في مجموعة " القطار لا يصل إلى البحر "للأديبة " منار حسن فتح الباب "
بقلم : حسن غريب أحمد
بقلم : حسن غريب أحمد
" القطار لا يصل إلى البحر " مجموعة قصصية جديدة للأديبة منار حسن فتح الباب " .. وهي مجموعتها الثانية . وكانت قد أصدرت قبلها مجموعة " لعبة الشبه " في عام 1993 م عن سلسلة إشراقات أدبية أما هذه المجموعة القصصية الأخيرة فقد صدرت في عام 2000 م ، أي بعد سبع سنوات من صدور مجموعتها الأولى صدرت المجموعة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسة كتابات جديدة وهي ذات المجموعة الفائزة بجائزة الدولة للإبداع عن المجلس الأعلى للثقافة ومجموعة " القطار لا يصل إلى البحر " تتضمن ستة عشر قصة قصيرة وهي : - "رائحة الأشجار" و "غبار" و "النفق" و "شبح القمر" و "الموكب" و "قصر البارون" و "ثقوب الحروف" و "القطار لا يصل إلى البحر" و "المحطة" و "الطبول" و "أجنحة الشاطئ المهجور" و "مطاردة" و "البائع" و "دخان بلا رماد" و "النوافذ" و "حصار". عناصر التوحد والتجانس في القصةيسيطر الماضي والحاضر على روح القصص فهذا القطار الذي أشرق في الماضي لم يعد له وجود مع البحر إلا في الذاكرة الذي يؤرخ لغيابه التدريجي بنسيان الرسوم والأشياء والأحداث ليجسد الجانب المأساوي في الموج الذي يعلو كالحريق . الأدبية "منار فتح الباب" في قصصها لا تضع المساحيق على وجه الحياة ، حتى لو كانت الحياة مؤلمة فالآلام هي التي تربط بين البشر ، ولقد أحببت مجموعتها القصصية "القطار لا يصل إلى البحر" لأن فيها آلام ممتعة ، وجمال البحر الأزرق ورائحة الطحالب وشقاوة غضة ودموعاً عذبة ، كل كوائنها تطلب المؤانسة وكل سماواتها تهفو إلى نجم ، وأشجارها وشوارعها ونفقها الضيق ، تحن إلى تغريدة طير في لحظة ميلاد فجر جديد .
مثلث التوحد والتجانسعناوين المجموعة مقسمة حسب نصوص القصص من كل عنوان يتكون من عدد من الموتيفات أو المقاطع أو الجزئيات أو المتواليات والتي تشكل في مجموعتها حالة موحدة ومتجانسة يؤدي بعضها إلى بعض . من السطر الأول في المجموعة القصصية "القطار لا يصل إلى البحر" تبرز لك "بشكل جلي" ملامح هذه المجموعة التي تطغى على معظم قصصها ، وهذه الملامح هي الإحساس بالبيئة.. فالبيئة التي حملتها القاصة "منار فتح الباب" أينما حلت وارتحلت تظهر في مدخل القصة الأولى في المجموعة "رائحة الأشجار" من خلال قولها: "ارتفعت ظلال رمادية ثلاثة ، فعلقت بين السماء والأرض ثم دهسها قمر لم يشاهد الناس مثله من قبل ، على حين تعالى ترتيل ونشيج وغمغمة تشبه الحفيف.. وظهرت جثة قطة تفوح منها رائحة أشجار على ناصية المنزل "وحين تنتهي من هذا المقطع السابح بحرارة المكان الطافي على ذاكرة بطلة القصة.. ، تراها تنقلك بقولها "تنام صباحاً وتمتلك الشوارع والليل بين حناياها ، فتظهر جميلة في حلم الأم داخل مركبة أسطورية لزفاف مستحيل يجرها فيل من اليمين وفرس من اليسار" فكأن هذه الأسطر القليلة ترسم بإيجاز وصدق الخطوط العريضة البارزة التي تنتظم المجموعة ، وكأن الراوية تمثل الكاتبة التي أوضحت على غلاف مجموعتها الأخيرة بنقلة سريعة توحي بالغربة السحيقة عبر بيئتها الفطرية وعن الطبيعة البكر بكل براءتها وعفويتها والتي يسربلها الحنين إلى عشق البحر البعيد مكاناً وروحاً عن إيقاع الحياة في تلك الأمكنة التي تغوص في حمى المادة ومظاهر الحضارة والمدنية الرائعة الذائقة الجافة. البيئة والتحول الاجتماعيهنا نحس بتصحر العواطف والأحاسيس العابسة ، ولعل العلاقات الإنسانية في تلك الأمكنة تكاد تكون معدومة فهي لا تنمو إلا من خلال المادة التي تسحق روح الإنسان . تلك العلاقة الحميمة بين عالم الحشرات وبطلة القصة التي لا يرى الإنسان ذلك إلا من خلال منظارها القاتم ، وهذا ما يتضح جلياً في قصة "المحطة" فصاحبة القصة تكره من يؤذي الحشرات وأن أصوات نعيب الغراب وهي تحوم في الفضاء المتوعك برحلة الليل وكأنها تدعو الكون أن يستيقظ ، يوحي له بمئذنة تنشق عن غسق الفجر أو عن أصيل راعش يتشبث بشجرة من أشجار تلك الحديقة المهيبة أو جزء من سور الثكنات العسكرية لمبنى "القيادة المشتركة" المجاور .
مئذنة يلتف حولها التاريخ وأجنحة الطيور وعبق الدهور والشموخ الذي لا يشيخ ... أليس هذا التاريخ تاريخ وطنها الضارب في الجذور في الأرض والحنين الغامر هو الحنين إلى الأم فتقول الأدبية "منار فتح الباب" في قصتها "المحطة" : "وظلت الحافلة طيلت حياة أمي سرابا .. غيثاً لا يهطل .. وتشققت يداها ، فانفلتت يداي عنها" ، أنه الحنين والشوق إلى الأم وإلى الأزهار التي هي رمز القيم السامية ورمز الطهر والبراءة !الإيغال في ارتياد الأمكنةإن أول ما يثير إعجابنا واهتمامنا في هذه المجموعة هو أسلوبها الفني ، الذي يوحي بسليقة لغوية ترتوي من تراث عريق نظراً لنشأة الكاتبة الشاعرية .. ولم لا ؟ فإن أباها الشاعر الكبير الدكتور / حسن فتح الباب ، الغني عن التعريف في ساحة الأدب العربي .. التحولات الحداثية المعاصرة
إلا أن هذه اللغة التي تلتفت إلى التراث تنغمس في الحاضر المعاصر بملامحه الحديثة وتحولاته . إنها لا تتلعثم أمام التفاصيل الواقعية ، مؤكدة في الوقت نفسه انتماءها إلى المدرسة التي كان "يحيى حقي" رائداً لها ، بل أن لمسات وعطر "تشيكوف" تتبدى هي الأخرى في هذه المجموعة . والأدبية تأكيداً لانتمائها إلى أسرة شاعرية عريقة نسبة لأبيها دكتور / حسن فتح الباب تهديه المجموعة قائلة: " إلى أمي وأبي مرة أخرى ... وأبداً وإلى نجلاء وهشام إخوتي ... وأسرتيهما إلى زوجي طارق .. بداية الحياة ومنتهاها في غد أتمنى أن يكون أجمل" . الحلم و الرؤية الثاقبةإنه سؤال أرادت أن تطرحه الكاتبة بهذا الإهداء الأسرى ... سؤال مطروح في محاولة أخرى متعثرة يظل معها السؤال !! لماذا تفقد الأحاسيس حياتها حين تبتذلها الكلمات ؟ وإذا كانت اللغة البليغة التي تستخدمها الكاتبة القاصة "منار فتح الباب" تؤازر بنيان القصة وتدعم أركانها ، فإن حسن المفارقة هو الآخر يعد من الملامح الجوهرية ، التي تضيء بعمقها طبقات التجربة الإنسانية ، التي كانت تتناولها وتركز عليها في قصة "ثقوب الحروف" وهي من وحي مدينة "وهران" بالجزائر الشقيق .. ولعل هذه القصة تظهر قسوة تلك المفارقات بين العائلة العربية وما يكتنفها من توادد وتراحم وعلاقات حميمة ، وبين العلاقات في العائلة الغربية التي تسودها المادة ولا تزن أمورها وعلاقاتها إلا بميزان المادة الطاغية . فالفتاة التي على علاقة عاطفية بالشاب العربي يريدها أن تتعلم اللغة الفرنسية وهي تؤكد له إنها تكره اللغة الفرنسية نجد هذه الفتاة تحمل تلك المشاعر الإنسانية الصادقة وحبها للغتها العربية التي ربيت عليها فيشفق الشاب على هذه الفتاة ويواسيها في وحدتها المفرنسة وأحزانها حين تقول للشاب : "حكيت لك يومها أني لا أدري إن كنت صغيرة وأني ثرثارة وكاذبة وأنني أكره اللغة الفرنسية وأنني لست أفهم كلمة "الوطن" تلك التي يرددها كثيراً.
وهذا ما تفضحه القصة ، من التفكك الأسري الفظيع الذي تتجرعه المجتمعات العربية التي دام الاحتلال الفرنسي بها من جراء الانجراف في تيار الآلة الصماء والمادة العمياء. المنحنى الإغترابي العلاقات الوشيجةوهي تؤكد بقصتها "ثقوب الحروف" هذه العلاقات الوشيجة والراوبط المقدسة التي رسخها الإسلام في نفوس البشر بين المرء ووالديه إذ قال عز من قائل "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً" . يؤكدها تمسك بطلة قصة "القطار لا يصل إلى البحر" والتي تحمل عنوان المجموعة القصصية - التي راحت تبحث وتغوص مفتشة عنها في كل ركن من أركان اللوحة.. وتقرأ تفاصيل الأشياء ودقائقها التي تشدها إلى ذلك البحر الذي أحتضن طفولتها بطحالبه القديمة وطوابير الرمال وقد ترسخت في ذاكرتها فتشم رائحة ليست عطراً ولا مسكاً ، إنها أعظم وأكرم لأنها رائحة الزمن الذي سافر ورحل ، زمن الطفولة البريء .. وحين ينقذها البحر من الغرق فتتشبث ضلوعه بضفائرها حين مالت على الصخور برأسها لتدرك ثقله .. إنها تشم رائحة ذكية ليس لها وصف ..
