مواضيع اليوم

لقطات من الثورة الإسبانية ..

هشام صالح

2012-03-25 00:20:47

0

(1)

 

وشهدت أسبانيا فترة غريبة من الإنقلابات العسكرية لم يكن يمكن ان تحدث إلا فى إسبانيا ، إنقلابات بالتلغراف ! . ، كل ضابط طامع فى السلطة لم يكن عليه إلا أن يجمع توقيعات عدد من قادة المناطق العسكرية بتأييده ثم يبعث بتلغراف إلى من يحكم فى مدريد يخطره بأن مناطق كذا وكذا قررت تأييده ، ويتخلى الحاكم فى مدريد عن السلطة لمن حصل على أكبر عدد من توقيعات القادة  ، ثم كانت هناك طلقة واحدة من مدفع القلعة القديمة فى مدريد تعلن سقوط حكم وقيام حكم آخر ، وكفى الله المؤمنين القتال ! .... أخيراً ... أخيراً فى سنة 1930 قام جنرال غريب الأطوار فى اسبانيا وهو الجنرال "بريمو دى ريفيرا" بإنقلاب إستولى فيه على السلطة ـ رئاسة الوزراء ـ وحوّل الملك ألفونسو الثالث عشر إلى أداة فى يده إلى درجة أن الملك كان يُطلق عليه لقب موسيلينى الأسبانى ! . وكانت ديكتاتورية بريمو دى ريفيرا مقدمة فجة لديكتاتورية فرانكو فيما بعد ... والقصص ما زالت تروى فى إسبانيا ـ حتى الآن ـ عن بريمو دى ريفيرا ودكتاتوريته ، كان فى الأوبرا ذات ليلة يحضر عرضاً من عروضها وأخرج من جيبه سيجاراً ضخماً وأشعله وراح يُدخن ، وأقبل أحد ضباط حرسه مسرعاً يلفت نظره أن التدخين ممنوع فى الأوبرا ، وسأله رئيس الوزراء "من الذى قال ذلك ؟ " وقال ضابط الحرس : "القواعد يا سيدى .. أتلاحظ أحداً بين الجمهور كله يدخن ؟ " ، وفجأة إذ برئيس الوزراء يهم واقفاً فى مقصورته ويصيح بأعلى صوته موجهاً حديثه إلى كل جمهور الحاضرين فى المسرح قائلاً : " أيها السادة .. التدخين مسموح به الليلة فى الأوبرا " ثم جلس ! . ((( سبحان الله إذا كانت هذه ديكتاتوريه يا أستاذ هيكل فماذا نسمى ما يحدث فى بلادنا ؟!!!! ))) ...

(2)  

