وابتدا.. ابتدا المشوار |
5 |
|
أنهيت مشوار الثانوية العامة بمجموع ضعيف، لم يؤهلني لتحقيق أمل أمي بأن أصبح طبيباً فانتسبت لإحدى الجامعات الأهلية لدراسة هندسة الكمبيوتر.. ولكن كيف للحظ أن يبتسم؟!
لم أكمل ستة أشهر حتى زادت مصاعب أمي المادية، فتوقفت عن الدراسة الباهظة التكاليف.. وحان وقت الغوص في بحار المشقة للبحث عن لقمة العيش.. يبعد العمل عنا ثلاث سيئات: الضجر، الرزيلة، الحاجة "فولتير"!
قانون أبي: سندريلا لا.. سوبرمان نعم!
مع توقفي عن الدراسة قررت أن أغزو الحياة العملية حتى أشارك أمي وأختي حملهما الثقيل لارتفاع ثمن الهرمونات التي كان من المفترض أن أتناولها بدون انقطاع..
ولمعت الفكرة في رأسي حيث كان أبي رحمه الله يمتلك النوعين من أجهزة الفيديو: الأول لعرض الأشرطة من الحجم الكبير، وكان هو الشائع.. والثاني للأشرطة ذات الحجم الصغير.. وكانت العائلات التي تقتني الفيديو هي الأكثر حظّاً لغلاء ثمنه...
وإذا كان من الصعب وجود فيديو واحد في المنزل، فما بالك باثنين؟ وقد كان للفيديو قبل الفضائيات والصحون اللاقطة وزن في عالم الإلكترونيات الحديث، وقبل غزو النت لعالمنا.. تذكرت كم من مرة أصبت بالهلع عندما كان يأتي الوالد مباغتة إلى المنزل ويجدني جالساً أتابع شريط قصة سندريلا، فيبدأ في الصراخ بعد أن يمسك بي من أذني اليمنى وأنا أرتعش خوفاً:
- كل آمالك يا خنيث أن تصبح سندريلا؟! ألا تريد يوماً أن تكون سوبرمان؟ ألا تريد أن تصبح سندباد؟ ولم لا تحب الباتمان يا حبيب أمك؟! أأقتلك وأرتاح منك ومن عارك الأبدي؟
تأتي أمي مسرعة على صوته الهادر تحاول تهدئته: مالك يا أحمد؟ ولماذا تنسى أنه طفل، ولا داعي لأن يسمع هذا الكلام السيئ؟!
لم يكن أبداً ليهدأ.. أنظر إلى عينيه الباردتين مثل جليد، والحاقدتين على العالم , مرعوباً أنتظر انتهاء السيناريو المكرر، وأرتعش وأنا أعلم بأنه سيحرق وجهي بلطماته المتتابعة حتى يكل، وأنا أبكي بلا صوت وبلا دموع؛ لأنها محرمة على الرجال - كما كان يقول لي - وخوفاً من استفزازه أكثر وأكثر، وإعطائه المبرر لطحني تحت يديه الثقيلتين..
تنزعني أمي بعد كفاح من بين يديه وهي تصرخ: حرام عليك! من أين لك بكل تلك القسوة؟ ألا تدرك بأن حالته محنة واختبار لك من عند الله؟
يجلس أبي واضعاً رأسه بين يديه مردداً بصوت باكٍ:
- ولم اختصني أنا بهذه المحنة والاختبار القاسي الأليم؟ ألا يحق لي بعد طول الانتظار أن يكون لي ابن طبيعي؟ ابن أفاخر به الآخرين ولا أخجل من كونه معي.. ابن لا تلهبني النظرات والأسئلة إذا ما خرجت معه لأي مكان؟
لم أحب يوماً أبي.. كنت كثيراً ما أتمني أن يتركني أرحل؛ ليغمر روحي شعور بالدفء، وأنا بعيد عنه، فلا أعود أستمع لتعليقاته المحرجة كل يوم.
لم يحاول أن يتفهم حالتي أبداً.. أغلق أذنيه عن الاستماع لأمي بأنه من الضروري أن يتابعني طبيب حتى يعرف الخلل..
كيف كان للغرور أن ينحني، وللقسوة أن تلين، وللشموخ أن يسقط من عليائه؟!
كانت وصيته الدائمة لأمي أن تكون شديدة في التعامل معي؛ إذ هي السبب في إفسادي بتدليلها إياي! وبأنني لن أصبح رجلاً إلا إذا قست علي..
وكنت كلما رأيت أمي دامعة العينين أعجب لأمرها، وأبرر لها مشاعرها الدافئة التي كانت تحملها له، وهو الذي ما أحب عليها أخرى قط.
حتى أختي سحر حزنت عليه حزناً شديداً، وسامحتني لما كنت أحمله له من مشاعر البغض، وبررتها بقسوته علي..
أما الآن - ومع تقدمي في العمر، وإدراكي لأشياء كثيرة - فقد بدأت أهمس لنفسي "سامحه الله"
الوحل يخفي الياقوتة.. لكن لا يلطخها ...
انسالت كل تلك الذكريات فجأة، بعد أن قررت بأن يكون الفيديو مصدر دخل لنا، فتفتق ذهني لاستغلاله في مجال نسخ الأشرطة لمن أعرفهم من الطلاب أصدقائي الذين توطدت علاقتي بالكثير منهم أثناء انتظامي في المدرسة الثانوية.
كنت في البداية أنسخ أفلام الرعب والعنف والآكشن والخيال العلمي، حتى طلب مني أحدهم نسخ شريط قال إنه ثقافي.. ولم أفهم معنى كلمة ثقافي حتى رأيته! كان هذا الشريط الذي شاهدته كاملاً فيلماً جنسيّاً صارخاً، لا مواربة فيه ولا أقنعة! لكم صدمتني الآلية البشعة في تلك العلاقة التي من المفترض أن تكون حميمة وسرية للحفاظ على تألقها.
رفضت في البداية نسخه، ولكن السعر المرتفع الذي عرضه على جعلني أوافق، مع حاجتي الملحة للنقود لشراء الدواء.
