لبناني يقود البشرية الى غزو المريخ
أجرى الحوار : مجدي سعد
الحديث عن شارل العشي هو كالحديث عن " رئيس كوكب الأرض " اذا جاز التعبير . فمن غيره يستطيع أن يختصر طموحات كل شعوب الأرض بغزو الفضاء، واقامة المستعمرات على القمر أو المريخ . ومن غيره يمتلك أجندة حافلة بالمهمات التي تمتد من أطراف الهالة الشمسية الى أقصى أطراف النظام الشمسي في مدار كوكب " بلوتو " .
والكلام عنه هو بالضرورة كلام عن المستقبل حتى ولو تناولت تاريخه الشخصي والمهني . فالعشي عندما تسلّمَ قيادة أرقى مجمّع علمي على وجه الأرض، مختبر الدفع النفاث JPL التابع لوكالة الفضاء الأميركية الناسا - NASA ، كان يدرك أن الطريقة الوحيدة لضخّ الحماس في أوساط الخمسة آلاف من العاملين في المختبر، هي بجعل أنظارهم تتجه الى الغد ...
وجاء الغد، وفاجأ العشي العالم بنجاحه الباهر في كسر معادلة 1/3 (نسبة نجاح مهمات إستكشاف المريخ) ، حين نجح في وضع المركبتين سبيريت Spirit وأبورتشينيتي Opportunity على سطح الكوكب " المنحوس " لتصبح معادلة النجاح معه 2/2 . وعندما تعتقد انك نلت كفايتك من الدهشة التي تضخّها وكالات الأنباء العالمية إذ تعدد نجاحات العشي على المريخ .. تسكنك الدهشة وترفض المغادرة، عندما تدرك أن مركبة " كاسيني"، أول مركبة فضائية في التاريخ تستمد طاقتها من مفاعل نووي، تحمل رادارا ً لسبر أغوار الطبقات الغازية في غلاف كوكب زحل من تصميم شارل العشي . وكأن هذا الرجل ...كوكب بأكمله . لا يكتفي من طرح الأسئلة، ولا يبخل في تقديم الأجوبة .. الأجوبة عن أسئلة عمرها من عمر البشرية .
من أين قدمنا... الى أين نحن ذاهبون.. ماذا جئنا نفعل في هذا الكون؟!
شارل العشي عرف باكرا ً ماذا جاء يفعل ... يوم كان شارل الطفل يستلقي على ظهره في أمسيات بلدته " رياق" في سهل البقاع اللبناني محدقا ً بالنجوم ... مسترسلا ً في أحلامه ببناء المركبات وغزو الكواكب والدخول في ألغاز عتمة الليل، ساعيا ً وراء الأجوبة الصعبة!
الفصل الأول في حياة العشي بدأ في لبنان كطالب متفوق في مواد العلوم ( الأول على مستوى الجمهورية )، ليبدأ الفصل الثاني بالحصول على البكالوريوس في الفيزياء من جامعة غرينوبل والدبلوم في الهندسة من معهد البوليتكنيك .
بعدها سافر العشي الى الولايات المتحدة الأميركية وبدأ الفصل الثالث من حياته الأكاديمية حيث يسدل الستار عليه بعد الحصول على درجة الدكتوراة في العلوم الكهربائية من معهد كاليفورنيا للتكنلوجيا Caltech .
ويبدأ الفصل الرابع.. والمستمر .
طيلة 30 عاما ً والعشي يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنلوجيا Caltech في مختبر الدفع النفاث Jet Propulsion Laboratory ، و هوالذي يقوم بالأبحاث لصالح وكالة الفضاء الأميركية الناسا - NASA .
قام بتدريس مادة " فيزياء الإستشعار عن بعد " وشارك في مهمات علمية مختلفة ساهمت في توسيع آفاق العلم ودفع مسيرة إستكشاف النظام الشمسي الى الأمام .