الماضى يكتسح الحاضرالقلب وحده الذي يهتدي إلى وصفها . رائحة لها جلال ينسكب في الروح فيدخلها خشوع يغمرها ضياء .. وحين تدخل القطار تقول ! "اليوم أعيش وحدي .. أفكر في ملل .. في عضلات سائق القطار وقد بدا هيكلاً خشبياً من خلف زجاج أزرق يلون البحر وبدت رأسه كنتوء طحالب شرس" تمتلئ القصة بالمفارقات والملاحظات الدقيقة حيث يتدفق مكتسحاً الحاضر ، ولكن الحاضر يعود ليتسلل من جديد فتختلط السنوات ، وتتقاطع الأفكار وتدفعنا المؤلفة إلى الابتسام الحزين ، ونحن نشفق على الراوية التي تنتظر قدوم القطار البعيد الذي يحجب أشعة الشمس الغاربة بآفاق المستقبل . مفارقات تدفق الماضى والحاضر ضمير الغائب الملاصق للبطلةإن الإحساس بالسخرية السوداء ، التي لا تصل إلى حد العدمية تسري في ثنايا هذه المجموعة الجميلة "القطار لا يصل إلى البحر" للكاتبة الفاضلة ، وهي تمثل إضافة إلى عالمها الإبداعي والفني ، وتضيء في وعينا لحظات نادرة من الجمال والألم والحلم والحب والصبر والوطنية والعروبة . لحظات التوهج الإبداعيالخطاب الكامن في اللغةإن القارئ لقصص "منار فتح الباب" سيجد أنها تثير العديد من وجهات النظر ، وتفجر العديد من القضايا فهي تمتلك قدراً وافرا على استبصار الواقع والتعبير عن عوالم لها تركبيها الخاص وعذاباتها وبهجاتها وبهاءاتها وطموحاتها للإمساك بذلك العالم الغائب الحاضر ، فاستطاعت أن تأخذنا في مساربها الخفية إلى معنى كلي ، وفلسفة شاملة ، وشعور مطلق ، وحلم كبير .ازدواجية السرد
إننا نرى أن هذه الكاتبة نجحت في إضافة شيء لهذا الفن الأدبي المراوغ سواء في البناء المتميز أو في الجانب اللغوي ، فهي لا تتبع سياقاً زمنياً منتظماً ، وأسلوبها لا يعمد إلى السرد المباشر بل إلى ازدواجية السرد . لهذا استطاعت أن تفرض علينا لغتين مختلفتين ، وهاتان اللغتان تدلان على حقيقيتين ، وتصلان الإنسان بعالمين مختلفين : -
أولا : عالم الواقع ثانياً : عالم الخيالوربما يجد القارئ نفسه في نفس القارب الذي يطفو على سطح البحر ثم يسير على قضبان السكة الحديد .. سواء بسواء مع شخوص القصص و كأنه واحد منهم ، ورد فعله بالضرورة سيحدد وصول القارب إلى شاطئ البحر .طابع الشخصية في الأدبإن الأدبية الفاضلة "منار فتح الباب" تمتاز بالتوتر.. والتوتر هو قوام شخصية المرأة فالشخصية تعيش توتراً هو مزيج من الفرح والبكاء ، ومن الألم والأمل ، ومن الحب والكره . التوتر إذن لدى "منار فتح الباب" هو طابع الشخصية الوجودية ، والطابع الذي يجب أن تكون عليه الشخصية في الأدب والفن قمة في التناسق بين اللفظ والنسق والإيقاع في رسم الجو واكتمال التعبير ، إيقاعات وئيدة ، رقيقة الشجن ، شفيفة الأنين . وبعد ... ماذا يمكننا أن نضيف ؟ دائرة التوتر الوجوديعالم الكاتبة الجدلى المثير
إن مجموعة "القطار لا يصل إلى البحر" على درجة عالية من الكثافة في الجمل والمعاني والكلمات ودلالتها وهذه رؤية جديدة ، وتجربة فنية غنية وممتعة للأديبة "منار فتح الباب" كاتبة مقتدرة أثمرت موهبتها هذا التجلى الخصب دون تقليد أو تزييف أو محاكاة لهذه المجموعة القصصية المتميزة التي كشفت عن عالم مثير وغني وهو ما يعد بالكثير من الإضافة والتميز.