ازداد عدد طلاب الشرائط (الثقافية) المستنسخة، وكان الزبائن الذين يطلبونها من كل الشرائح! وقد أصبح بيني وبينهم حالة نشطة من العرض، والطلب، والمصالح المتبادلة. كم أذهلني تهافت أولئكم على وضع الأقنعة، والتظاهر بالأدب والاحترام بين الناس، وهم غير ذلك.
ما علينا على رأي صديقي جهاد الذي زعق فيّ لما رأى في بعض التردد: وانت مالك؟ يا رب يولعوا بكاز، المهم المصاري، بدِّناش أدب ولا زفت.
أصبحت أفلام الجنس أهم الأشرطة عندي، واحتلت المرتبة الأولى في التداول والنسخ! كان الجميع يتهافتون عليها، لا فرق بين رجل وامرأة؛ فالخجل نثر خارج عتبتي، إذ اعتبرتني الفتيات واحدة منهن، واعتبرني الرجال منتمياً لعالمهم، فوجدت الجرأة من الطرفين. وكانوا يفاصلون في الثمن، رغم أن السعر الذي أطالب به أقل من نصف سعر السوق!
توطدت علاقتي بزبائني، واختفت علامات الاستهجان عند رؤيتي، وتحولت لنظرات إعجاب؛ رغم أنني كنت أشمئز من سلوكي هذا!
قال لي حبي الأول جهاد ذات يوم - وهو يتسلم مني شريطه المستنسخ -: أيوه يا عم الله ينور.. شغال نار.. انسخ واقبض.. وحوش على قلبك، واستطرد متسائلاً: ولك يا نداء: شو بيحصلك لما تشوف الشرايط الثقافية؟ بتحب تكون مع النسوان ولا الرجال؟ وشو اللي بعجبك فيهم؟ ما جربت تنام مع حدا؟ أعتقد انك تنفع للتنين.. النسوان والرجال!؟
كان عندما يجد نظرة الاستهجان تطل من عيني يضحك ضحكة عالية صافية، وعلى غرة يمسك بي، ويقرصني من ثديي، وينظر في عيني ويقول:
- والله أنت أحلى من ميت مره، ليش أنت خجلان هيك؟ ارمي البنت اللي جواك بالصرمه يا زلمه، دوق اللي عمرك ما تشبع منه.
آه من عينيك وشقاوتك يا جهاد.. وآه لو تشعر بي ولو مرة.. ولكنك تتعامل معي كأخيك الرجل الصغير!
اعتراني الخجل من أسئلته، واحمر وجهي وقلت:
- هل تصدقني؟
- طبعا وليش لأ ؟
- أنا لست مثلك، لا أفكر مثلك إلا في الجنس وبس.. هناك هموم كثيرة تحرقني غير هذا الهم.
- اطلع من هادول يا ساهي، بدك تفهمني انك حمار وما بتحس، يخرب بيتك إن شاالله.
- والله يا جهاد لو بدي ما في أسهل منها، فكم من مرات ومرات أمسكت نفسي، رافضاً العروض التي يوفرها لي بعض الذكور الأنذال لممارسة الشذوذ معهم، في مجتمعات تلبس قناع الفضيلة والدين، وكم من فتيات ونساء عرضن على أنفسهن دون فائدة، فلي هدف آخر هو عملية التحويل؛ على الأقل أكون بنت كاملة.. منشان هيك أنا بدي جسمي طاهر وعفيف.
مرة أخرى كركر جهاد بضحكة عالية معلقاً على كلامي: عفيفة؟ يادي المصيبة.. الواد عاوز يبقى عفيفة يا جدعان.. آه يا أهبل.. لو جربت أن تذيب جسدك في جسد إحداهن.. بصرك وهو يزوغ.. النار وهي تشتعل تدريجيّاً.. نعومة الحرير.. الحركة المتناغمة بينكما.. عناق واشتهاء في الليل تغطيكما عباءة الحب والجنس.. ثم جنونكما وهو ينثر في الهواء، وأفق بلا نهاية.. آل عفيفة آل! يا سيدي جرب قبل ما تعمل العملية وبعدها يحلها حلال.. بس ربك والحق يا مضروب أنت بدون عمليه تحل على مشنقه، يعني باختصار أنت فلقة قمر.
تبخرت كقطرة ماء انتظرت بصبر لحظات تبخرها حتى تعود للأرض في شكل غيمة من المطر، وتساءلت بيني وبين نفسي:
- إلى متى ستغلبني الفتاة التي أحب أن أكونها تتجول بحرية داخلي؟ وإلى متي سيبقي قلبي أسير هذا الجهاد؟ ما أسوأ أن يخفق قلبك لمن لا يشعر بك! كيف أثبت له بأنني بكر لم يمسسني بشر؟
تمنيت أن أبوح له بحبي، وأن أغوص في عينيه البحريتين الجميلتين، وأهمس له باحتراقي في أتون حبه، وأشرح كم تخيلت نفسي في أحضانه، وكم من مرات غبت عن الكون معه في الخيال، وأن أجهر بآلامي الخرساء التي لا ينوء بها سواي لتضيء مغارات نفسي السحيقة التي تعكس ظلمتها أوجاعاً تنسل وتحط ساكنة فوق قلبي، ولكن فجأة صحوت على صوته وهو يسأل: ماذا كان يريد منك أبو أسعد بالأمس؟
ضحكت للانتقال غير المنطقي في الحديث وقلت له: جاء للمساومة.. رجل عملي.. يريد أن يطبق ما يراه من أفلام شاذة، يرجو الوصال معي، فإن وافقت سيجعلني أعيش في بحبوحة ليوم الدين..
- مش فاهم.. شو قصدك ؟
- طلب مني أن أذهب معه إلى شقته الخاصة!!
- نعم.. شو بتقول!؟ وشو راح يعمل بيك أبو أسعد أكبر تاجر في بيت لحم.. صاحب الشركات الكثيرة.. المتدين الذي لا يفوت فرض في المسجد.. المتزوج من مره يشتهيها كل الرجال، لجمالها العبقري؟!