وجاء اليوم الموعود . اصبح شارل العشي مديرا ً لمختبر الدفع النفاث JPL في العام 2001 . وفي هذا قال دايفيد بالتيمور David Baltimore رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا Caltech " إن لشارل سجلا ً حافلا ً بالانجازات طيلة الثلاثين سنة الماضية . ولطالما كان قائدا ً في مجال إستكشاف الكواكب" . وقال عنه مدير وكالة الفضاء الأميركية آنذاك دان غولدين Dan Goldin " بالاضافة الى كون شارل العشي مسؤولا عن مهمات مختبر الدفع النفاث JPL في إستكشاف النظام الشمسي، وعلوم الأرض، والفيزياء الفلكية، وكما ساهم أيضا ً في وضع أُسس إستراتيجيات الإستكشاف التي سنعتمدها في العقود المقبلة ..." وهو إداري فعّال وصاحب رؤية " .
وعند تسلّمه لمهماته قال العشي " لأكثر من 40 سنة كان لمختبر الدفع النفاث تقليد بإمتياز كمركز للناسا وكقسم من أقسام معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وأنا أنوي الاستمرار في هذا التقليد، لاستكشاف نظامنا الشمسي، وفهم نشوء المجرّات، واستخدام هذه المعرفة لفهم أفضل للتغيرات التي تطرأ على كوكبنا الأرضي " .
قائد وصاحب رؤية
عندما تسلّم العشي قيادة مختبر الدفع النفاث JPL لم تكن الامور بالشكل المطلوب لمركز علمي تقع على عاتقه قيادة مشاريع الفضاء الكبيرة . فخفض الميزانيات، وهجرة العقول، والفشل الذي أصاب مهمات إستكشاف المريخ عام 1999 وضعت المختبر على مفترق طرق صعب .
وأصبح هناك حاجة ماسة الى إدارة جديدة ورؤية جديدة تعيد وضع المختبر على طريق الإبداع والإختراع . وفي هذا قال توم كريميغز من جامعة جون هوبكنز عن الحاجة لخوض المخاطر " إذا توقفنا عن المخاطرة فإننا أشبه ما نكون بالأموات " .
المخاطرة والادارة الجريئة ميزّت عمل العشي طيلة السنتين الماضيتين . ولولا ذلك لما نجح في فترة قياسية بإيصال مركبتين الى سطح المريخ، علما ً أن مهمة كهذه تحتاج الى4 - 5 سنوات من الإعداد .
ولإشراك كل العاملين في المختبر بالروح الإستكشافية طلب العشي من علماء و مهندسي المختبر إلقاء محاضرات لكل العاملين في أقسام المختبر عن مشاريعهم الإستكشافية الفضائية .ووضع أمام نصب أعين الجميع هدفاً كبيراً و هو :"البحث عن حياة في النظام الشمسي و في أنحاء المجرة حول نجوم اخرى". و عن هذا يقول العشي : "إن فهم الحياة و طريقة تطورها في الكون هو الهدف الذي يجمع العاملين في مختبر الدفع النفاث ".
و لانجاز المهمات الكبيرة التي تقع على عاتقه يقول العشي :" ان عملنا في مختبر الدفع النفاث هو توسيع الحدود ،و اختيار المهمات الصعبة التي تصل الى أطراف المستحيل ".
و نحن في "علم و عالم " بعد ان حاورنا الدكتور فاروق الباز ، العربي الذي اختار موقع الهبوط على سطح القمر ، توجهنا بالحوار الى د.شارل العشي Dr. Charles Elachi محاولين معه تقديم العقول العربية الجميلة للجمهور العربي على صفحات مجلتنا ... نستطلع المستقبل و ربما نزرع بذور الرؤية .