مثلث التوحد والتجانسعناوين المجموعة مقسمة حسب نصوص القصص من كل عنوان يتكون من عدد من الموتيفات أو المقاطع أو الجزئيات أو المتواليات والتي تشكل في مجموعتها حالة موحدة ومتجانسة يؤدي بعضها إلى بعض . من السطر الأول في المجموعة القصصية "القطار لا يصل إلى البحر" تبرز لك "بشكل جلي" ملامح هذه المجموعة التي تطغى على معظم قصصها ، وهذه الملامح هي الإحساس بالبيئة.. فالبيئة التي حملتها القاصة "منار فتح الباب" أينما حلت وارتحلت تظهر في مدخل القصة الأولى في المجموعة "رائحة الأشجار" من خلال قولها: "ارتفعت ظلال رمادية ثلاثة ، فعلقت بين السماء والأرض ثم دهسها قمر لم يشاهد الناس مثله من قبل ، على حين تعالى ترتيل ونشيج وغمغمة تشبه الحفيف.. وظهرت جثة قطة تفوح منها رائحة أشجار على ناصية المنزل "وحين تنتهي من هذا المقطع السابح بحرارة المكان الطافي على ذاكرة بطلة القصة.. ، تراها تنقلك بقولها "تنام صباحاً وتمتلك الشوارع والليل بين حناياها ، فتظهر جميلة في حلم الأم داخل مركبة أسطورية لزفاف مستحيل يجرها فيل من اليمين وفرس من اليسار" فكأن هذه الأسطر القليلة ترسم بإيجاز وصدق الخطوط العريضة البارزة التي تنتظم المجموعة ، وكأن الراوية تمثل الكاتبة التي أوضحت على غلاف مجموعتها الأخيرة بنقلة سريعة توحي بالغربة السحيقة عبر بيئتها الفطرية وعن الطبيعة البكر بكل براءتها وعفويتها والتي يسربلها الحنين إلى عشق البحر البعيد مكاناً وروحاً عن إيقاع الحياة في تلك الأمكنة التي تغوص في حمى المادة ومظاهر الحضارة والمدنية الرائعة الذائقة الجافة. البيئة والتحول الاجتماعيهنا نحس بتصحر العواطف والأحاسيس العابسة ، ولعل العلاقات الإنسانية في تلك الأمكنة تكاد تكون معدومة فهي لا تنمو إلا من خلال المادة التي تسحق روح الإنسان . تلك العلاقة الحميمة بين عالم الحشرات وبطلة القصة التي لا يرى الإنسان ذلك إلا من خلال منظارها القاتم ، وهذا ما يتضح جلياً في قصة "المحطة" فصاحبة القصة تكره من يؤذي الحشرات وأن أصوات نعيب الغراب وهي تحوم في الفضاء المتوعك برحلة الليل وكأنها تدعو الكون أن يستيقظ ، يوحي له بمئذنة تنشق عن غسق الفجر أو عن أصيل راعش يتشبث بشجرة من أشجار تلك الحديقة المهيبة أو جزء من سور الثكنات العسكرية لمبنى "القيادة المشتركة" المجاور .
مئذنة يلتف حولها التاريخ وأجنحة الطيور وعبق الدهور والشموخ الذي لا يشيخ ... أليس هذا التاريخ تاريخ وطنها الضارب في الجذور في الأرض والحنين الغامر هو الحنين إلى الأم فتقول الأدبية "منار فتح الباب" في قصتها "المحطة" : "وظلت الحافلة طيلت حياة أمي سرابا .. غيثاً لا يهطل .. وتشققت يداها ، فانفلتت يداي عنها" ، أنه الحنين والشوق إلى الأم وإلى الأزهار التي هي رمز القيم السامية ورمز الطهر والبراءة !الإيغال في ارتياد الأمكنةإن أول ما يثير إعجابنا واهتمامنا في هذه المجموعة هو أسلوبها الفني ، الذي يوحي بسليقة لغوية ترتوي من تراث عريق نظراً لنشأة الكاتبة الشاعرية .. ولم لا ؟ فإن أباها الشاعر الكبير الدكتور / حسن فتح الباب ، الغني عن التعريف في ساحة الأدب العربي .. التحولات الحداثية المعاصرة