- روح اسأله.. ليش بتسألني أنا ؟
- واد يا نداء أنت تكذب.. ولاده ما شاء الله عليهم، وبعدين هو كيف بده يتعامل معك وأنت مش مبين عليك لا هيك ولا هيك، هذا المتخلف لو قال يا بنات.. ستين ألف واحدة تجري وراه منشان فلوسه! الراجل انجن!
- جهاد ما تنسي إني الوحيد الذي يستطيع أن يعرف كل واحد منكم على حقيقته، وبدون أن يخجل من الأقنعة الكاذبة التي يرتديها أمام الآخرين.. ثم لماذا أكذب عليك؟
هل بيني وبين أبي أسعد أي خصومة؟ على العكس.. هو عميل دائم وكريم ودائماً يعطيني أكثر مما أطلب. ثم لماذا لا تسأله ماذا يريد مني؛ فهو الأقدر على الإجابة؟
لست أدري لماذا قلت لجهاد ما حدث من أبي أسعد؟ ربما أردت أن أثير غيرته، وأن أكون شريراً مع أبي أسعد، وأنثر أسراره، عبر أفواه الكثيرين من الذين سيبلغهم جهاد بالحكاية، بعد أن أصابني القرف من طلبه، خاصة أنني جلست للمرة الألف أتساءل بيني وبين نفسي إن وافقت على طلب أحدهم: كيف سيتعامل معي؟ وبماذا سأشعر ؟ وكيف سأحصل على متعتي وأنا بين الرجل والمرأة؟
صور لي شيطاني أبا أسعد وهو ينظر إلى أعضائي المنكمشة، وكيف سيتحسس جسدي، وينبهر بصغر ثديي، وقد فتح عينيه عن آخرهما، وكأنه يحفر لتلك الصورة في ذاكرته؛ ليستدعيها كلما عن له أن يأتيني، هامساً:- استديري أيتها الجميلة.
تناول جهاد شريطه "الثقافي" الذي طلب مني نسخه، وقال: الله يخرب بيتك يا بو أسعد.. دا انت طلعت زبالة.. صدمتني يا نداء فيه..
- ما تزعلش يا سيدي على غالي؛ دا مش بس أبو أسعد اللي طلب الطلب ده، هناك كثييييير..
تجولت سياط الدهشة في عيني جهاد، ونزلت عليه بقسوة لتجوب نفسه، وتثقلها بخدر غير مألوف لتصحو لحظة صدق ونقاء، فيردد بقلب موجوع:
- برافو عليك يا نداء.. أنت أقوى مني؛ فأنا لا أستطيع مقاومة إغراء النساء.
فرحت لإطرائه وقلت له: الله يهديك.. إيش أخبار ست عبلة معك؟
- من زمان ما شفتها، كنها شافت حدا غيري، كل ما اروح الها بعد ما يخرج زوجها، تقول لي ألف حجة: سيعود بعد قليل، أنا خايفة.. أخي جاي هلأ، المهم أنا زهقت من كل النسوان وبدي اشتغل، أمي وابويا تمللوا مني.. إيش رأيك تشوفلي شغل عند حدا من زباينك الكتار، حتى لو كان الزفت أبا أسعد..
وعدته خيراً قبل أن يغادرني، ازداد الإقبال علي، وقرر الجميع التعامل معي على أنني فتاة مسترجلة! وأصبح لي كياني التجاري ولم أبلغ التاسعة عشرة بعد.. وتطورت الأمور وأطلق علي لقب الألي، لتعلقي بالتكنولوجيا..
كان هذا اللقب أفضل بكثير من ألقابي السابقة (سالي وسلمى وساندي بل ولينا وفلونة والمعجزة البيضاء!) جميع بطلات أفلام الكرتون التي كانت تعرض وقتها، و هو على الأقل اسم ذكوري طالما تمنيته..
ازداد دخلي، واستطعت شراء الأدوية والهرمونات الضرورية، وأن أخفف عبء شرائها عن كاهل أمي.. أما الفحوص الشهرية لمتابعة التطورات في حالتي فقد كنت أجريها في مختبرات خاصة غالية السعر؛ لعدم استطاعتي التعامل مع المختبرات الحكومية القذرة والتي كانت مجانية، ولكنها لم تكن تتمتع بأي جانب إنساني...
والمضحك في الأمر أن ضميري كان يشكوني إلى نفسي، ويلزمني بتتبع خطوات الشرف، ويمنعني من نسخ الشرائط الإباحية في حالة وجود فائض من أدويتي، والتي ما إن تنفد حتى تعود ريما لعادتها القديمة، وأرضي بتسجيل نفسي في سجل القوادين حتى أحصل على المال، لتبدأ دورة شراء الأدوية وتخزينها.
أهدتني أختي سحر وزوجها سعيد "كمبيوتر" أصبح فيما بعد عالمي الذي لا أمل الجلوس إليه، أبثه شكواي دون تذمر منه.
على الإنترنت أصبح اسمي "شمس" وكونت مجموعة خاصة لمن هم مثل حالتي؛ لأتعرف على نفسي من خلال الآخرين، ويا لهول ما وجدت!
خلال ستة أشهر التحق بالمجموعة أكثر من ستمائة شخص، يتبادلون حكاياتهم الأليمة، ومن كل البلدان العربية: سعوديين، كويتيين، لبنانيين، مصريين ومن كل الجنسيات العربية! تجرأت أكثر فكنت أدخل منتديات متعددة بعد أن أسجل في الموقع الذي أريد، وأشرح حالتي، وأتناقش فيها مع أطباء حول إمكانية تحويلي.. وكثيراً ما كنت أصدم بارتفاع تكاليف العملية، مع الكثير من المحاذير الأخلاقية المفروضة عليها في العالم العربي، كما هالني العدد الكبير الذي يعاني نفس الحالة في عالمنا العربي السعيد! وباعتبار أن هناك حالة بين كل ألف حالة، فإننا نشكل - وحسب تعداد العالم العربي – ربع مليون مشكلة؛ أي إن هناك شعباً بكامله يحتاج إلى التعاطف والشفقة والتوجيه الصحيح،لنصبح أداة فاعلة مؤثرة في المجتمعات!
آه وألف آه.. كم نختلف عنهم..!