س : بعد النجاح الكبير الذي حققه جوال المريخ أوبورتشينيتي Opportunity في إثبات وجود الماء في فترات سابقة على سطح المريخ .كيف سيؤثر هذا الإكتشاف على المهمات التي ستتناول الكوكب الأحمر في السنوات القادمة ؟
ج: نحن نخطط لمهام استكشافية دورية للمريخ كل حوالي 26 شهراً، اي عندما يكون المريخ و الأرض في أقرب مسافة نسبية من بعضهما البعض . و نصمم المهمة بطريقة تسمح بتكييفها و تعديلها بالشكل الذي يناسب اي إكتشاف يسبق إطلاقها .
و عادة نبدأ بالتحضير لأي مهمة قبل 4 أو 5 سنوات من موعدها . فمهمة العام 2005 بدأ العمل عليها منذ سنتين ، لكننا و بعد الإكتشافات الأخيرة التي حققناها ،سيكون بمستطاعنا تحديد المناطق المنوي استكشافها بشكل أدق .
فالمناطق التي يستكشفها الجوال سبيريت أو الجوال أوبورتشينيتي الآن سيتم التركيز عليها في مهمة العام 2005 . و هذه المهمة ستشتمل على وضع مركبة مدارية حول الكوكب الأحمر مجهزة بنظام تصوير فائق الدقة High Resolution Imaging system ،و مقياس للطيف Spectrometer .
و المقياس الطيفي عندما يراقب المناطق التي يدرسها الجوالان الحاليين سيمدنا بالمعلومات التي سنعمل على مقارنتها بمعلومات الجوالين . هكذا يصبح لدينا فهماً أدق للقراءات التي يمدنا بها جهاز مقياس الطيف .
بعد ذلك سنبحث عن مناطق تحمل " البصمة الطيفية Spectral Signature " الشبيهة بالبصمة الطيفية للمناطق التي يتواجد فيها الجوالان الآن ، حتى نقوم بمسح أوسع لتحديد كم كانت كمية الماء في المناطق التي لم نهبط عليها بعد .
و نخطط في العام 2007 لإرسال مركبة للهبوط في القطب الشمالي للمريخ حيث نعرف أنه يوجد غطاء جليدي . و سنرسل في العام 2009 جوالاً أكثر قدرة من الجوالين الحاليين ، و سيكون بمقدوره التجول على مساحات أكبر .
س: هذا الجوال في العام 2009 اطلقتم عليه إسم " مختبر المريخ العلميMars Science Laboratory " صحيح ؟
ج : نعم هذا صحيح . و بعد أن يجد هذا المختبر عينات من الماء ، سيكون من المهم جلب هذه العينات الى الأرض . و أعتقد أن هذا سيتم في العام 2013 .
س: متى تعتقد انه سيكون بالامكان وضع بشر على سطح المريخ ؟
ج: أُخمّن أن هذا سيحدث بعد 20 أو 25 سنة من الآن لأسباب عدة . فنحن بحاجة أن نذكّر الناس أن المريخ كوكب كبير فمساحته تقارب مساحة اليابسة على كوكب الأرض . لذلك علينا أن نقوم باستكشاف آلي " روبوطي -Robotic " واسع النطاق حتى يكون بامكاننا تحديد أفضل الأمكنة التي سنرسل اليها المستكشفين البشر .
فإرسال البشر الى المريخ مكلف جداً و علينا معرفة المناطق المهمة جداً من الناحية العلمية و التي سنرسل البشر اليها .
التحدي الثاني هو تقني و هندسي Engineering Challenges لذلك اذا كان علي التخمين عن موعد مهمة بشرية الى المريخ فسيكون ذلك بعد 20 أو 25 سنة من اليوم .
س : كيف سيساعد إقامة "قاعدة على سطح القمر "مهمة إرسال البشر الى سطح المريخ ؟
ج: ستساعدنا من الناحية التقنية حيث سنختبر تقنيات جديدة ، و نختبر عمل بعض المعدات التي قد تستخرج الاوكسيجين من التربة ، كما ستسمح لنا بفهم أفضل لكيفية حياة الرواد في محيط يتمتع بجاذبية أقل من جاذبية الأرض .
