لحظات ما قبل السقوط
كمال غبريال
GMT 11:11:00 2011 الخميس 1 ديسمبر
تمخض الجبل فولد مسخاً مشوهاً، ولد وحشاً مرشحاً لأن يلتهم أبويه وأهله، وقد يحتاج الشعب المصري إلى ربع قرن من الصراع والمعاناة قبل أن يجد بداية الطريق الصحيح لتحقيق ما طالب به في ثورته من "خبز وحرية وعدالة اجتماعية". . هذه الصورة هي ما أسفرت عنه خطوة الشعب المصري الأولى نحو ديموقراطية صناديق الانتخاب التي دبرها للثورة مجلسنا العسكري، وما نتوقعه هو أن يتولى الظلاميون تلقين من انتخبوهم درساً لن ينسونه في حتمية العلمانية للخلاص من العبودية والتخلف والقهر، علاوة على أن الثورة لم تخمد أنفاسها بعد، ومازال شبابها في الميدان، يصارع الآن المجلس العسكري والظلاميين والفلول والبلطجية!!
هي بئس البداية لانتخابات برلمانية مصرية يشوبها عوار دستوري وقانوني، حيث شاركت فيها بصورة رسمية أحزاب تم تجاهل القانون والدستور عند الترخيص لها بممارسة النشاط السياسي، وقد تم الالتفاف على النصوص التي تمنع قيام أحزاب أو ممارسة نشاط سياسي على أسس دينية، تلك الأحزاب التي لم يوفر المؤسسون لها أي فرصة للمجاهرة بنواياهم وفكرهم المتخلف البشع، إلا فيما قدموه على سبيل التقية من أوراق تافهة للجنة أكثر تفاهة.
نستطيع القول أن خروج الجماهير عن بكرة أبيها كما يقولون لصناديق الانتخاب أشبه بتقليب تربة، ليظهر ما في باطنها، فتضربها الشمس حتى تتطهر من كل ما تحوي من حشرات وطفيليات، وأن الظلاميين سوف يظلون متفوقين على الجميع إلى أن يتعلم الناس قيمة الحرية، وحتمية بذل الجهد من أجلها، بذات قدر الجهد الذي يبذله الظلاميون من أجل الظلام، فلم يكن التزوير في عصر مبارك شراً مطلقاً، إذ كان أيضاً يدخل بعض الرتوش التجميلية على واقع شعبي قبيح، علاوة على محاصرة العناصر الخطرة في سجونه، أو في جحور لا يكادون يبارحونها، حتى وإن تكاثروا فيها وتوغلوا في سائر شرايين الوطن، لذلك فمن المتوقع أن يكون البرلمان القادم هو الأسوأ بجدارة منذ قيام انقلاب يوليو 1952.
لقد تعود الشعب المصري الاسترخاء في بركة الاطمئنان، اعتماداً على أن الحاكم هو وفق المقولة الشهيرة "بابا وماما وأنور وجدي"، فهو المسؤول عن الأكل والسكن وتزويج الشباب، وهو أيضاً الذي يتولى حماية البلاد من الإرهابيين وكل أطياف دعاة التخلف، ورغم أن فشل "الأب أو أنور وجدي" في سائر مهامه كان ذريعاً، إلا أن الناس ظلوا مُصِرِّين على عدم اختصاصهم بالأمر، وأنه وحده الملوم على تقصيره في تلبية "ما يطلبه المنطرحون"، حتى جاءت لهم ثورة الشباب بالمجلس العسكري، الذي أطلق الإرهابيين والظلاميين من كل شكل ولون، كأنما تمهيداً لتسليمهم البلاد، ربما عقاباً على إسقاط مبارك ورموز نظامه. . الآن للمرة الأولى يقف الجميع وجهاً لوجه أمام دهاقنة الجهالة والتخلف، وهذا في حد ذاته موقف رائع ومثير!!