انتسبت أون لاين لإحدى الجمعيات الأمريكية للـ "شي مال" كما يطلقون علينا، دخلت إلى منتدياتهم، وجدت المئات منهم، ولكن القليل منهم اهتم بتثقيف نفسه، وتحدى أعراض المرض؛ فأحاديثهم فارغة، وقصصهم مختصرة وسطحية وغير موجعة.. يتعايشون في مجتمعاتهم يعملون وينخرطون بحرية.. يعامَلون معاملة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتوفر لهم دولهم الدعم من كل النواحي. مشاكلهم تبدأ وتنتهي حول الجنس، والغالبية منهم تقبله المجتمع، وتآلف مع نفسه! لم ألمس جراحهم، لم أتحسس مواجعهم وكآباتهم.. لم تعاقبهم تقاليدهم على شيء لم يرتكبوه بأنفسهم.. أجسادهم غير مشتاقة للموت مثلنا.. أوطانهم لم تصلبهم فوق حوائط اللامبالاة.. ذنوبهم خارج دائرة الاتهام.. ومع ذلك، فقدوا كل الأحاسيس المرهفة، وتعاملوا بأجسادهم كسلعة تدر عليهم الأموال.
ذهلت لكثرة عدد الأعضاء المنتسبين لتلك الجمعيات، وسعدت لأني لم أكن وحيداً في هذا العالم على الرغم من عدم استطاعتي التمتع بالخدمات التي تقدمها تلك الجمعيات للمنتسبين إليها.
أما نحن العرب فمكسورون كأعشاب الخريف.. عقولنا غارقة بالظلمة والجهل.. تدور بنا عجلات الزمان وننسى من نحن، ليذكرنا الآخرون بأننا من نسل الشيطان.... محرومون من أمانينا وأصواتنا وذكرياتنا.. مقتلعون كالحرام من قلوب أحبائنا.. نخاف من خليط أصواتنا وأشكالنا.. وعند الفجر يشهد أقرب الناس لقلوبنا - وبكل فرح وارتياح - محاولاتنا الانتحار.. لأننا عار على أسرنا ومجتمعاتنا.. كيف لا توجد ولا جمعية عربية واحدة تهتم بشؤوننا، وتعمل على بنائنا وغرس الإيمان في نفوسنا، وتوجيهنا نحو جمال وثبات قيمنا لتحمينا من غوائل الزمان!؟ هذا باختصار هو حالنا..
الأرض كلها وطني.. والعشيرة عشيرتي "جبران"
ذات يوم جاءني جهاد عارضاً على الذهاب للعمل في مستعمرة "بتاح تكفا" لاحتياجهم الشديد لعمال من كل التخصصات. سألته بحدة:
- أنا أعمل عند اليهود؟ إنت جنيت!
- يا عم قول يا باسط؛ آلاف العمال من كل الجنسيات العربية يعملون هناك، عاجبك حالك هنا، والأفلام الزفت اللي بتنسخها، والله العمل في إسرائيل أشرف.
- والله معك حق يا جهاد، ولكن ماذا سأعمل هناك؟ وهل سيتقبلون شكلي ووضعي؟
- وماله وضعك يا سيدي؟ ما انت متل القرد هيك، المهم نروح بالأول وبعدين يحلها ميت حلال، صاحبي حمدان السعدان بيلهف 100 شيكل باليوم، ويمكن أكثر.
- أمي لن توافق على سفري..
- اترك أمك علي...
بالرغم من تقبلي لفكرة السفر، واطمئناني لوجود جهاد معي، كنت دوماً أخشى التغيير والوجوه الجديدة، وطوفان الأسئلة الذي سيحاصرني، واضطراري لشرح حالتي لكل من طاف بباله أن يسألني أسئلة تجاوزتها من زمن بعيد..
بعد عناء شديد ومحاولات شتى لإقناع أمي وسحر بأن أسافر للعمل في إسرائيل مع جهاد، الذي وعدها بحمايتي، وتدبير العمل والسكن معه، وافقت؛ بشرط أن أواظب على الصلاة وقراءة القرآن، وأن أزور خالاً لها يسكن تل أبيب..
وعلى الرغم من أنني كثيرا ما كنت أكذب عليها بشأن الصلاة، مؤكداً لها أنني أواظب عليها، إلا أنني بيني وبين نفسي كنت على صدود كبير بسبب عادات لبست ثوب الدين، وتفننت في إيذاء مشاعري، ولكن لسبب لا أدركه قررت فجأة المواظبة على الصلاة كما أرادت بالضبط.
ما أبعدَ الشيءَ إذا الشيءُ فُقد.. وما أقرب الشيء إذا الشيء وُجد"أبو العتاهية"
استقبلنا حمدان صديق جهاد استقبالاً حارّاً وقال: لقد رتبت كل شيء مع رافاييل مدير الصالة.. وهو سيشرح لكم طبيعة عمل كل منكما..
- ومتى سنرى هذا الزفت رافاييل؟
- لسانك هاد بده قص يا جهاد، هون الناس محترمة وبدها شغل وبس.
فجأة نظر إلى حمدان وغمز بعينه وقال: خليك حلو مثل القمر اللي بجنبك.. والله يا نداء حتصير هون في الصالة فاكهة الشباب..
ثم أكمل وكأنه لم يقل شيئاً:
- الراتب 100 شيكل لكل منكما يوميّاً، وممنوع الحكي بالسياسة.
ضحك جهاد ضحكته الصافية التي أحبها وبسرعه رد:
- يعني هاذا شكل سياسيين، ولك يازلمه أنا ما بهفم غير لغة النسوان والفلوس! وعلي رأي المثل "خلصني وخذ عباتي".
كانت صالة كلاسيكا للأفراح أكبر صالة أفراح في مستعمرة بتاح تكفا، تضم قاعتين كبيرتين تسع كل واحدة منهما خمسمائة مدعو، وكافتريا تفتح على مدار اليوم، وتقدم كل ما تشتهيه الأنفس بتخفيض خاص للعاملين فيها، كما تضم قاعة عرض سينمائي تتسع لمائتي شخص تعرض أحدث الأفلام العربية والأمريكية وحتى الهندية، خلف المبني يقوم سكن للعاملين فيها يضم عشرين غرفة بالحمام الخاص لكل منها ، مفروشة بأناقة لشخصين وبين كل سرير يفصل "بارتشن" لتحقيق الخصوصية، غالبية العاملين فيها من الشباب العربي الفلسطيني اللبناني السوري والمصري، وقلة من اليهود أتوا من مستعمرات أخرى للعمل في نظام الإضاءة..