فارسال البشر الى المريخ شبيه بالماراتون . فقبل الاشتراك بسباق طويل كالماراتون عليك ان تركض مسافة قليلة ثم تزيد المسافة شيئاً فشيئاً . هكذا ننظر الى تجربتنا على القمر التي ستحضّرنا للمهمة الأكبر على المريخ .
س: انت تعتبر اكتشاف حياة خارج كوكب الأرض هو من المواضيع المهمة جداً و التي تعطي العاملين في مختبر الدفع النفاث JPL إحساساً بوجود هدف ما و معنى ما ...
هذا صحيح ، لأننا إذا إكتشفنا حياة أو إذا أصبح لدينا فهماً أفضل للحياة في نظامنا الشمسي أو حتى في أنظمة شمسية أخرى حول بعض النجوم القريبة منّا ، فسيكون ذلك أهم إكتشاف في الألف سنة القادمة .
و هذا سيضع دورنا في الكون في إطار مختلف عن الاطار الذي نعيش فيه الآن .
س:تقترب الآن مركبة كاسيني Cassini من كوكب زحل و نحن نعرف أنها تحمل راداراً متطوراً من تصميمك أنت . هل تعتقد أن كاسيني ستكتشف شيئاً مثيراً أكثر من الذي إكتشفته المهمات السابقة الى كوكب زحل ؟
ج: كل مرٍّة نذهب فيها الى كوكب جديد أو جسم جديد في النظام الشمسي نجد شيئاً جديداً يفاجئنا .و في مهمة كاسيني نتوقع ان نجد أشياء جديدة على تيتان Titan و هو أحد أقمار كوكب زحل .
فهو قمر مغطى كلياً بطبقة من الضباب و هناك الكثير من التخمينات و النظريات عن الذي سنجده هناك . فقد نجد على السطح أنهاراً أو ربما محيطات من الميثان Methane .
و هذه ستكون المرة الأولى التي نكتشف بها عالماً جديداً كتيتان .عندها تستطيع ان تتصور الإثارة التي سترافق محاولة الاكتشاف هذه ، و نحن نحاول ان نفهم الظواهر المختلفة على سطحه .
و تيتان مثير للاهتمام بشكل خاص لانه يمتلك غلافاً جوياً يقترب بكثافته من الغلاف الجوي لكوكب الأرض . كما يوجد مواد عضوية Organic Material في هذا الغلاف .
لذلك يعتقد بعض العلماء ان تيتان يمتلك بيئة تسبق نشوء البيئة البيولوجية Prebiotic Environment ، و هذه البيئة قد تكون شبيهة ببيئة الأرض الباكرة ( منذ بضعة مليارات من السنين ) قبل نشوء الحياة عليها . لذلك تجد ان تيتان ينال إهتماماً خاصاً من الوسط العلمي .
س: حسناً ،لن أكثر عليك الأسئلة فانت رجل كثير الانشغال ... ما هي رسالتك الى الطلاب في لبنان و العالم العربي ؟
ج: الرسالة الرئيسية التي أنقلها دائماً الى الجيل الجديد هي "إذا عملتم بجد فان كل شيء ممكن " . فالجيل الجديد بعيد عن هموم الحياة اليومية و بالتالي لديه فسحة للأحلام .و علينا تغذية هذه الأحلام ...و دائماً أُقدم نفسي لهم كمثال على شخص كان لديه حلم و عمل جاهداً لتحقيقه .
أنا نشأت في سهل البقاع اللبناني ... و لو أني قلت للناس أنه سيأتي يوم أصبح فيه مديراً لمختبر الدفع النفاث لسخر مني الناس وقتها . لكن عندما تزاوج الحلم بالعمل الجاد فان كل شيء أصبح ممكناً .
التعليقات (0)