لحية!
قصة قصيرة
حمّادي بلخشين
كان صديقي الجزائري يودعني في مطار هوّاري بو مدين حين لفت نظرنا حشد من المسافرين قد اجتمع حول أحد المكاتب.. دفعنا الفضول للإنضمام الى الحشد الصارخ، خصوصا بعد أن كثر اللّغط و أرتفع الضجيج و كثرت التعليقات... حين وصلنا الي بؤرة التوتّر بدا لنا شيخ طويل اللحية، متين البنيان، وقور الهيئة، حادّ النظرات.. كان يضرب المكتب بقبضته، في حين ظلّ الموظف معتصما بهدوء و برودة دم لا يليقان أبدا بجزائريّ مثله!
همس لي صديقي :
ــ ذلك هو القائد ونيسي بوعلاّم..
ـــ...
ـــ أكبر و أهمّ مجاهد جزائريّ بقيّ على وجه الأرض.
وصلنا صوت الموظف الشاب و هو يقول بهدوء:
ـــ يا بابا الله يهديك.. قلت لك أحلق لحيتك إذا أردت الذهاب الى الحج!
صاح ونيسي بوعلاّم كما يليق بجزائري وقع إغضابه:
ــ كيف تقول لي" الله يهديك أحلق لحيتك"، هل يعني أن الله ليس هاديني ما دمت باللحية؟!
ــ يا بابا قلت لك لا بدّ أن تحلق لحيتك إذا حبّيت تمشي للحج!
خبط ونيسي بوعلام المكتب بيده الضخمة ثم صاح سائلا:
ـــ علاش أحلق لحيتي؟ هل نحن في الدنمارك وإلاّ في السّويد.
ـــ ...
ـــ ألسنا أمّة محمد؟
ردّ عليه الموظف بكل لطف:
ــ يا بابا، نحن لسنا في الدنمارك ولا في السويد، نحن في الجزائر، لكن المطلوب منك حلق لحيتك!
ــ ليش احلق لحيتي موش اللّحية سنة سيدنا المصطفى؟
ــ يا بابا سنة سيدنا المصطفى على الرأس و العين، لكن وزير الداخلية قال لا بد لحجّاج بيت الله أن يحلقوا لحاهم بداية من هذا العام!
ــ علاش؟ هل أخذ وزير الداخلية وكالة أمواس الحلاقة فأرد تجربتها في لحية و نيسي بوعلاّم؟!
دوّت عاصفة من الضحك بين الحضور.
ــ يا بابا ما تعطلناش، إما تروح تحلق لحيتك وإلا السّفر ممنوع.
ضرب ونيسي بو علام الأرض بعكازته ثم صاح معارضا:
ــ لكنني أريد الذهاب لبيت الله دون أن حلق لحيتي.
ــ يا بابا قلت لك ممنوع.
ـــ ممنوع أحج؟
ــ لا يا بابا، ممنوع أن تذهب باللحية!
ــ سا في دير(1) ممنوع أحجّ !.. ما دام أنا نحبّ نمشي نحج بلحيتي!
ــ يا بابا أنا أخبرتك و أنت حرّ، تمشي و إلاّ ما تمشيش!
التفت القايد ونيسي بوعلام الي الحضور الذين تكاثروا حوله ثم قال متعجبا:
ــ و الله يا جماعة هذه آخر الدنيا.
ـــ ...
ـــ الدولة تركت المواطنين بلا مياه صالحة للشرب وبلا إنارة وبلا أنابيب صرف صحّي و تجري وراء لحية ونيسي بو علاّم!
كثر اللغط و التعليقات في حين بدأ بقية الحجاج يتذمرون من التعطيل الذي أوهن بنيانهم، خصوصا و ان معظمهم قد بلغ من الكبر عتيّا .
لم يهتم ونيس بوعلام بمن كان حوله، بل ألتفت الي الموظف ثم سأله:
ــ بالله جاوبني، هل أن لحيتي تقـلقكم الي هذا الحدّ حتى تطالبونني بحلقها؟!
ابتسم الموظف ثم أجاب بهدوء :
ــ يا بابا الله يهديك، هذه تعليمات واضحة من سيادة وزير الداخلية.
ــ و هل أن تعليمات وزير الداخلية تقتضي باش يحلّق le commandant ونيسي بوعلاّم لحيتو؟
ــ لا يا بابا، القانون عام لكل الناس، القايد ونيسو بوعلام أوغيره.