سلمنا حمدان مفتاحين للحجرة التي ستضمني أنا وجهاد وقال: ارتاحا الآن وغداً تقابلان المعلم رفاييل ليعرفكما بقواعد الشغل.
في طريقنا للغرفة تقابلنا مع كثير من الشباب الذين ألقوا التحية علينا سريعاً، ولكن أحدهم استوقفنا سائلاً: أهلاً وسهلاً؟
ونظر إلى وقال: غريبة.. أول مره يسكنوا بنات معانا! دي أختك؟
رد جهاد الناطق الرسمي، وقد بدا الضيق في نبرات صوته: لأ يا سيدي دي بنت خالتي..
- وحتسكن ازاي لوحدها؟ دي كل أوده لاتنين، وما فيش حد بيسكن لوحده..
- ما فيش مشاكل عندنا، حنسكن سوا أنا وهي..
- هو انتم متجوزين؟
- لأ يا سيدي؛ أصحاب وحبايب. بقول لسيادتك إيه: هريتنا أسئلة: انت اسمك أيه؟
- أنا آسف اسمي، محمد عبد السلام من مصر، وبشتغل في الكافتريا..
- طيب يا سي محمد: نشوف وشك على خير مرة تانية، عشان إحنا عايزين ننام.
سأل: طيب كام رقم أودتكم؟
بتأفف شديد أجاب جهاد: 26
- أنا آسف إن كنت ضايقتكم، بس كده احنا طلعنا جيران، وحنشوفكم كتير أنا وزيدان شريكي في الأوده دايماً بنكون في وقت الراحة في صالة التلفزيون أو المكتبة إذا حبيتم.. على فكرة: نسيت أسأل حضراتكم: انتم من فين؟
- من جهنم الحمرا عن إذنك..
سحبني جهاد من يدي وأدار ظهره. سمعنا صوت محمد يلاحقنا بالسؤال: اسم أختك أيه؟
- اللي ما تتسماش يا عنيا..
فتح جهاد الغرفة، ووقفنا بانبهار لشدة نظافتها وترتيبها.. فتحنا البلكونة التي تطل على مزارع البرتقال الممتدة.. ذهلت من جمال المنظر الذي اختلط برائحة الأرض، وغامت عيني بدموعها.. جعل جهاد يردد: الله ياخدكم ياليهود..
رددت أنا: والعرب لأ؟
دخلت الغرفة وجلست على كرسي وضع أمام السرير، ضحكت بعدما سمعت جهاد وهو يبرطم: بدأنا المشاكل يا سيدي، وشكلك الحلو حيكون مشكلة يا سي نداء؟
- أنا قلت لك خليني في مكاني أحسن..
- اسكت يا راجل؛ كان عاجبك شغل القوادة اللي بتشتغله؟ على الأقل هون شغل محترم..
- مش كنا رحنا نشتغل في أراضي السلطة..؟
- شو بتقول يا سي نداء؟ عند السلطة الحرامية؟ اللي كل واحد منهم مشغل قبيلته على حساب أموال الشعب المسروقة؟ والله اشتغل عند اليهود أحسن.
- خلص.. اسكت.. مصيبة اللي تاخدهم، مثل ما أخدوا بلادنا، وبيبرطعوا فيها على كيفهم..
- ممنوع الحكي بالسياسة يا فالح، قوم خذ حمام منشان تنام أحسن لك..
فتحت شنطتي، وبدأت في ترتيب ما بها داخل خزانة صممت لتكون جزءاً من الحائط، وأمسكت بالمصحف الذي أهدتني إياه أمي وقبلته، ووضعته فوق رف في الخزانة، وعلى الكومودينو بجانب السرير وضعت صورة لي وأمي وسحر ونحن جالسون في حديقتنا.
نظرت إلى أمي وانتابتني غصة، وعضضت على شفتي حتى لا تفلت دموعي؛ فزمن البكاء فوق صدرها الحنون قد انتهى..
استلقى جهاد فوق سريره بملابسه وغط في النوم، أخذت حمامي وخرجت لأجد شخير جهاد قد علا.. نظرت إلى تقاسيم وجهه البديع، واقتربت منه حتى أريح رأسه فوق الوسادة حتى ينقطع شخيره.. حملت رأسه كقطعة من قلبي أخشى عليها، وأرحته فوق المخدة.. خلعت له حذاءه، وغطيته بروحي، وأخذت مكاني على سريري.. تساءلت بيني وبين نفسي:
هل سأنجح في العمل هنا؟ وهل المجتمع اليهودي سيتعامل بنذالة معي مثل مجتمعنا العربي؟ غرقت في بحار سود من النوم المتقطع، والكوابيس التي تدوس فوق صدري، وعاودني ثعبان كبير برأسين يلتف حول رقبتي، ويفح في وجهي قائلاً: ليس لك مكان في هذا العالم.. استيقظت مرتعباً وغادرت السرير واتجهت إلى الحمام، وفتحت الماء فوق رأسي حتى أفقت، نظرت إلى جهاد وهو ما يزال يغط في النوم وحسدته على خلو باله، خرجت إلى البلكونة أتنفس عبير الليمون والبرتقال الذي أحاط بي من كل الجهات.. وللحظات تذكرت رائحة منزلنا في بيت لحم، نظرت إلى المدينة الكبيرة بأنوارها المتناثرة هنا وهناك فاستشعرت سكونها داخل نفسي، وتعجبت من كبر هذه المستعمرة التي تعد من أقدم المستعمرات الصهيونية التي أنشئت في فلسطين، ونبشت في أرفف عقلي لتنسال المعلومات عنها أمام عيني؛ حيث ساعد جمال المناخ وخصوبة التربة المعطاءة في إنجاح الزراعة لتصبح أكبر مستعمرة تزرع العنب والحمضيات.. وبعد تحسن اقتصادها باستثمار الأموال اليهودية، وبعد أن نجحوا في زراعة مساحة كبيرة من أراضيها، زاد عدد سكانها تدريجيّاً، وامتد العمران فيها حتى تحولت إلى مدينة، وأصبحت عقدة مواصلات هامة تتصل بالمدن الرئيسية مثل كفار سابا وهرتسليا ونتانيا والخضيره وحيفا، وبالمدن الرئيسية الجنوبية مثل اللد الرملة ورحبوت وبير السبع.. أمعنت النظر، وقد دهمت جسدي المشتعل دوماً بالأسئلة لسعة من البرد: لماذا ينجحون في كل شيء، ونحن منذ سنين ينخر الفساد في أجسادنا، ومكانك سر.