ولم يكن إهتمام بريمو دى ريفيرا بمشروعات الطرق كافياً لمواجهة مشاكل إسبانيا فى مطلع الثلاثينيات ، وأحس الديكتاتور أنه فى حاجة إلى تفويض جديد على الطريقه الإسبانية ، فبعث إلى قادة المناطق العسكرية فى إسبانيا يطلب منهم تلغرافات تأييد ويقول لهم إنه سوف يستقيل إذا لم تصله فى ظرف أربع وعشرين ساعة ، وأحس قادة المناطق العسكرية أن بريمو دى ريفيرا فقد شعبيته وأن الملك ألفونسو لم يعد يخشاه أو يحسب حسابه ، ولم تصله تلغرافاتهم فى الموعد المضروب فقدم إستقالته (((!!!))) للملك الذى قبلها وأراد أن يلعب دور المدافع عن الديمقراطية ، لكن الوقت كان متأخراً وكانت إسبانيا فى حالة فوران تبحث عن بديل ودعا الملك إلى إنتخابات عامة وتألفت عصبة " الدفاع عن الجمهورية " وأصدرت بياناً توجته بعبارة أصبحت شهيرة فى تاريخ إسبانيا الحديث : " أيها الإسبان لم تعد لكم دولة  .. "  ثم تشكل تجمع من شباب الضباط أصدروا بدورهم إعلاناً إستهلوه بقولهم " عندما طلبنا العدل أخذوا منا الحرية ، وعندما طلبنا الحرية كان كل ما حصلنا عليه هو سيرك برلمانى هزيل ! ". ((( طبعاً العدل والحرية التى يتحدث بها شباب الضباط الأسبان لا يمت بصله بحزب الحرية والعدالة المصرى !!! ))) وجرت الإنتخابات والصيحة المرفوعة فى معمعانها : " إن الملك خان الدستور " ، وسقط أنصار الملكية ، وجاءت الأغلبية للجمهوريين وقامت المظاهرات تطالب ألفونسو الثالث عشر بالخروج من إسبانيا وتردد الملك ولكن إسبانيا كانت على شفا الإنفجار ، وآثر أن يحنى رأسه للعاصفة ويخرج ، وأعلن القصر الملكى يوم خروجه بياناً منه جاء فيه : " إن إنتخابات يوم الأحد الماضى أظهرت لى أننى لم أعد أتمتع بحب شعبى ، إننى أستطيع بسلطاتى الملكية أن أتدخل وأفرض سلطة العرش لكنى لن أفعل شيئاً يقود البلاد إلى حرب أهلية ، وهكذا فإنه حتى يتاح للأمة أن تتكلم وتسمعنى صوتها ، فإننى سوف أُجمد كل سلطاتى الملكية "  ... كانت السلطة الرسمية لتحالف القصر والإقطاعيين والكنيسة وكان هذا التحالف فقد إحساسه بحقائق العصر .. وظهرت قوة الطبقة العاملة فى المدن والريف تدفعها طاقات غضب جياش إلى حد الفوضى 

 

(3) 

 

 

وكانت كل القوى تحاول أن تأخذ الجيش جانبها ، فتركيب الجيش ذاته تغير فلم يعد الجيش كما كان حرس الملك ولا جند الإقطاع ولا خدم الكنيسه ، ولعل أخطر ما حدث ـ إلى جانب تمزق الجيش تبعاً لتمزق البلد ـ أن الجيش كمؤسسة فقد إحترامه لسلطة الدولة ، إن الجيش يريد أن يؤدى مهمته وراء دولة يشعر أنها أقوى منه ، وبما أن السلاح فى يده هو فإن الأوامر الصادرة إليه لابد وأن تكون من مصدر أكبر وأقوى من السلاح ، والمصدر الوحيد الأكبر والأقوى هو الشرعية ، وإلا فإذا أصبحت القضية قضية قوة السلاح فإن اليد التى تمسك به أولى بها أن تمسك بالسلطة دون حاجة إلى وسيط .

 

 

 

 

 

وفى مناخ الفوضى فإن بعض مشاكل القوميات ـ مثل الباسك ـ بدأت تتحول إلى دعوة إنفصال وإنسلاخ .

 

 

 

وفى الأسابيع التى تردد فيها ألفونسو الثالث عشر فى تجميد سلطاته شهدت إسبانيا حمئات الإغتيالات السياسية وعشرات الحرائق للكنائس وعشرات الإضرابات ووقف روبيليس رئيس الحزب الكاثوليكى الإسبانى فى الكورتيز ـ البرلمان ـ الإسبانى يقول لزملائه : " دعونا لا نخدع أنفسنا ، إن أى بلد يستطيع أن يعيش فى ظل نظام ملكى أو جمهورى ، فى ظل نظام برلمانى أو رئاسى ، فى ظل نظام شيوعى أو فاشستى ، لكن أى بلد لا يستطيع أن يعيش تحت الفوضى ، إننا اليوم نسير فى جنازة الديمقراطية "  .... إن النتيجة فى إسبانيا كانت حريقاً ألهبه الزعماء والخطباء والشعراء والعمال والفلاحون والجنرالات والجنود والرصاص والمدفع والطائرة . وعلى ضوء الحريق واللهب لمعت شخصيات وأعمال أضافت كلها إلى القصة وأخذت منها وهجاً لم ينطفىء مع الأيام . 

