذي حقن به عهد مبارك أبناء الشعب، فتسأل: ماذا بقي من مصر والمصريين ولم يتلوث؟
كل المصريين يؤكدون لك أنه تم استبدال شعبنا العظيم، وأن الذين تراهم على أرض الكنانة لا علاقة لهم من قريب أو من بعيد ببناة الأهرام، وأنه لو بعث الله نبياً الآن فربما يعتذر عن الرسالة، فالذي حدث يصطدم مع كل قواعد المنطق والأخلاق والمباديء والقيم، وأنْ المساجد والكنائس لم تعد قادرة على أداء مهمتها الروحية، وأنه إذا استمر الوضع في هذا التدهور فإن الشمس لن تشرق على مصر، وربما يستعد التاريخ لكتابة خاتمة حكاية الغول والأٌقزام، وأن أمراً ملكياً مباركيا بذبح المصريين كلهم، ودفنهم في مقبرة واحدة لن يحرك عضلة واحدة في وجه عليه جبهة كانت تسجد لله ثم اكتشفت أنها مشغولة بطاعة الشيطان.
الصورة قاتمة، وسوداء، وظلامية وظالمية ولو أقسم لك كل المصريين أن الصحوة الدينية جعلت الملائكة تحلق فوق وادي النيل الخالد، والحقيقة أن الشياطين هي التي ترقص، وتطرب، وتشكر إبليسها فقد تم نزع الجوهرة .. الروح العظيمة .. نفخة الله في الانسان. القيمة التي تؤكد نسب أبناء شعبنا إلى نسل آدم وليس إلى نار من حمأ مسنون!
إنها روح الغضب والتمرد والحزن والمبالاة والشهامة والنخوة والشجاعة والنبل التي استطاع أعفن نظام فاشي مجرم أن ينتزعها بكل الطرق والوسائل الخسيسة، ومنها التعذيب والمعتقلات واللاقانون والتزييف والتزوير والفساد والنهب والسرقة واحتقار الرعية، ثم صنع روحاً أرنبية، فئرانية تهرب من المسؤوليات الجسام، وترى أن مهمتها لعق حذاء ولي الأمر الواجبة طاعته، وأن جمع حسنات الآخرة شغل المصريين عن خلافة الأرض، وأن السماء مشغولة باحصاء عدد المحجبات والملتحين وزائري القبور ومُشاهدي القنوات الفضائية الدينية، بل إن أحد الضيوف الدائمين على فضائياتنا العرجاء أقسم بأن الملائكة كلها تتبادل التهاني والتبريكات كلما غطت مسلمة رأسها، أما السلوكيات في العمل والاخلاص والأمانة والتسامح وتبادل المحبة مع خلق الله بغض النظرعن معتقداتهم، ومساندة المعذَبين خلف القضبان، ووقف الفاحشة، أعني بالفاحشة هي أن يضع كل مصري يده في جيب الآخر، فلم تعد من اهتمامات أبناء شعبنا.
أريد أن أجدد الدعوة للعصيان المدني، والانتفاضة الشعبية، وأحرّض على انقلاب عسكري، وأستعد لتهنئة الزعيم القادم الخارج من مكان طاهر على أرض مصر، وأهلل غبطةً وسعادة فور استماعي للبيان رقم واحد، لكنني كلما سرّبت أحلامي ظنها الآخرون كوابيس، فالمصريون لا يعتبرون أنهم في معركة ضد الذي يهوي بالسوط على ظهورهم، إنما يكرهون من يقوم بتذكيرهم بدراكيولا و .. أنيابه!
فضاء واسع من الانترنيت، والفيس بوك، والمواقع والمنتديات والرسائل الالكترونية، وصحافة معارضة توزع عشرات الآلاف من النسخ، وشعب يعرف الجنينُ في بطن أمه أنْ مبارك هو صانع الجحيم، وملايين يقرأون كتبهم المقدسة، وتهوي أفئدتهم لله في صلاة الجمعة وقدّاس الأحد، فتتحول شكوكك إلى يقين إيماني بأن المصريين قد تم استبدالهم، وأن هؤلاء الذين يحكمهم مبارك ليسوا أهلنا وأحبابنا وأبناء وطننا وقرة العين التي تغرق وجوهنا دموعاً من أجلهم.
ما أشد الحاجة الآن للبحث عن وسيلة سريعة، وناجعة تعيد إلى مصر مصرييها، وتجعل البيان رقم واحد كأنه رسالة سماوية تحرق رموز عهد مبارك وأسرته وتنهي التوريث النتن الذي تجسد أمام الشعب ولا تزال عيون وقحة تنكر وجوده رغم أن أصابعه تكاد تقلعها!
من ليس له ثأر شخصي مع مبارك فلن يشم ريح الجنة ولو شفع له كل الأنبياء والرسل، ومن لا يبدأ من الآن في التحريض ضد هذا المجرم الطليق فلن يبكيه أحد لو سحقت هامَته أحذيةُ الديكتاتور المستبد.
ومن لا يزال يظن أن مصر بخير فهو إما قاتل مأجور، أو لص يخشى أن يُعيد الشعبُ منه ما نهبه!
إنَّ كل ذرة غضب على ما يحدث في مصر تُعادل ذرة إيمان بالله تعالى، ومن لا ينخرط الآن في تجمع عسكري أو مدني أو طلابي أو فكري مناهض لحكم مبارك فهو كمن يقطع رقاب أولاده وأحفاده.
كل الصلوات الاسلامية والمسيحية، وكل الأدعية والتوسلات والرجاءات لن تصل إلى السماء الأولى أو الثانية أو سدرة المنتهى قبل أن تلتحم روح الغضب بقوة الإيمان، والله لن يقبل صلاة من أي مصري ليس غاضباً على من تسبب في خراب مصر و .. تخريب الشخصية المصرية.
ومع ذلك فهناك بارقة أمل، حقيقية وليست مجازا، عن انقلاب عسكري وشيك سيقوم به أطهار، أبرار، عاشقون لمصر، فالزمن المتبقي ليهيل الرئيس مبارك وابنه التراب على مصر المصريين لم يعد بامكان أي قوة أنْ توقفه إلا أنْ يكون هؤلاء الأبطال، الأحرار، الذين انتظرناهم طويلا .. طويلا!
أوسلو في 13 ديسمبر 2008
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)