كم كنت فيما مضى وعندما اقرأ عن كيفية بناء المستعمرات أعجب من سرعتهم في البناء والتطور والنمو!
بتاح تكفا التي بنيت في زمن قياسي تعتبر المستعمرة الأكبر والأهم، وفيها عدد كبير من المستشفيات والمدارس الزراعية والدينية، بجانب محطة لمراقبة الإشعاعات النووية، كما أنها أصبحت مجمعاً صناعيّاً هامّاً، وتشتهر أيضاً بمنتجاتها الزراعية المتنوعة!
شعرت بالذكريات نصلاً يخترق جلدي، ويصل إلى روحي فيمزقها.. أقفلت البلكونة وتمددت على سريري مرة أخرى في انتظار انبلاج النهار، على أنغام الشخير العالي الذي كان يصدره جهاد.. فيما يعرف بمرحلة السلام، اكتشفت أن الآلاف من الشباب العربي العاطل عن الأمل والعمل يعمل داخل إسرائيل، ويعلق آماله على الكسب هناك..
في الصباح تناولنا الإفطار داخل الكافتريا مع جموع من الشباب من مختلف الجنسيات العربية، وكانوا يلقون علينا تحية الصباح بمودة ظاهرة.. فكلنا هنا غرباء عن أنفسنا وأوطاننا. ومن المؤكد أن الكل كان يسأل نفسه: لم تقذف بنا بلادنا ليلتقطنا عدونا، ويظهر أنه أرفق بنا، ويجعلنا نكفر بفكرة خدمة الوطن والحفاظ على كرامتنا ؟!
كنت أحس بالنظرات تخترقني، مستهجنة من ملامحي، حاسدة جهاد على رفقته الجميلة.
ظهر حمدان مزلزلاً القاعة بصوته وقال:
- هه.. هادا انتو هون يا ملاعين.. صباح الخير كيفكم؟ نمتوا منيح؟
- والله أنا ما دريت بنفسي يا حمدان إلا ونداء يوقظني من أحلى نومة..
- أوكي.. هلحين بدنا نقابل رافاييل، منشان يشرح الكم شو حتشتغلوا.
ذهبنا إلى المعلم رافاييل كما يطلق عليه كل الشباب: رجل في العقد الرابع.. مهندم ببساطة.. سمرته ساحرة.. عيناه خضروان.. ملامحه بشكل عام تدل على النبل..
دعانا للجلوس، وتفحصني جيداً وبإنجليزية سليمة وتلقائية سألني:
- هل إنت خو...........؟
- لا يا معلم، أنا لست كما سألت، إنما أعاني من اختلاط الهوية فقط..
لم يبد عليه أي تأثر أو استهجان، فسأل:
- ما اسمك؟
- نداء..
- أوكي نداء.. عملك سيكون مع العملاء الذين يأتون لحجز قاعات الأفراح، وستسجل كل ما يريدون من أنواع الديكور: ألوانه.. قوائم الطعام.. الزهور، ومن ثم ستسلم القائمة للمسؤول المباشر ديفيد، الذي سيقوم بتوزيعها على من يختص بها..
- ولكن بأي لغة سنتفاهم؟
- ستجد كل اللغات.. فهناك من يتحدث العربية، وهناك من يتحدث الإنجليزية والعبرية والفرنسية وحتى الفارسية.. وعلى فكرة: رئيسك أنت وجهاد يجيد العربية، وعلى كل نحن هنا نتعامل بكل اللغات.. نهاية كل أسبوع سنعطيك 700 شيكل.. من حقك يوم إجازة في الأسبوع تحدده أنت مع المسوؤل المباشر عليك..
قام من مقعده خلف المكتب ليبدو طوله الفارع الآسر، ونظر إلى جهاد وقال:
- أما أنت يا سيد...
- جهاد معلمي..
- أوكي.. لدينا مخزن كبير تابع للقاعة فيه عدة أقسام.. ستكون مسؤولاً عن قسم مستلزمات الموائد من مفارش وأوانٍ وأكواب وصحون وملاعق وشوك.. وكل ما يخص أدوات الموائد.. سيكون لديك أسبوع دوام ليلي وأسبوع صباحي.. مسؤولك المباشر اسمه مردخاي، سيجرد معك الموجودات، وتوقع على قائمة الاستلام، وكلما خرجت قطعة عليك بتسجيلها حتى تتسلمها، وستتبادل معه الدور، وحسبما تتفقان.. عليكما بتقسيم الدوام بينكما، وتحديد الإجازة الأسبوعية لكل منكما..
نطق حمدان أخيراً بالعبرية التي يجيدها وسأل: آخذهم هلأ يشوفوا المكان، ويتعرفوا على الشباب ويبدؤن اليوم؟
عرفت فيما بعد أن حمدان يعمل كوسيط بينهم وبين الشباب الفلسطيني الذي يقنعه بالعمل في إسرائيل، ويأخذ على كل رأس يأتي به 300 شيكل، كما أنه يقوم بأعمال الصيانة الصحية للقاعة فهو سباك ماهر..
وجدت تقبلاً كبيراً لشكلي، ولم ينظر لي أحدهم باستهجان، كما كانوا يفعلون عندما كنت أتمشى داخل بلدتنا، وفي كل خطوة أخطوها فوق أرض وطني، وكأني كائن فضائي غزا الأرض... واكتشفت الفرق بين الحديث عن الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي... التعامل داخل إسرائيل يختلف كليّاً للأسف عن طريقة التعامل في الشأن السياسي الصلف التي اعتدنا عليه من زعماء الصهاينة الذين يعيشون على قتل إخوتنا وأحبابنا، وعلى خداعنا.