نعم سوف يأتي البرلمان المصري القادم سيئاً من وجوه كثيرة، لكنه بالتأكيد سيكون معبراً عن الحالة المصرية بصورة عامة، وحتى لو وصلنا إلى حد التساؤل إن كان التكالب الجماهيري غير المسبوق على صناديق الانتخاب هو تكالب على عرس الديموقراطية أم على جنازتها، فإن الشعب لابد وسوف يتعلم من نتائجه كيف ننتخب الأفضل وليس الأسوأ!!. . لقد تحقق المكسب الأكبر الذي لا رجعة فيه ولا تراجع عنه تحت أية ظروف، حيث استيقظ الشعب المصري من تغييب ولامبالاة وخنوع دام قروناً، وهو الآن يترنح ويتخبط، لكنه أيضاً يفرك عينيه من رقاد الغيبوبة الطويل، ولن يلبث أن يتبين العالم من حوله، ويتعرف على الفارق بين النور والظلمة، وعلينا نحن الصارخين اللائمين له دوماً أن نصبر عليه لبعض الوقت، ونعطي الشعب فرصة لأن يتعرف على الحقيقة بنفسه، ويلمس حجم الكارثة التي يذهب إليها بإرادته الحرة.
إذا كان هناك من يسيء عن عمد استغلال بادرة رائعة من قادة الكنيسة لدفع الأقباط للساحة السياسية مع إخوانهم في الوطن، بأن قدموا للناخبين قوائم تعينهم على حسن الاختيار، خاصة في ظل حيرة عموم المصريين البسطاء حول من ينتخبون، وجهلهم شبه التام بشخصيات وميول المرشحين، فمن الطريف أن تنكر وتتبرأ هذه القيادات من أول عمل جيد تقوم به في المجال السياسي.
كثيرون من انبروا لمهاجمة هذا السعي من الكنيسة، رغم أن الأمر تم دون أن يصاحبه فتاوى تحريم وتحليل، ودون وعود بدخول "ملكوت السموات" (الجنة في الخطاب المسيحي) في حالة اتباعه، أو تهديد بدخول النار في حالة العصيان، كما لم يتم اختيار المرشحين بقائمة الكنيسة على أساس طائفي، فهي لم تشر عليهم بانتقاء أسماء المرشحين الأقباط مثلاً، بل يلوم عليها البعض أنها تجاهلتهم، متجهة لمساندة القادرين على المنافسة والوقوف في وجه قوى الظلام أياً كانت عقيدتهم الدينية أو انتمائهم السياسي، كما أن ما يترتب على الأخذ بهذه القائمة لن يكون تخندقاً طائفياً يقسم البلاد مثلاً وفق الانتماء الديني، بل بالعكس سوف يؤدي إلى انحياز الأقباط لممثلين من معسكر الاستنارة والمدنية، الذي يجمع كافة أصحاب المعتقدات الدينية وسائر ألوان الطيف السياسي المصري. . هؤلاء المستنكرين للأمر إذن إما لا يفهمونه على وجهه الصحيح، وإما لا يريدون أن يسمعوا للأقباط صوتاً أو يرون لهم وجوداً في هذا الوطن.
لا يعرف كثيرون أن توجيه الكنيسة للأقباط للتصويت في الانتخابات جاء من قبيل المثل "مُكْرَه أخاك لا بطل"، فالمسألة بالنسبة للشعب المصري عموماً وللأقباط خصوصاً صارت مسألة حياة أو موت، ولهذا بالتحديد وجدت الكنيسة نفسها تضرب العمود الفقري لخطابها الديني طوال عقود وربما قرون، حيث ظلوا يحقنون الأقباط بمقولات أنهم ليسوا من العالم، وأن لهم وطناً ثانياً في السماء، منتهجين تكتيك الانتقاء التعسفي لآيات من الكتاب المقدس، مقتطعينها من سياقها، ثم إعادة نظمها في أيديولوجية تهدف لسيطرة الكهنة والكنيسة على الإنسان، حتى ولو على حساب تخريب حياته ووجوده الوطني. . وها هم قد اعترفوا بمصر وطناً ينبغي أن يحرص عليه الجميع ويشاركون في تقرير مصيره، فإشارتهم لانتخاب مرشحين مسلمين فيه اعتراف ضمني بعدم انقسام المصريين إلى "أولاد الرب" (المسيحيون الأرثوذكس) و"أولاد العالم" (كل من هو غير مسيحي أرثوذكسي). . قد يبدو الأمر للبعض مضحكاً أو مبكياً، لكن هذا هو واقع ثقافتنا الأليم، الذي يجب أن نَجِدُّ في هدمه. . هو بداية الوداع للانغلاق وهيمنة الكهنوت على حياة الناس، وأن يأتي هذا بداية من الكنيسة الكهف الأزلي لقطاع ضخم من المصريين، لهو أمر جدير بالاستبشار بانحسار موجة التخندق الديني، وليس العكس كما يفهمه البعض!!
