"العلماء ورثة الأنبياء"(1).
تلك حقيقة نبوية، ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غير أن هذه الحقيقة لاتنطبق على كل من يُلَقّبون بالعلماء، إذ فيهم "ورثة للأنبياء"، وفيهم "ورثة للشياطين والأبالسة".
إن "ورثة الأنبياء" هم أولئك الذين وقفوا إلى جانب الحق، لم تأخذهم في قوله والعمل به لومة لائم، وهم كثيرون في تاريخ أمتنا، سُجنوا وأوذوا في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، فصبروا على ما أوذوا حتى أتاهم النصر أو الشهادة، ومن أمثلتهم: الشيخ الشهيد عزالدين القسام في فلسطين، والشيخ السبعيني الصوام الشهيد فرحان السعدي في فلسطين أيضا، والشيخ ابن باديس في الجزائر، والشيخ المجاهد الشهيد عمر المختار في ليبيا الثورة، والمجاهد عبدالكريم الخطابي رحمه الله....وغيرهم كثيرون، منهم من قضى نحبه رحمه الله ومنهم من ينتظر حفظه الله. وكتب التراجم والطبقات حافلة بمواقف كثيرين منهم، وأُفرِدت لتلك المواقف مصنفات لعل منها الكتاب القيم للشيخ العراقي عبدالعزيز البدري رحمه الله: "الإسلام بين العلماء والحكام". ولعل ابن عساكر رحمه الله قصد مثل هؤلاء لما قال: "أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ، بلاه الله قبل موته بموت القلب"(2).
وإن "ورثة الشياطين" هم أولئك الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – في معرض ذكره للخوارج- أنهم "يتلون كتاب الله رطبا لايجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..."(3).
وهم أولئك الذين "مردوا على النفاق"، وألفوا الأكل على موائد الطغاة، فوقفوا إلى جانبهم ضد مصالح الأمة، يمدونهم بالفتاوي الجاهزة والأحكام المؤيدة، إنهم "علماء السوء" الذين (يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) (البقرة:78).
ومع تحرك أبناء الأمة في كثير من الدول العربية ضد القمع والإرهاب الذي يمارسه الحكام، برز النوعان من العلماء: ورثة الأنبياء الذين ناصروا الثوار الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن...وورثة الشياطين الذين "استنكروا" تلك الثورة.
لكن هناك بعضا ممن لايرتاحون إلى تحرك الإسلام ضد الطغيان، مجسدا في حركة "ورثة الأنبياء"، فبدأوا يشتمون ويلعنون العلماء –كل العلماء- دون أن يفرقوا بين عالم عامل، و"منافق عليم اللسان" (4)كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن أغرب ما وجدته مرة في صفحة من صفحات الفايسبوك أن أحدهم قال، في لازمة مألوفة تتكرر معاني عباراتها، وتذكرنا بوقاحة الاستئصال، عن العلماء:"هم أشبه بكهنة العصور الوسطى...دجاجلة اللاهوت يعبثون بالعقول وفق ثنائية المنع والتحريم (كذا)...وما يقابلها من ثواب وعقاب من خلال مرجعية أخروية مؤدلجة تعتمد على النهج الإقصائي القميء...أخذوا وكالات عن السماء يباشرون بمحضها مهنة تغييب العقول وتضليل العامة لفرض مزيد من السطوة والسيطرة باسم المقدس الذي يسبغونه على كل شيء، هم من أفسدوا الطغاة وأحلوا لهم الاستبداد بدعوى اتقاء الفتنة... هم من سوغ الظلم والقهر والاستبداد وقتل الإبداع بدعوى الدنيا سجن المؤمن، هم هنا وهناك حملة مباخر...عنصريون حتى الثمالة...مغيبون في ظلمات اللاهوت وعصور الحجاب العقلي"!!
بل إن أحد المثقفين قارن –بل ساوى- وعلى منهج "المثقفين السكارى"، بين السكير والعالم الذي يجعله "رجل دين" بل أحمق رفع عنه القلم! فقال: "أحب مجالسة رجل سكران أو رجل دين، فكلاهما له خيال جامح وممتع جدا، وكلاهما يضع شخصه الكريم في مركز العالم، وكلاهما يبكي من دون سبب، وكلاهما قد يعض، وكلاهما رفع عنه القلم"!
غير أن صاحب هذا الكلام لم يذكر لنا هل مجالسته للرجل السكران تكون في جلسة خمرية مشتركة يقاسمه فيها معاقرة الراح، أم بدون تقاسم.