بحكم عملي تعرفت على نساء ورجال كثيرين من اليهود، منهم الحقير المتعصب، ومنهم المسالم الطيب..كما تعرفت على الكثيرين من عرب الـ 48...
استطعت في فترة وجيزة أن أحقق نجاحاً في عملي، وأن أتقن اللغة العبرية.. كانت تقارير العمل التي يرفعها ديفيد عني لرافاييل ممتازة؛ حتى إنني تسلمت رسالة شكر من الإدارة، وزيادة في الراتب بعد مرور ستة أشهر من بداية عملي..
كنت كل جمعة عندما أذهب لأمي أضع في يدها 500 شيكل، وأصرف المبلغ المتبقي في شراء بعض الأدوية البديلة أو أي شيء آخر..
وكانت أمي تقوم بتوفير المبلغ لي حتى إذا احتجته آخذه منها.. وقد استقر رأيي بيني وبين نفسي بأن أجري عملية التغيير حتى أصبح أنثى غير كاملة، ولكن على الأقل التي أريدها وأن أكونها..
أوصاني ديفيد بعد أن قصصت عليه قصتي بالذهاب إلى عيادة الدكتور حاييم المتخصص في أمراض العقم والذكورة في نفس المستعمرة، والمشهور جداً في عمليات التحويل..
استقبلني الدكتور حاييم بدفء ومودة شديدة، رابتاً على كتفي.. سلمته كل نتائج الفحوصات التي قمت بها في السابق، ووصفات الهرمونات والبدائل التي أتناولها حتى الآن..
تفحص كل شيء بأناة وهدوء، وكأني المريض الوحيد الذي يزوره؛ رغم ازدحام العيادة..
سألني: لماذا وقع اختيارك على الهرمونات الذكرية، وليس العكس؟
- إنها قصة طويلة يا دكتور، فهذا الاختيار هو اختيار أبي وأمي والجيران والأصحاب وكل البشر، ما عداي.
ابتسم الدكتور وقال: أنتم العرب تحبون الأولاد أكثر، وعلى كلٍّ سنجري فحوصات جديدة الآن لمعرفة مستوى التستيرون، ثم ستبدأ برنامجاً تأهيليّاً لمدة عام، قبل إجراء العملية، حيث سيكون اختلاطك بالنساء والبنات أكثر، كما أنك سترتدي ملابسهن، ولك استشارة نفسية أسبوعية لمدة عام..
- واين سأجري العملية؟
- في مستشفي هداسا..
- هل أجريت تلك العملية كثيراً دكتور؟
- أعتقد بأنك تعلم أن كل حالة من ألف حالة لا بد وأن تكون كثيرة. وعلى كل فلقد أجريت العملية لاثنتين وعشرين حالة وبنجاح..
- وكم تكلفتها تقريباً؟
- 75ألف دولار، شاملة كل شيء، ما عدا البرنامج التأهيلي الذي تدفع الدولة الإسرائيلية مصروفاته كاملة تبرعاً منها..
- ألا توجد جهة تجري تلك العملية مجاناً..
- نعم.. هناك الجمعية الإسرائيلية لفاقدي الهوية أو للـ "شي مال" فإذا كنت منتسباً لها فستقوم بها على نفقتها..
صدمني المبلغ فشكرت الطبيب، وقررت بيني وبين نفسي أن أنسى الأمر لحين ميسرة، وألا أخبر أحداً - حتى جهاد - وسألت الدكتور حاييم إذا كان يسمح لي أن أتصل به للاستشارة في أي أمر يجد على حالتي، فرحب تماماً وقال لي:
أنا أقدر حالتك وصعوبتها؛ لأن اختيار الهرمونات الذكرية من البداية كان خطأً، ولكن على أية حال سأقرر لك علاجاً جديداً، بعد أن تجري التحاليل التي أشرت إليها، وأهلا بك في أي وقت..
لم أكن التقي بجهاد نظراً لتعارض أوقات الدوام إلا يوم الإجازة، والتي اتفقنا على أن تكون في اليوم نفسه؛ حتى نستطيع أن نقطع "السيجر" أو الحاجز مبكراً؛ لنقضي اليوم كاملاً في أحضان أرضنا وعائلتنا..
كنا محسودين من جميع الشباب الذي لا يستطيع العودة إلى بلاده إلا بعد مرور عام أو أكثر؛ نظراً لغلاء تذاكر السفر، وبعد المسافة..
كنت ذات يوم أغط في نومي بمفردي عندما صحوت على دقات متتالية على الباب.. كان من الواضح إصرار صاحبها على إيقاظي.. قمت ومن خلف الباب سألت: من؟
سمعت صوت ديفيد هامساً: أنا..
فتحت الباب فدخل وأسرع بإغلاق الباب..
قلت له: ماذا حدث؟
وبعربيته الركيكة قال: أنا أهبك يا نداء..
ديفيد جيلدمان رجل يختصر المسافات، ويصل سريعاً إلى قلوب من حوله، بضحكته الرائقة.. يعيش بمفرده في المستعمرة، بعد أن ماتت زوجته بسرطان الرئة.. لا يبدو أبداً في السادسة والثلاثين من عمره.. شعره الأشقر الكثيف يعطيه سحراً خاصّاً، مع جبينه الضيق، وعينيه اللوزيتين المبتسمتين، واللتين تجعلانك لا تخشي الهبوط فيهما بسلام.. درس هندسة الديكور في واشنطن حيث ولد.. كان وحيد أبويه.. بعد وفاة أمه قرر والده أن يهجر كل أمريكا لأنها دوًما تذكره بزوجته.. أراد أن يموت في أرض السلام! فسأل ديفيد أن يصطحبه.. وافق ديفيد على أن يأتي إلى فلسطين.. استقر ووالده في بتاح تكفا، ولم يغادرها عائداً إلى أمريكا بعد أن مات والده هو الآخر.. تعرف ديفيد على زوجته سافيون، وتزوجها، لكنها لم تعش طويلاً بسبب مرضها.