إلا أن هذه اللغة التي تلتفت إلى التراث تنغمس في الحاضر المعاصر بملامحه الحديثة وتحولاته . إنها لا تتلعثم أمام التفاصيل الواقعية ، مؤكدة في الوقت نفسه انتماءها إلى المدرسة التي كان "يحيى حقي" رائداً لها ، بل أن لمسات وعطر "تشيكوف" تتبدى هي الأخرى في هذه المجموعة . والأدبية تأكيداً لانتمائها إلى أسرة شاعرية عريقة نسبة لأبيها دكتور / حسن فتح الباب تهديه المجموعة قائلة: " إلى أمي وأبي مرة أخرى ... وأبداً وإلى نجلاء وهشام إخوتي ... وأسرتيهما إلى زوجي طارق .. بداية الحياة ومنتهاها في غد أتمنى أن يكون أجمل" . الحلم و الرؤية الثاقبةإنه سؤال أرادت أن تطرحه الكاتبة بهذا الإهداء الأسرى ... سؤال مطروح في محاولة أخرى متعثرة يظل معها السؤال !! لماذا تفقد الأحاسيس حياتها حين تبتذلها الكلمات ؟ وإذا كانت اللغة البليغة التي تستخدمها الكاتبة القاصة "منار فتح الباب" تؤازر بنيان القصة وتدعم أركانها ، فإن حسن المفارقة هو الآخر يعد من الملامح الجوهرية ، التي تضيء بعمقها طبقات التجربة الإنسانية ، التي كانت تتناولها وتركز عليها في قصة "ثقوب الحروف" وهي من وحي مدينة "وهران" بالجزائر الشقيق .. ولعل هذه القصة تظهر قسوة تلك المفارقات بين العائلة العربية وما يكتنفها من توادد وتراحم وعلاقات حميمة ، وبين العلاقات في العائلة الغربية التي تسودها المادة ولا تزن أمورها وعلاقاتها إلا بميزان المادة الطاغية . فالفتاة التي على علاقة عاطفية بالشاب العربي يريدها أن تتعلم اللغة الفرنسية وهي تؤكد له إنها تكره اللغة الفرنسية نجد هذه الفتاة تحمل تلك المشاعر الإنسانية الصادقة وحبها للغتها العربية التي ربيت عليها فيشفق الشاب على هذه الفتاة ويواسيها في وحدتها المفرنسة وأحزانها حين تقول للشاب : "حكيت لك يومها أني لا أدري إن كنت صغيرة وأني ثرثارة وكاذبة وأنني أكره اللغة الفرنسية وأنني لست أفهم كلمة "الوطن" تلك التي يرددها كثيراً.
وهذا ما تفضحه القصة ، من التفكك الأسري الفظيع الذي تتجرعه المجتمعات العربية التي دام الاحتلال الفرنسي بها من جراء الانجراف في تيار الآلة الصماء والمادة العمياء. المنحنى الإغترابي العلاقات الوشيجةوهي تؤكد بقصتها "ثقوب الحروف" هذه العلاقات الوشيجة والراوبط المقدسة التي رسخها الإسلام في نفوس البشر بين المرء ووالديه إذ قال عز من قائل "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً" . يؤكدها تمسك بطلة قصة "القطار لا يصل إلى البحر" والتي تحمل عنوان المجموعة القصصية - التي راحت تبحث وتغوص مفتشة عنها في كل ركن من أركان اللوحة.. وتقرأ تفاصيل الأشياء ودقائقها التي تشدها إلى ذلك البحر الذي أحتضن طفولتها بطحالبه القديمة وطوابير الرمال وقد ترسخت في ذاكرتها فتشم رائحة ليست عطراً ولا مسكاً ، إنها أعظم وأكرم لأنها رائحة الزمن الذي سافر ورحل ، زمن الطفولة البريء .. وحين ينقذها البحر من الغرق فتتشبث ضلوعه بضفائرها حين مالت على الصخور برأسها لتدرك ثقله .. إنها تشم رائحة ذكية ليس لها وصف ..