أمسك القايد ونيسي بوعلام بلحيته البيضاء ثم صــاح في الموظف الشابّ :
ــ هل تعرف كم عمر هاته اللحية؟
ــ يا بابا الله يطوّل لنا في عمرك و في لحيتك، نحن مأمورون، و واجبنا تطبيق القانون .
قال القايد ونيسي بو علام غير آبه بما قاله الموظف الشاب:
ــ يا ولدي هاته اللحية عمرها ستين عاما!
ثم وهو يلتفت الي الحضور الذين ازداد عددهم:
ـــ La France و ما أدراك ما La France ما قدرتشي تحلق لحية الكومندان ونيسي بو علاّم
ـــ ...
ــــ لا الجنرال Jacque Massu ولا الجنرال Maurice Challe قدروا باش يحلقو لحية Le commandant ونيسي بو علاّم
ــــ ...
ـــ و اليوم يحبّ وزير داخلية كان يرضع أو كان يبيع في مؤخرته حين كنت أقود الرجال من جبل الى جبل ومن واد الى واد، باش يحلقها لي؟!
فجأة ظهر ضابط شاب كان يمشي كديك منفوش الريش:
صرخ في الموظف :
ــ ما هذا الصّراخ ... مالذي يحدث هنا؟
ــ حضرة الملازم، هذا المواطن يريد الحج بلحية.
نظر الضابط الي ونيسي بوعلام ثم صاح فيه:
ــ هل تريد ان نعمل قانونا خاصا بسيادتك؟
ردّ ونيسي بو علام بصيحة اشد منها:
ــ اعمل لروحك قانون نصراني، أما قانون" أعفوا اللّحى" فقد جاء به الوحي منذ 14 قرنا!
قال الضابط الشاب وهو يدفعه بقلة أدب:
ــ هيا روح... روح يا شيبة النحس، و إلاّ سأرميك في الحبس!
تضاعف غضب الكومندان و نيسي بوعلام، صاح في الضابط الشاب:
ــ كيف تقدر ترميني في الحبس و أنا Le commandant ونيسي
بو علام.
ـــ ...
ـــ روح إسأل عليّ باباك كان ما تعرفنيش!
صاح به الضابط وهو يجره من يده:
ـــ تعال شوف... سأرميك في الحبس و أرمي باباك.
أمام دهشة الجميع، و بسرعة لا تتوقع من شيخ في مثل سنه، أنحنى ونيسي بوعلام قليلا، ثــم أمسك برجلي الضابط، رفعه عاليا
ثم ضرب به الأرض!.. ما كاد الملازم المسكين يستقرّ على اليابسة حتى أستقبله الشيخ بقصفة عكاز وقعت بين لوحتي ظهره، شفعها بأخرى على فخذه، ثلّثها بأخرى على مؤخرته، كل ذلك و الشيخ يصيح بين كل ضربتين :
ــآنا باش نزور النبيّ ( ضربة)، و إلاّ ستار أكاديمي ( ضربة)، حتى أحلق لحيتي( ضربة)؟!
إنقسم الحضور بين ضاحك لكلام الشيخ، و متشف لما لقيه الضابط المتعجرف، وآسف لما يحدث من نزاع جزائري ـ جزائري. أمّا أنا فقد كان عليّ إدراك طائرتي قبل وصول الميلودراما الجزائرية الى نهايتها.
في مساء نفس اليوم، وحين كلمني صديقي الجزائري للإطمئنان على سلامتي، كان أول ما سألته عنه: الكومندان و نيسي بوعلام.
قال لي صديقي ضاحكا:
ــ كل ما غاب عنك، كانت بعض ضربات أخرى تلقاها الضابط قبل ان تحلّ قوات الأمن لتأخذ الشيخ الي إدارة المطار.
ـــ...
ـــ من حسن حظ الكومندان ونيسي بو علاّم أن مدير المطار كان يكن له محبة و تقديرا كبيرين فقد كان الأخير نجل مجاهد جزائري عمل طويلا تحت إمرة الكومندان و نيسي بو علام!
ـــ ...
ـــ المهمّ في القضية، أن الكومندان ونيسي بوعلام قد سافر الى البقاع المقدسة وهو موفور الصحّة... و اللحية أيضا!
أوسلو 29/8/2009
التعليقات (0)