منذ أن هبت رياح الحرية من سيدي بوزيد تلك البلدة الصغيره التي سجّلها محمد البوعزيزي بأحرف من نور في صفحات التاريخ الحديث، سنظل نذكرها طويلاً، ونسائم الحرية تهبّ على الشعوب المقهورة من بلد لآخر، كلها متشابهة بما تعانيه من ظلم وقهر واستبداد وفساد العائلات الحاكمة، سقط ابن علي وتبعه مبارك وتخطّت نسائم الحرية حدود سايكس بيكو الوهمية وأخترقت القلاع المحصنة بقوى الأمن والدبابات أكدت أن لا حدود للوطن العربي الكبير، لقد انتفضت الشعوب على أنظمة الاستبداد لتسترد حريتها وكرامتها ورغم بؤسها وفقرها لم نسمعها تردد شعار "أريد خبزاً"، فالكرامة أثمن من الحياة ذاتها لذلك يسقط الشهداء وتسيل الدماء، لم تستطيع الدول الكرتونية بكل جبروتها واستبدادها أن توقف المد البشري الباحث عن الانعتاق والخلاص، لقد اكتشف الشعب نفسه وذاق طعم الحرية ولم يعد يرهبه القتل وسقوط الشهداء.
عند الحديث عن الثورات الشعبية ضد الانظمة الدكتاتورية تقفز فلسطين دائماً الى الواجهة، وإن غابت نوعاً ما عن الهتافات والشعارات، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر بأن لها الأثر الفعّال في اندلاع الثورات وربما كانت أحد أهم أسباب نقمة الشعوب على حكامها إضافة لأسباب أخرى كثيرة، فالثورات والانتفاضات الفلسطينية المتتالية واستمرار جرائم الاحتلال الصهيوني في ظل تخاذل النظام الرسمي العربي عن نصرة الشعب الفلسطيني تركت لدى الأمة إحساساً بالذنب والعجز وألقت بظلال الشك والريبة على سياسات أنظمتها تجاه قضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وعرّت الأنظمة التي مارست لسنوات طويلة قمعها واستبدادها وإفقار شعوبها ونهب ثرواتها وتطويعها لتكون خادمة لأهداف الصهيوامريكي، لذلك الأصل في الثورات العربية انها اندلعت ليس لتبني أنظمة متقوقعه على ذاتها تهتم بالخبز والحاجاتها اليومية، ومعزولة عن محيطها بل لتبني أنظمة متحررة من التبعية للأجنبي وتهتم بشأن أمتها وتعمل على تصحح مسار بوصلتها ليتجه الى فلسطين، فما من حرية وكرامة لأمة وفلسطين تحت الإحتلال، ومن تابع تصريحات قادة الكيان الصهيوني يدرك تماماً بأنه يعي حقيقة أن الشعوب الحرة وليس الأنظمة هي التهديد الحقيقي لوجوده لأن مهمتها القادمة ستكون التخلص منه وهذا أيضاً يدركه الغرب لذلك يعمل على إجهاض الثورات العربية أو إلحاقها به.
وعند الحديث عن الثورات الشعبية لابد من الحديث عن الواقع الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني ثار على الظلم والاحتلال وسقط في طريق التحرير الاف الشهداء ومثلهم جرحى وأسرى وكان أولى الشعوب بالتأثر الفوري بالربيع العربي والثورة على المحتل وسلطته التي لا تقوده إلا الى الفشل والاوهام، لكنه وبفعل قيادات نصّبت نفسها عليه خدمة لذاتها ومشروع الاحتلال، شرذمت القضية الفلسطينية الى قضايا (القدس، المستوطنات، الضفه، غزه، حدود، لاجئين، المصالحة ...) وعملت على تفكيك المجتمع الفلسطيني ونشر الفساد وتحويله لمجرد أفراد مستهلكين يبحثون عن الراتب ولقمة الخبز وربطته بها مصلحياً لإخضاعه في تمرير مشروعها بالتنازل عن الجزء الأكبر من فلسطين والإعتراف رسمياً بالكيان الصهيوني كدولة قائمة وإلحاق الباقي به على شكل دولة مقزّمة بلا سيادة أو حدود وبالتالي القضاء على فلسطين بشكل نهائي.
ربما نجحت السلطة مؤقتاً واستطاعت من خلال إعلامها وفاسديها أن تحرف بوصلة الشعب الفلسطيني عن الهدف الحقيقي فغاب الوطن، وبدل أن يثور على الاحتلال وسلطته الوظيفية الفاسدة أصل المشكلة أصبح يعتقد بأن الفلسطيني المنتمي لغير فصيله هو المشكلة فترك السبب الحقيقي وأصبح يحاول معالجة النتيجة ، فلم يثور ضد هؤلاء الذين استباحوا كرامته وحولوه لجيش من المرتزقة بل تظاهر لأجل "انهاء الانقسام" بين الضفة وغزة وكأن الانقسام اذا انتهى ينتهى معه الاحتلال وكل مآسيه، ثم بدأنا نسمع تمثيلية استجابة "القادة" للحراك الشعبي الى ان تم الاتفاق على توقيع المصالحة بالأحرف الأولى في نيسان الماضي (وكأنها اتفاقية بين دولتين) معلناً إنهاء حالة الانقسام، ورغم أن اتفاق المصالحة أعطى سلطة رام الله الشرعية ودعم مسارها التفاوضي وسامحها على كل موبقاتها، لكنه لازال يراوح مكانه بدون أي تقدم يُذكر وعدنا نسمع الكثير من التصريحات التي كانت سائدة قبل "التوقيع" مما يعني أن الانقسام انتهى شكلياً لكن الأجواء المليئة بالغاز لازالت محتقنة وقابلة للانفجار بأي لحظة على أتفه تفصيل. ما من حلّ للشعب الفلسطيني إلا بالتخلص من السلطة وفصائلها والعودة الى العمل الحقيقي المخلص لتحرير كل فلسطين بأي طريقة وعلى رأسها الكفاح المسلح بعيداً عن أكاذيب السياسة التي تؤمن بقرارات ما يسمى "المجتمع الدولي ومنظماته" لأن الإيمان بها يعني الاعتراف الصريح بحق الصهيوني المحتل بأرضنا ولا معنى آخر له، ولن نتردد بوصف من يقوم بذلك بالعمالة والخيانة والتآمر فرداً كان أو جماعة، فالعهر السياسي في فلسطين يمارسه الفرد والجماعات بإرادة حرّة أو للحصول على مكاسب على حساب الوطن.
من العار على شباب فلسطين أن يتقدمهم شباب الأمة برفع الحرية والكرامة وراية فلسطين والدعوة لتحريرها وهم يدافعون عن العملاء والخونة والتنسيق الأمني والتفاوض مع الصهيوني ويسمموا الأجواء لإفساد نسيم الحرية. لقد آن لهم يتركوا جانباً التغني بأمجاد الماضي ويثوروا على الاحتلال والظلم فلا حرية ولا كرامة ولا حياة إنسانية لهم بالسكوت على الاحتلال والتعايش معه ومع أذنابه ولا عذر لصمتهم واستكانتهم وهو يستبيحهم وينتهك حرماتهم ومقدساتهم.
التعليقات (0)