الماضى يكتسح الحاضرالقلب وحده الذي يهتدي إلى وصفها . رائحة لها جلال ينسكب في الروح فيدخلها خشوع يغمرها ضياء .. وحين تدخل القطار تقول ! "اليوم أعيش وحدي .. أفكر في ملل .. في عضلات سائق القطار وقد بدا هيكلاً خشبياً من خلف زجاج أزرق يلون البحر وبدت رأسه كنتوء طحالب شرس" تمتلئ القصة بالمفارقات والملاحظات الدقيقة حيث يتدفق مكتسحاً الحاضر ، ولكن الحاضر يعود ليتسلل من جديد فتختلط السنوات ، وتتقاطع الأفكار وتدفعنا المؤلفة إلى الابتسام الحزين ، ونحن نشفق على الراوية التي تنتظر قدوم القطار البعيد الذي يحجب أشعة الشمس الغاربة بآفاق المستقبل . مفارقات تدفق الماضى والحاضر ضمير الغائب الملاصق للبطلةإن الإحساس بالسخرية السوداء ، التي لا تصل إلى حد العدمية تسري في ثنايا هذه المجموعة الجميلة "القطار لا يصل إلى البحر" للكاتبة الفاضلة ، وهي تمثل إضافة إلى عالمها الإبداعي والفني ، وتضيء في وعينا لحظات نادرة من الجمال والألم والحلم والحب والصبر والوطنية والعروبة . لحظات التوهج الإبداعيالخطاب الكامن في اللغةإن القارئ لقصص "منار فتح الباب" سيجد أنها تثير العديد من وجهات النظر ، وتفجر العديد من القضايا فهي تمتلك قدراً وافرا على استبصار الواقع والتعبير عن عوالم لها تركبيها الخاص وعذاباتها وبهجاتها وبهاءاتها وطموحاتها للإمساك بذلك العالم الغائب الحاضر ، فاستطاعت أن تأخذنا في مساربها الخفية إلى معنى كلي ، وفلسفة شاملة ، وشعور مطلق ، وحلم كبير .ازدواجية السرد
إننا نرى أن هذه الكاتبة نجحت في إضافة شيء لهذا الفن الأدبي المراوغ سواء في البناء المتميز أو في الجانب اللغوي ، فهي لا تتبع سياقاً زمنياً منتظماً ، وأسلوبها لا يعمد إلى السرد المباشر بل إلى ازدواجية السرد . لهذا استطاعت أن تفرض علينا لغتين مختلفتين ، وهاتان اللغتان تدلان على حقيقيتين ، وتصلان الإنسان بعالمين مختلفين : -
أولا : عالم الواقع ثانياً : عالم الخيالوربما يجد القارئ نفسه في نفس القارب الذي يطفو على سطح البحر ثم يسير على قضبان السكة الحديد .. سواء بسواء مع شخوص القصص و كأنه واحد منهم ، ورد فعله بالضرورة سيحدد وصول القارب إلى شاطئ البحر .طابع الشخصية في الأدبإن الأدبية الفاضلة "منار فتح الباب" تمتاز بالتوتر.. والتوتر هو قوام شخصية المرأة فالشخصية تعيش توتراً هو مزيج من الفرح والبكاء ، ومن الألم والأمل ، ومن الحب والكره . التوتر إذن لدى "منار فتح الباب" هو طابع الشخصية الوجودية ، والطابع الذي يجب أن تكون عليه الشخصية في الأدب والفن قمة في التناسق بين اللفظ والنسق والإيقاع في رسم الجو واكتمال التعبير ، إيقاعات وئيدة ، رقيقة الشجن ، شفيفة الأنين . وبعد ... ماذا يمكننا أن نضيف ؟ دائرة التوتر الوجوديعالم الكاتبة الجدلى المثير
إن مجموعة "القطار لا يصل إلى البحر" على درجة عالية من الكثافة في الجمل والمعاني والكلمات ودلالتها وهذه رؤية جديدة ، وتجربة فنية غنية وممتعة للأديبة "منار فتح الباب" كاتبة مقتدرة أثمرت موهبتها هذا التجلى الخصب دون تقليد أو تزييف أو محاكاة لهذه المجموعة القصصية المتميزة التي كشفت عن عالم مثير وغني وهو ما يعد بالكثير من الإضافة والتميز.
التعليقات (0)