من خلال حديثه فهمت أنه يريدني بشدة، ويفكر في ليل نهار. وحتى لا يموت جسده من الوحدة كان يريد أن ينقذه بي، بعد أن مل الساقطات من كل الجنسيات، واللاتي تزخر بهن إسرائيل.. كما أنه يريد تجربة شيء جديد!
واجهته بالرفض القاطع، ولكنه لم ييأس، ونزل على ركبتيه أمامي وسأل:
- ألأنني يهودي؟
- ليس للأمر شأن بكونك يهوديّاً أو غيره.. ولكني فقط لا أستطيع..
- لماذا؟ هل أنت مرتبط؟
- كيف أكون مرتبطاً، وحالتي أنت تعرفها بالتفصيل؟
- أولست على علاقة بجهاد؟
- لا.. إذن فلأنني يهودي؛ أنا أعلم بأنكم تكرهونا، ولكني من جماعة السلام.. وأنت تعلم........
حاول ديفيد تقبيلي بقوة فأزحته عن طريقي، مهدداً إياه بإبلاغ رافاييل، بينما كانت أنفاسه الحارة تشعل وجهي..
ابتعد عني لاهثاً وقال: أوكي.. دعني فقط ألمس صدرك؛ فهو يثيرني جدّاً.
- ديفيد: أريد أن أنام..
- من فضلك يا نداء: لا تكسر قلبي.. لا تنس تقاريري الممتازة التي أكتبها عنك..
- لا تكتب تقارير ممتازة بعد اليوم؛ إن كنت لا أستحقها..
- هل تريدني أن أكون أبله، وأصدق أنك لا تعاشر جهاداً؟!
- ديفيد: أرجوك؛ أريد أن أنام، فلدي عمل كثير غداً..
- كيف تطيق أن تحيا بلا حياة....؟
وفجأة وسط دموعي التي لم أستطع أن أمسكها وجدتني أقول:
ومن قال لك يا ديفيد إني حي؟ إنني كل يوم أموت ألف مرة، أموت من أمثالك، من شكلي من نظرات الاستهجان لدى رؤيتي، من حيرتي فيمن أكون.. من فقري، من ضعفي وقلة حيلتي، من غربتي وعزلتي التي أتعمدها حتى لا أختلط بأحد.. عدم فهمي لحكمة ربي في خلقي هكذا، أموت من كل شيء وأي شيء!
رأيت الهلع والدهشة تحط فوق ملامحه، وكأنه استيقظ من غيبوبة ليرى من حوله.. وفجأة قام وأوقفني مقابله، ورفع عيني أمام وجهه، ولف ذراعيه القويتين حولي، ضمني برفق، شعرت بأصابعه الدافئة تلمس جلدة رأسي، وتمتم: أنا آسف يا نداء، اعذرني من فضلك.
الغريب في الأمر أنني استكنت لحضنه الصادق، وللحظات شعرت باستكانة الأنثى داخلي، وحاجتها لدفء تنثره في أجوائها، تغذي فيه روحها الظمأى من سنين وسنين..
لم يستغل ديفيد لحظات ضعفي على الرغم من وضوح تقبل جسدي لحضنه الدافئ، ولكنه قبلني قبلة من شفتيه الرطبتين والمتحفزتين للاستسلام لشفتين أخريين فوق جبيني وقال: اعتبرني صديقا لك.. أنا آسف.. وانسحب بهدوء..
لم يغمض لي جفن وأنا أستشعر اللحظات الدافئة التي غبت فيها بين أحضان ديفيد، وكيف غدا جسدي قطعة من نار، وأنا لا أدري تحديداً أيهما فيّ الذي استثير: هل هي الأنثى أم هو الرجل؟!
غزا نور الفجر مساحة كبيرة من غرفتي، وحين عاد جهاد من نوبته الليلية تعجب من أنني لا أزال فوق السرير، وآثار البكاء واضحة على وجهي.
- نداء شو صار؟ انت تعبان ؟
حاولت أن أخفي ما حدث فقلت له: قول صباح الخير بالأول.
- ما هادي أول مرة أشوفك بعد مناوبتي الليلية، شو القصة تعبان، ولا شيء؟
ولست أدري أيضاً لم قصصت عليه ما دار بيني وبين ديفيد..
رفع حاجبيه متعجباً وقال: بالله عليك هادا اللي صار؟
- إنت تعرف إني ما بكذب؟
- والله لأنزل أكسر لك راسه هادا الشاذ..
- اسكت يا جهاد؛ ليش إنت دايماً عصبي هيك.. خلص.. ما في مشكله، والرجل احترم رفضي..
- غريبة يا أخي ليش الشذوذ منتشر كتير هالأيام؟ يقطعهم قول آمين!! بس أنا مش عارف شو بيعجبهم فيك؟ أوكي وجهك حلو، بس يا أخي ما فيك لحم.. وكتير ضعيف، وحتى صدرك إذا كانوا بيهتموا بالصدر كمشة يد.. يخرب بيتهم شو بهايم! والله لو إنت آخر واحد في الكون ما باجي جنبك.
نظرت إليه وتمليت وجهه الوسيم، وحزنت على نفسي وتساءلت: كأني خرافة تصحو وتقوم.. من أكون؟
لاحظ جهاد حزني فقال: يا أخي أنا بموت في النسوان وبس.. أوعك تزعل مني.. إنت عارف أنا أديش بحبك.. ولو عاوزني إنزل أكسرلك راس ديفيد الآن بنزل.. وبعدين بدناش هالشغل.. بنروح نشتغل في مكان تاني.
وفجأة فرقع ضحكة عالية وقال: هههههههه.. الله يخرب بيتك يا ديفيد.. دا النسوان في إسرائيل ما فيش أجمل منهم.. ولا اكتر منهم..
- وإيش اللي عرفك يا سيدي..
- بعدين بقولك بدي أنام هالحين..
قبل أن أنزل للعمل تندر جهاد كثيراً على ديفيد.. تركته لينام وخرجت.. عندما قابلت ديفيد كنت أظن بأن رفضي له سيغير من طريقة معاملته لي، ولكنه همس: أنت الآن في العمل؛ عليك بنسيان كل ما دار بيننا..
التعليقات (0)