لكن ربما المشكلة في أن البعض يعتبر الأقباط وكنيستهم عورة، لا يصح أن يرتفع لهم صوت حتى لو كان صوت صراخ من الوجع، أو صوت مساند لقوى الحداثة والمحبة والتسامح. . فما حدث هو توجه علماني مدني من قادة الكنيسة، وليس توجهاً دينياً منغلقاً، وعلينا كعلمانيين أن نحييهم على هذه المبادرة، وأن نشجعهم على تناول أمور الوطن من منظور علماني، وليس من المنظور الديني المنكفئ على ذاته. . وهذا نفس ما حدث منا إزاء وثيقة الأزهر للمبادئ الدستورية، فاستقبلناها بترحاب شديد، ومازلنا نلح على الأخذ بما جاء بهذه الوثيقة الرائعة.
لاشك أن كثير من الرافضين لمجهود الكنيسة في إرشاد الناخبين ولإصدار الأزهر وثيقة دستورية، ينبع من حرص على الفكاك من سيطرة رجال الدين وسطوتهم، والتي هي العمود الفقري لأزمة شعوب الشرق الأوسط الآن، لكننا في الحقيقة يجب أن نفرق بين المبادئ المصمتة كالأصنام الخرساء، التي تتعامل مع الأمور كما لو تسجنها داخل صناديق التصنيف المغلقة، وبين ما تحتمه ضورة التعامل العلمي والبرجماتي مع حقائق الواقع، فنفحص ما بداخل صناديق التصنيف والقولبة، لنرى مثلاً ما بداخل صندوق مكتوب عليه "حرية الفكر"، فقد يكون ما بداخله معاد للسامية، أو فكر نازي أو فاشي أو بعثي، كما قد يكون بداخله فكر تنظيم القاعدة الكاره للعالم وللذات أيضاً. . علينا أن نسقط المثل القائل "كله عند العرب صابون"، لأن "هناك فرق بين صابونة وصابونة"!!
إذا كان أمامنا "فعل وفاعل"، فإن علينا أن ننحي "الفاعل" لبعض الوقت، ريثما نتأمل "الفعل" ونتفحصه، ثم نرتد على "الفاعل" بنتائج ما وجدناه إن كان بالسلب أو الإيجاب، وهذا النهج ليس فقط تكتيكاً براجماتياً، لكنه أيضاً منهج علمي يركز على الموضوع، ويجعل الذات في الدرجة الثانية، ولا أقول يستبعدها تماماً، فالذات أي "الفاعل" بالتأكيد على علاقة وطيدة بالموضوع أي "الفعل"، وليس من حسن الفطن أو الالتزام العلمي الصارم استبعادها تماماً. . وعلى هذا النحو ينبغي التعامل مع وثيقة الأزهر للمبادئ الدستورية وقائمة الكنيسة لمرشحي مجلس الشعب، فلنفحص "الفعل" أو الموضوع، ولنتأمل طبيعته ونستنتج تبعات تفعيله، لنرى إن كان علينا بعد ذلك أن نرتد على "الفاعل" باللوم أو بالتحية والتشجيع.
كلمة أخيرة أحب أن أعيد التأكيد عليها ونحن ننتظر باقي النتائج الكارثية للانتخابات النيابية الأولى (ونأمل ألا تكون الأخيرة) بعد ثورة الشباب المصري: سيصنع الظلاميون نعشهم بأيديهم إذا حاولوا إعادة الشعب المصري إلى جحور القهر والهيمنة، مهما كان ما يتلاعبون ويتاجرون به من شعارات، فالشعوب أبداً لا تموت، ولكن يموت ويندثر الطغاة والمخادعون والدجالون!!
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات (0)