بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
"لقاء السحاب" تعبير صكه الإعلام لوصف لقاءات ذات طبيعة استثنائية، وهناك قائمة من اللقاءات التي وصفت بهذا الوصف: رياضية وفنية وسياسية و.. ..غير أن لقاء من هذا النوع حدث مؤخرا ومر بهدوء دون ضجة تذكر رغم دلالاته الكبيرة. اللقاء كانت مدته نصف ساعة لا أكثر، وكان مكانه حاضرة الفاتيكان: المؤسسة الدينية المسيحية الأهم في العالم. أما طرفاه فهما البابا بيندكتوس السادس عشر بابا الفاتيكان زعيم الكاثوليك في العالم، والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، وهو رئيس أكبر دولة أرثوذكسية في العالم، فضلا عن أنها كانت، لسبعة عقود، قاعدة أكبر كيان سياسي في العالم الحديث، قام على الفصل التام بين الدين والشأن العام كله، السياسي والثقافي والاجتماعي.
ولا يعد هذا اللقاء الذي جمع بين الرئيس الروسي ورئيس الكنيسة الكاثوليكية الأول من نوعه، إذ سبق أن التقى رئيس الوزراء الروسي الحالي فلاديمير بوتين مع بابا الفاتيكان في مارس عام 2007 عندما كان يشغل منصب رئيس روسيا. وقد أسفرت زيارة ميدفيديف عن إقامة علاقات دبلوماسية "كاملة" مع الفاتيكان عبر رفع مستوى التمثيل الروسي إلى درجة سفارة بعد ظلت الفاتيكان بالنسبة للكرملين "السوفيتي" ثمرة محرمة، ما يجعل الاعتراف بها انقلابا، ومنذ العام 1990، تتبادل الدولتان ممثلين لهما لكن ليس بدرجة سفير.
والاعتراف المتبادل بين موسكو والفاتيكان كان بداية صفحة جديدة في العلاقات الدولية بعد أن ساهم الفاتيكان بدور تاريخي في تقويض الاتحاد السوفيتي. كما أنها تأتي في ظل حضور دولي متصاعد للقضايا الدينية في العلاقات الدولية، ويعد التقرير السنوي للحرية الدينية الذي تصدره الولايات المتحدة لحالة الحريات الدينية في العالم، والسجالات حول الحاجة لتوافق دولي حول التعارض بين حرية التعبير والاحترام الواجب للمقدسات الدينية، مؤشرات على مناخ جديد وأجندة جديدة حول الدين والعلاقات الدولية.
وعلى صعيد متصل يأتي "لقاء السحاب" في ظل وسعي روسي للانفتاح على العالم الإسلامي وصل إلى محاولة الحصول على صفة مراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي. الرئيس الروسي ميدفيديف رض الإدلاء بأي تعليق حول العلاقات بين الكرسي الرسولي وبطريرك موسكو. وقال: "بإمكان آبائنا المقدسين إجراء هذا الحوار من جانبهم، إنها مسالة منفصلة". وتعبير "آبائنا المقدسين" عندما يرد في تصريح رسمي على لسان حاكم موسكو فإن التاريخ الروسي يكون قد عاد – ولو جزئيا – إلى ما قبل 1917.
وفي تحول آخر زال الجدار الفاصل – عمليا – بين ما هو ديني وما سياسي في بادرة هي الأولى من نوعها، ففي جلسة اللقاء القصيرة – حسب مصدر فاتيكاني – تحدث الجانبان عن "الوضع الاقتصادي والسياسي الدولي – على ضوء الرسالة العامة "المحبة في الحقيقة" التي أهدى البابا نسخة عنها بالروسية للرئيس، وعن التحديات التي تواجه حالياً عملية الأمن والسلام". وكذلك نوقشت "مسائل ثقافية واجتماعية" منها العائلة وإسهام الإيمان في المجتمع الروسي.
وكانت العلاقات بين الفاتيكان والكنيسة الأرثوذكسية الروسية قد توترت منذ سنوات بعدما اتهم بطريرك موسكو السابق الكاثوليك بالتبشير في روسيا. لكن منذ تنصيب البطريرك الروسي كيريلس الذي كان لفترة طويلة على رأس الدبلوماسية لدى الكنيسة الأرثوذكسية، ترتسم رغبة في التقارب بين الطرفين، وفي إبريل 2009 اقترح الرئيس البيلوروسي الكسندر لوكاشينكو وساطته بين الفاتيكان والكنيسة الروسية، وقد ناقش الموضوع مع البابا بنيديكتوس السادس عشر.
وبدأت هذه الأزمة بانهيار الاتحاد السوفييتي عندما عادت الحريات الدينية لشعوب الجمهوريات السوفيتية، فهرول الدعاة والمبشرون المنتمون لجميع الديانات تقريبا نحو شعوب هذه الجمهوريات لكسب أتباع جدد لها وسط أكثر من 250 مليون مواطن سوفييتي كان معظمهم ملحدين. وكان الفاتيكان على رأس هذه الجهات فنشط بين مسيحيي روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وغالبيتهم يعتنقون المذهب بالأرثوذكسي الذي كان سائدا قبل الثورة البلشفية.
وشهد عام 2005 انعطافة رمزية مهمة في علاقات الكنيستين المتنافستين عندما احتفل الروس بإعادة أيقونة لها أهمية تاريخية استثنائية إلى الكنيسة الأرثوذكسية بموسكو، الأيقونة (أيقونة كازان)، وقد قرر البابا يوحنا بولس الثاني إعادتها لتبقى من عام 2004 في جناح بمتحف قبل أن تعود لمكانها الكنسي في احتفال ضخم بعودتها تم في "كاتدرائية الكرملين"!
وكانت هذه اللوحة تستخدم في أذكاء حماس الجنود الروس خلال المعارك العسكرية، على نحو ما حدث في حرب الروس ضد نابليون بونابارت عام 1812. ولم يدع يوحنا بولس الثاني للاحتفال رغم أنه صاحب المبادرة، وذلك بسبب العلاقات السيئة بين الفاتيكان وبطريركية موسكو، ودائما ما تمنى يوحنا زيارة روسيا، وهي أمنية رفضت الكنيسة الأرثوذكسية تحقيقها.
اللقاء الذي جمع نقيضين مذهبيين شهدت العلاقات بينهما دائما نزاعات متفاوتة الوتيرة، ورمزين لعاصمتين كانتا لعقود شارتين على رؤيتين للذات والكون وما وراء الكون، لم يكن من سبيل لأن يلتقيا. ومن المفارقات أن موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي كانت خصما للفاتيكان لأسباب عقائدية، فيما أدى زوال الاتحاد السوفيتي وعودة الدين إلى المجتمع الروسي بقوة، إلى تجدد الخصومة بين الفاتيكان وموسكو لأسباب مذهبية. بل إن التقارب بين العاصمتين جاء من نافذة السياسة بأسرع مما جاء من باب الدين.
واللقاء الذي جاء قصيرا في مدته، وجاء الاهتمام الإعلامي به رمزيا، يحمل دلالات عديدة مهمة دينية ومذهبية وسياسية، وهو لم يحظ من اهتمام الإعلاميين والمحللين بما يمكن أن يحظى به نبأ شغب قد يحدث عقب مباراة كرة قدم!!.
التعليقات (0)