وقد يكون السكران مثقفا، إذ وجود السكارى في الوسط الثقافي أمر شائع. وصاحب الكلام، وهو مثقف معروف، أدرى مني بذلك. وما على مَن شك في هذه الحقيقة سوى سؤال أصحاب "الطاكسيات الصغيرة" ببلدنا، والذين "يرابطون" في كل ليلة أمام الحانات والخمارات. فسوف يقدمون له حقائق غريبة عن أولئك المثقفين السكارى الذين يأخذهم سائقو تلك "الطاكسيات" إلى منازلهم بعد أن أصبح مثقفونا السكارى يرون الديك حمارا، وربما العالِم سكيرا !
قد يقال: هذا أمر شخصي.
لكن لماذا يُشتَم علماء الأمة ولايقال أن ما قاموا به "أمور شخصية"؟
بل لماذا قياس العالم على السكران، وتجنب الكلام عن المثقف السكير، والمثقف العربيد، بل المثقف المماليء للسلطة والمؤتمر بأوامرها؟
ولماذا ينسى مثقفنا الكثير من المثقفين الذين أصبحت الرائحة النتنة لممالأتهم للقذافي ، ومن زمان، تفوح الآن، وقد كانوا يملأون حساباتهم بدولارات قذافية، في وقت كان نظام مجنون ليبيا يذبح العلماء: الشيخ محمد البشتي الذي قتل في غابة بطريقة بشعة ولا زال قبره غير معروف، والشيخ عمرو النامي الذي قتل، وهو الذي أسلم على يديه الآلاف في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والشيخ المبروك المدهون الذي قطع جسده إربا إربا وأُلقي به في القمامة، والشيخ الطمزيني، والشيخ محمد حفاف...وغيرهم رحمهم الله؟
لماذا ينسى مثقفنا كل هذا، ويتم تمييع المعركة بالهجوم على علماء الأمة المساندين للثورة، مع أن حذاء عالم مجاهد أشرف آلاف المرات من حاكم عميل ماسوني متصهين، يقتل شعبه دون أن يميز بين شيخ كبير وامرأة ورضيع... ؟
ووالله لو قعد العالم عن مساندة الثورة لقيل: انظروا العلماء كيف ينومون الشعب ويمارسون تخديره "بمهامهم الانبطاحية للشعب باسم الدين"(5)!
ولو ناصرها لقيل: إنهم يريدون "الركوب" على الثورة واستغلالها!
ولو اشتغلوا بالسياسة لقيل: "توظيف للدين في السياسة"! ولو تركوها لقيل: "انزواء عن قضايا الأمة"!
ويحدث للإسلاميين مايحدث للعلماء حذو القذة بالقذة: فلو ابتعد الإسلاميون عن المشاركة في الثورة، لسلقتهم بأقذع النعوت ألسنة استئصالية حداد أشحة على الخير! ولو شاركوا فيها لقيل: إنهم يمتطون متنها لقطف ثمراتها!
هكذا هو منهج مثل هؤلاء: يواجهون دين الأمة وعلماءها ودعاتها بالقضية ونقيضها كما قال الأستاذ منير شفيق حفظه الله. مما يشي بأن المطلوب رأس الإسلام ، أساس المقاومة الداخلية لدى المسلمين.
فياهؤلاء: حددوا موقفكم الصريح من دين الأمة، فإن الرقص على الحبال لايجيده إلا الحواة. وكم أفسد الثقافة حواتها!
__________
1-أخرجه الترمذي في العلم، باب ماجاء في فضل الفقه على العبادة، حديث 2682، وصححه الألباني، وأخرجه أبوداود في العلم أيضا، باب الحث على طلب العلم ، حديث 3641، وصححه الألباني أيضا. وذكره البخاري رحمه الله معلقا في العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
2-من مقدمة كتابه "تبيين كذب المفتري".
3- أخرجه البخاري في مواضع من كتابه، ومنها كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، حديث 4351.
4-" إن أخوف ما أخاف على أمتي، كل منافق عليم اللسان " ذكره السيوطي في "صحيح الجامع الصغير" برقم: 1554. وقال الألباني رحمه الله: صحيح .
5-هذا من تعليق لـِ"فايسبوكية" على كلام من قال، واسمه سامح...:" هم أشبه بكهنة العصور الوسطى..." السابق، والتعليق كالتالي: "صدقت أستاذ سامح في وصفك لهم، وفي تجريد مهامهم الانبطاحية للشعب باسم الدين"!
التعليقات (0)