 

 (4) 

 

 

ظهرت شخصية مثل "الباسيونارا" ـ كانت بائعة سردين تبيعه على صينية من القش تتجول بها فى قرى الباسك تزوجت عامل مناجم شيوعى من الشمال وتأثرت بفكره وأثبتت أنها أعظم خطباء الثورة الإسبانية وأصبحت عضوة فى البرلمان . وظهر شاعر إسبانيا العظيم لوركا يغنى للثورة ثم إختفى ذات يوم فى غرناطه فلا يعثر له على أثر قتله وظهر الكاتب الأمريكى الكبير أرنست همنجواى بأكثر من قصة وظهر معه أندريه مالرو وآرثر كوستلر وأودن وسبندر . وظهر بيكاسو .... ثم كان التعبير النهائى عن الأمل وعن خيبة الأمل فى قول همنجواى بعد أن غادر إسبانيا عائداً إلى أمريكا : " إن وعداً بالحرية من دكتاتور هو شيك بلا رصيد .. ثم إن أملاً من حالم هو عملة مصابة بالتضخم " ... إنتهت الثورة الإسبانية وإنتهت الحرب الأهلية فى إسبانيا بأن إستولى الجنرال " فرانشسكو فرانكو " .. وليس هيئة أركان حرب الجيش الإسبانى على السلطة وزحف فصفى بقايا جيوب الثورة ، وأقام نفسه دكتاتورأ على إسبانيا وإرتبط بصداقة ود مع هتلر وموسيلينى ثم غير تحالفاته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأصبح أمريكياً أكثر من الأمريكيين .

 

 

(5) 

 

 

 

 

.... ثم هذه الأحزاب الكثيرة وساستها المتصارعون الذين لا عمل لهم إلا الكلام والشد والحذب فى الكورتيز ...  هل يستطيع الكلام وحده والمشادات وحدها أن تحل مشاكل إسبانيا ؟ وفى فبراير 1981 بعد خمس سنوات من تجربة الديمقراطية وقعت الواقعة .. كان الكورتيز ـ البرلمان ـ يصوت على الثقة بوزارة كالفو ستيللو وإذا بقوة عسكرية تقتحم القاعة وتقبض على كل النواب والوزراء رهائن ، ثم يعلن قائد القوة وهو ضابط مشهور من أيام فرانكو اسمه الكولونيل أنطونيو تاخيرو أن الجيش استولى على السلطة وأن نواب الشعب ووزرائه رهن الإعتقال فى قاعة اجتماعات المجلس حتى يتلقى أوامر أخرى .

ثم إتضح أن محاولة الإنقلاب أوسع ، فورائها اثنان من كبار الجنرالات فى الجيش أولهما الجنرال ميلانس دل بوش القائد العسكرى لمنطقة فالنيسيا والثانى وموقعه أخطر هو الجنرال ألفونسو أرمادا نائب رئيس هيئة أركان الحرب والمساعد العسكرى الشخصى للملك خوان كارلوس وإذاً فهناك شك قائم فى أن يكون الملك نفسه هو الموحى بالإنقلاب ليعود بالأمور إلى ما كانت عليه أيام فرانكو !!

 

 

ولقد كان الأمر الأدعى للإثارة فى محاولة الإنقلاب هو أن جلسة التصويت على  الثقة بالوزارة كانت مذاعة بالراديو على الهواء ، وبالتالى فإن إسبانيا كلها سمعت فى نفس الوقت بما جرى ، بل وسمعت صوت أحد نواب اليمين من أنصار فرانكو القدامى يصيح بالضابط الذى إقتحم قاعة الكورتيز قائلاً له " اقتل كل هؤلاء الشيوعيين الحمر يا تاخيرو " ! .

وعندما وصل النداء على نواب الكورتيز بالإسم إلى حرف النون أحس الملك ـ كما أحس ملايين غيره ـ بالهرج والمرج وصياح الذعر مختلطاً بصوت الأوامر ، ثم سمع بيان الكولونيل تاخيرو يعلن استيلاء الجيش على السلطة ...   وفشلت محاولة الإنقلاب تلك  ...  

نقلاً عن كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل " زيارة جديدة للتاريخ " 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !